الخميس 21 نوفمبر / November 2024

صناعة العملاء لحساب الموساد.. كيف تصطاد إسرائيل فرائسها؟

صناعة العملاء لحساب الموساد.. كيف تصطاد إسرائيل فرائسها؟

شارك القصة

يعمل الموساد وفق خطة محكمة في صناعته لشبكات التجسس تحت غطاء مؤسسات رسمية، حيث يسمح هذا الغطاء بالتسلل إلى العناصر المستهدفة دون أن يثير الشكوك.

وجهت الاستخبارات التركية يوم 21 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، صفعة جديدة للمخابرات الإسرائيلية عبر عملية أمنية متزامنة في 4 ولايات فككت خلالها 5 شبكات للتجسس واسعة، ضمت في صفوفها 15 عنصرًا يعملون لصالح جهاز الموساد الإسرائيلي.

لكن المفاجأة الأكبر في تلك العملية هي عدم وجود أي إسرائيلي ضمن الشبكة المفككة، بل إن أغلب العناصر المتورطة كانوا شبانًا من جنسيات عربية مختلفة جمعهم هدف واحد وهو التجسس على الطلاب الذين يدرسون في الجامعات التركية، وتحديدًا أولئك الذين يدرسون في مجال الصناعات الدفاعية.

جمعت الشبكة كثيرًا من المعلومات، ثم حوّلتها إلى تقارير استخباراتية في ملفات، وأرسلت سرًا إلى مسؤولي جهاز الموساد في الخارج باستخدام برامج التشفير على الإنترنت.

قابلت إسرائيل الزلزال الاستخباراتي بالصمت، لكن بعد شهر واحد على العملية المدوية، خرجت بتصريح وحيد على لسان عضو الكنيست الإسرائيلي رام بني باراك قال فيه: إنّ "إسرائيل لا علاقة لها بهذه الشبكة من قريب أو بعيد".

صناعة عملاء جدد

وما بين الرواية التركية والنفي الإسرائيلي الكثير من الكواليس والأسئلة التي هي بحاجة إلى إجابات، يكشفها تحقيق "العربي" من خلال تتبع مسار زرع الموساد الإسرائيلي لعملائه، خصوصًا على الأراضي التركية التي شهدت نشاطًا استخباراتيًا مكثفًا خلال الآونة الأخيرة.

وفي إطار عمل فريق "العربي" على هذا الملف، وبالبحث في التفاصيل، كان عليه العودة إلى تحقيق منشور عام 2019 في صحيفة "العربي الجديد" تحت عنوان "هكذا يستهدف "الموساد" فلسطينيي الخارج في دول أوروبية".

ويتبع التحقيق الطرق التي يسلكها الموساد في صناعته للعملاء الجدد والتي تعتمد بالأساس على استهداف العرب وخصوصًا الفلسطينيين وتوريطهم تدريجيًا إلى أن يصبحوا "عملاء للموساد".

ويرى الصحافي في جريدة "صباح" التركية فرحات أونولو أنّ "هناك العديد من الطرق التي يعمل من خلالها الموساد الإسرائيلي في عمليات الاستدراج إما بالمال أو بطرق أخرى مثل التهديد".

ويعتبر أونولو في حديث إلى "العربي"، أنه "بمثل هذه الطرق تستطيع الأجهزة الاستخباراتية تحويلهم إلى عناصر تسيطر عليهم لتنفيذ عملياتها"، لافتًا إلى أن استهداف إسطنبول يعود إلى وجود الجالية العربية الكبيرة.

ويشير إلى أن "إسطنبول، التي تعد مركزًا للمعارضين لإسرائيل، كانت بمثابة مركز العمليات الاستخباراتية لاحتوائها أيضًا على جامعات تفتح المجال للمنتسبين لها للدخول في مجال الصناعات الدفاعية".

أما الخبير الأمني كاظم دلكيران فيرى أن "الأجهزة الأمنية عملت على خداع هؤلاء الشباب المتورطين بعمليات تجسس داخل تركيا" وذلك عبر حديثها لهم بأنها "لا تضر تركيا بالتحديد، لكنها تهدف إلى جمع معلومات عن الشباب العربي الموجود على أراضيها".

ويعتبر في حديثه إلى "العربي"، أن هذا الأمر "يجعل من السهل عليها إقناع الشباب بذلك، كما أنه يهدف إلى تنفيذ هذه العمليات داخل الأراضي التركية لخلق حالة تذبذب بين هؤلاء الشباب والشعب التركي في نفس الوقت".

خطة إسرائيلية لصناعة شبكات التجسس

ويروي مراسل "العربي" الصحافي معاذ حامد، الذي وثق تحقيقه جزءًا من هذه العملية، كما رصد العديد من الحالات التي استهدفها الموساد، كيفية عمل الجهاز الاستخباراتي الإسرائيلي.

ويقول حامد: إنّ هناك العديد من النماذج التي تعرضت لمحاولات التجنيد الإسرائيلية عن طريق أسماء وهمية، إحدى هذه النماذج كانت في تركيا حيث بدأت في أبريل/ نيسان عام 2018 عملية التواصل معها من خلال موقع LinkedIn عبر عرض عمل".

ويضيف: أنه طُلب من الشخص المستهدف تصوير مناطق من ضمنها جامع في إسطنبول، حيث كان الأمر يثير الشبهات عن طريق عمليات تحويل الأموال المختلفة من منطقتين، مرة من رومانيا ومرة أخرى من جورجيا.

يعمل الموساد وفق خطة محكمة في صناعته لهذه الشبكات تحت غطاء مؤسسات وشركات رسمية في دول أوروبية مختلفة. ويسمح هذا الغطاء للموساد بالتسلل إلى العناصر المستهدفة خصوصًا في تركيا دون أن يثير الشكوك.

أموال مقابل المعلومات

بحسب المخابرات التركية، تبين أن العملاء الذين تم القبض عليهم قد التقوا مسؤولي الموساد الإسرائيلي في عدة مدن أوروبية، وليس في إسرائيل؛ حتى لا يتم كشفهم.

ووفقًا للتقارير الأمنية التركية فإن الشاب الذي يرمز إليه بـ (أ. ز) قد أفاد بأن "عميل الموساد طلب منه الحصول على معلومات حول المنظمات غير الحكومية الفلسطينية العاملة في تركيا".

وأوضح الشاب أن "عميل الموساد أبلغه بأن لديه شركة في ألمانيا. ومن أجل التواصل مده بحسابه على Protonmail".

وتلقى المتهم الآلاف من اليورو من المسؤول في الموساد الذي يدعّي أنه من الاتحاد الأوروبي مقابل ملفات مختلفة بحلول بداية عام 2020. كما أنه تلقى آلاف الدولارات مقابل معلومات قدمها عن جمعية تعمل في إسطنبول.

وبحسب التقارير الأمنية التركية، فقد تحدث المتهم أيضًا عن ذهابه مرة أخرى إلى زيورخ في سويسرا في أغسطس/ آب الماضي حيث التقى شخصًا يدعى "جون".

وأوضح المتهم أنه اشتبه بأنهم ضباط مخابرات في حينها، حيث قال له مسؤول الموساد: "يمكنك اعتبارنا منظمة تشبه الاستخبارات، مكلفة بإجراء أبحاث لمؤسسات تابعة للاتحاد الأوروبي". وتبين أن المتهم تلقى ما يقارب 10 آلاف دولار من مسؤولي الموساد في الثلاث سنوات.

العرب مستهدفون في تركيا

ووفق تقرير المخابرات التركية، فإن العميل الذي يشار إليه بـ(ر.أ.أ) والذي يبلغ من العمر 46 عامًا، قد تجسس على الجهات المستهدفة وهو مرتبط بالموساد منذ عام 2000 واستلم 400 دولار أميركي لقاء كل مقابلة كان يزور فيها القنصلية الإسرائيلية في إسطنبول.

وتشير التقديرات إلى أن عدد العرب المقيمين الآن في تركيا يبلغ نحو خمسة ملايين نسمة، ما يشكل 6% من إجمالي السكان، فيما يبلغ عدد الفلسطينيين هناك ما بين 20 و22 ألف فلسطيني يقيم نصفهم تقريبًا في إسطنبول وحدها.

وتمثل هذه الأرقام طرف الخيط في هذا الملف الشائك، فهي تفتح شهية الموساد لتجنيد مزيد من العملاء وزرعهم في تركيا لاستهدافها فيما بعد بعمليات استخباراتية، في القلب منها الفلسطينيون المقيمون على أراضيها.

وحصل فريق "العربي" على تسجيل صوتي لمحاولة تجنيد تتم لأحد الشباب الفلسطينيين المقيمين على الأراضي التركية، حيث حاول الفريق تتبع المكالمة والاتصال بالرقم أكثر من مرة، لكن دون الحصول على جواب.

ووفق التسجيل الصوتي فإن الموساد يستخدم أشخاصًا تتوافر فيهم صفات محددة أهمها الحاجة إلى المال ومن هنا تبدأ أولى خطوات عملية صناعة العملاء الجدد.

عمل وكالة الاستخبارات التركية

شهدت السنوات الأخيرة تصدُّر وكالة الاستخبارات الوطنية التركية (MİT) المشهد المحلي والدولي بعد نجاحها في العديد من العمليات الاستخباراتية الدقيقة والحساسة داخل تركيا وخارجها.

وتمكنت الوكالة التركية خلال أكتوبر الماضي وحده من إسقاط خلايا تجسّس إسرائيلية في عملية استخباراتية وُصفت بالأكبر منذ تفكيك شبكة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي عام 2018، إضافة إلى شبكتَي تجسس إحداهما إيرانية والأخرى روسية.

ويشير الصحافي فرحات أونولو إلى أنّ تركيا تتحدث بصراحة بشأن هذا الموضوع بأنه "لن يستطيع أحد القيام بعمليات ضدي من دون علمي"، مبينًا أنه تم إلقاء القبض على ثمانية روس سابقًا حيث قامت روسيا بتتبع مواطنيها الذين كانوا يخططون للقيام بعمليات اغتيال بحق مواطنين شيشان.

كيف تبدأ عملية التجنيد؟

تبدأ عملية التجنيد من خلال تكليف العنصر المستهدف بأعمال تتناسب مع دراسته أو عمله، بعدها يدخل عنصر المال عبر شركات تحويل الأموال مثل "ويسترن يونيون" و"موني غرام"، إضافة إلى نظام الدفع المباشر، وذلك في مقابل المعلومات والخدمات التي يقدمها الشخص، وهو ما كشفته جهات التحقيق التركية بعد استجوابها لكثير من عناصر الشبكات التي تم تفكيكها.

ويعمل الموساد على استدراج الشخص المستهدف إلى طريق لا عودة منه، يبدأ بإشراكه في أعمال تبدو عادية تتبعها تحويلات مالية مجهولة المصدر وبمجرد استلامه للأموال مرة تلو أخرى يجد الشخص نفسه وقد أصبح متورطًا.

تستمر هذه العملية لشهور، ثم يتبعها لقاء مباشر يتم الترتيب له في إحدى الدول الأوروبية وهناك يلتقي الشخص المستهدف أحد عناصر الموساد.

من جهته، يعتبر عضو البرلمان الإسباني أنتون غوماز بوديموز في حديث إلى "العربي" أن هناك مشكلة - من وجهة نظره – في المجتمع الغربي تتعلق بالتنسيق بين السلطات العامة والدولية والأجهزة الأمنية الأخرى.

ويرى أنه يجري "استعمال التجسس كسلاح من أجل سيطرة سياسية، كما أنه يستخدم في بعض الأوقات كسلاح من نوع مختلف"، لذلك يدعو البرلماني الإسباني إلى "الكشف عن شبكات التجسس التي تقوم عليها أجهزة مخابرات وجهات غامضة تتحكم في الإقليم الأوروبي سياسيًا".

ويكشف من جهته الصحفي التركي فرحات أونولو عن رصد جهاز المخابرات التركية للقاءات بين العملاء وأجهزة المخابرات في أوروبا.

ويوضح أن تلك اللقاءات عقدت في زيورخ حيث تلقى الأشخاص أوامر ومبالغ مالية وذهبوا إلى مركز للتوجيه والإرشاد النفسي، إضافة إلى قيامهم بعدة رحلات إلى عدة دول مختلفة والتقوا بمدير عمليات وقيادات من الموساد.

ضابط موساد إسرائيلي في مدريد

كشف معاذ تفاصيل أكثر في هذا الملف الذي عمِل عليه منذ وجوده في تركيا وحتى بعد سفره إلى إسبانيا. وكان عمل معاذ الاستقصائي سببًا لاستدعائه للاستجواب في فبراير/ شباط عام 2021 داخل إحدى مؤسسات الاستخبارات الإسبانية، لكنه فوجئ أثناء التحقيق معه بأن أحد المحققين ضابط استخبارات إسرائيلي متخفٍّ.

ويقول معاذ في حديثه إلى "العربي": إنه توجه إلى مقر الحرس المدني في مدريد حيث قابل الضابط الإسباني وإلى جانبه شخص بملامح شرق أوسطية وعرفه الضباط على أن اسمه "عمر" وأنه يعمل في المخابرات البلجيكية وأصوله فلسطينية، وذلك قبل أن يكشف أمره لاحقًا.

هذه المفاجأة التي كشفها معاذ وتلقفتها كبريات الصحف الإسبانية كانت فضيحة مدوية في الأوساط الإسبانية أثارت كثيرًا من الجدل حول إسبانيا التي كانت تعتبر ملاذًا آمنًا للاجئين والمعارضين والمطاردين. لكن يبدو أن نفوذ جهاز الموساد استثناء من هذه القاعدة.

ما علاقة السلطة الفلسطينية؟

وفي العودة إلى التسجيل الصوتي تبين أن الشخص الذي حاول تجنيد الشاب الفلسطيني قد أدعى بأنه تابع للسلطة الفلسطينية، وهو ما يفتح الباب أمام العديد من علامات الاستفهام حول مدى علم السلطة أو مخابراتها بمثل هذه الممارسات.

وفي الوقت الذي أشارت فيه مصادر صحفية فلسطينية إلى دور غير مباشر للواء ماجد فرج مدير المخابرات الفلسطينية في مثل هذه العمليات؛ تواصل فريق "العربي" مع أحد المسؤولين في السلطة الفلسطينية لمواجهته بهذه الاتهامات.

ورفض نائب رئيس الوزراء الفلسطيني زياد أبو عمرو الإجابة على سؤال فريق "العربي" حول وجود تنسيق بين السلطة الفلسطينية وجهاز الموساد الإسرائيلي.

وقال أبو عمرو في الاتصال: إنه "ليس له علاقة بهذا الموضوع ولا يعرف عنه".

وفي شوارع أوروبا تتحرك أشباح جهاز الاستخبارات الإسرائيلي بحثًا عن فرائس، يتسللون بيننا مستغلين نقاط الضعف والحاجة في حرب يستخدم فيها المسموح وغير المسموح، لكن على جانب آخر يظل التساؤل الأهم عن الدور الذي ينبغي على أجهزة المخابرات العربية والدولية القيام به في مواجهة الموساد.

تابع القراءة
المصادر:
العربي
تغطية خاصة
Close