باتت ظاهرة تهريب المحروقات مرضًا عضالًا ينخر جسد الاقتصاد في تونس، وأرست في أوساط الشباب ثقافة اجتماعية جديدة تدفعهم إلى المخاطرة بحياتهم بحثًا عن لقمة العيش.
يأتي ذلك في ظل صمت مريع للدولة الغائبة عن المشهد، وعدم رسم تصورات وخطط لإنقاذ البلاد ممّا يحدث على الحدود.
فريق "عين المكان" تقصى عمليات تهريب المحروقات إلى تونس عبر الحدود الليبية، وسعى إلى كشف أسباب تزايد أعداد المهربين من فئة الشباب التونسي، ودور لوبيات ومتنفذين داخل الدولة التونسية يتحكمون ويستفيدون من هذا السوق، الذي ينعكس بشكل سلبي على الاقتصاد التونسي.
رحلة عبر الصحراء في الجنوب
يصادف المرء على الطريق الواصل إلى مدن وقرى الجنوب التونسي القريبة من الحدود الليبية، عشرات المنافذ المخصصة لتزويد السيارات والشاحنات بمنتجات النفط المهرَّب من ليبيا.
تعكس هذه الظاهرة واقعًا اجتماعيًا واقتصاديًا لسكان تلك المناطق الحدودية، ولا سيما من الشباب الذي يعاني من غياب فرص العمل وانسداد الأفق، تحت وطأة أزمة اقتصادية صعبة بات المواطن التونسي يعيشها بشكل متكرر.
بدأت رحلة "العربي" من قلب صحراء جنوب تونس في مغامرة مجهولة الطريق يقودها شاب يدعى محمد، بهدف الحصول على النفط الليبي المهرّب من شاحنة تنتظره بالقرب من المنطقة الحدودية.
تحدث محمد، مهرب المحروقات، عن المخاطر التي يمكن أن يواجهها أثناء رحلته، والتي سبق أن كانت سببًا في مقتل أو اعتقال الكثير من الذين كانوا يعملون معه بتهريب المحروقات.
وقال إن أشخاصًا يعرفهم هاجمتهم عصابات، لافتًا إلى أنه يسير في طريقه ويتوخى الحذر ويسلم أمره لله فهو "الستار".
كانت تفاصيل وجه محمد تخبر بالكثير عن الصعوبات المعيشية التي يواجهها وأقرانه، والتي لم تترك لهم خيارًا سوى هذا العمل الخطر.
وأشار الرجل إلى غياب فرص العمل وواقع منطقته "المهمشة"، مردفًا بأن الشباب فيها يسعون للعمل لتأمين مصروفهم اليومي، ولا يطمحون للكثير.
يعتقد محمد أن عمله يعود بالنفع على المواطن التونسي العادي، في ظل ارتفاع أسعار المحروقات في البلاد.
إحساس بالمراقبة
خلال الرحلة، ورغم تأمين محمد لطريقه طلب فجأة وقف التصوير، حيث اضطر إلى إيقاف السيارة قليلًا لإحساسه بأن هناك من يراقبه.
وبعد وقت قليل من الانتظار، قرّر تغيير مساره والابتعاد قليلًا عن الخط الحدودي، عائدًا إلى الخط الصحراوي.
كانت شاحنة التهريب قد وصلت إلى المكان المتفق عليه. وبالقرب من الحدود، بدأ المهربون بتفريغ الشاحنات التي تحمل الوقود الليبي المهرب.
التقى "العربي" هناك بالشاب أمير بن محمد، والذي أصبح يعمل كموزع للمواد النفطية المهربة للأسواق داخل المدن التونسية بعد أن يحصل عليها من المهربين.
قال لنا إنه يعيش في منطقة حدودية لا فرص عمل فيها، ولا حل أمامه سوى العمل في هذا المجال.
ومر على الواقع إبان الإغلاق الذي فرضه وباء كوفيد-19، حيث انكفأ الناس عن العمل إلا من امتلك قطيعًا من الأغنام، فيما كان الباقون عرضة للجوع.
وحيث أن ليل تلك المناطق الحدودية لا يختلف عن نهارها، تستمر عمليات التهريب والبيع غير الشرعي للمواد النفطية، مع غياب واضح لأي انتشار أمني يمنع تلك الظاهرة.
في المقابل، تعاني محطة محمود العكرمي للمحروقات الواقعة بالقرب من الحدود الليبية التونسية، من أزمة مالية نتيجة هذه الظاهرة.
والرجل الذي أشار إلى أن ظاهرة تهريب المحروقات موجودة منذ سنوات، قال إنها تسبب أزمة للمحطات التي تشهد نقصًا كبيرًا في المبيعات، بالنظر إلى الفارق الكبير في الأسعار، متحدثًا عن اتجاه المواطن العادي إلى المحروقات غير المقننة.
من جانبه، كان وزير التجارة السابق محمد المسيليني، قد أكد لـ"العربي" أن تجارة المحطات مرتبطة باستهلاك المواطنين للمحروقات، وتشهد كسادًا بالتأكيد لا سيما عندما يكون الفارق بين السعر المتداول في السوق الموازي والأسعار الرسمية مرتفعًا.
وقال إنه حينها "لا يتزود بالوقود من المحطات إلا بعض السيارات التي تفرض استهلاك محروقات بمعايير معينة أو السيارات الرسمية للدولة".
لكنه لفت إلى أن تجارة المحروقات المهربة تجاوزت المناطق الحدودية، ووصلت إلى المناطق الداخلية، منبهًا إلى أنه في غياب حلول للتوظيف ومواجهة البطالة وتنمية المناطق الداخلية للحد من ظاهرة التهريب، والمحاسبة على "من أين لك هذا"، يصبح كل شيء مباحًا.
ما هو حجم تهريب المحروقات؟
وكانت دراسة سابقة للبنك الدولي أفادت بأن حجم تهريب المحروقات عبر الحدود الليبية التونسية فقط ودون الحدود الجزائرية، بلغ 495 مليون لتر، بما يمثل أكثر من 17% من استهلاك المحروقات في البلاد، الأمر الذي يشكل ضغطًا إضافيًا اقتصاديًا وأمنيًا على الدولة.
ويستخدم المهربون طرقًا عديدة لإدخال المنتجات النفطية عبر الحدود الليبية، حيث يُعد الطريق الجنوب شرقي الأنشط والأقوى لتساهل السلطة الليبية وعدم إحكامها للحدود.
كما يستخدَم طريق رمادة وذهيبة ويجري التهريب فيه عن طريق شاحنات ليبية ثقيلة، تفرّغ وقودها من خزاناتها لدى تجار في المنطقة الحدودية، والذين يزودون بدورهم محافظة مدنين وقابس بالوقود، حيث سعر البيع أعلى.
أما الطريق الأخير، فهو معبر راس جدير في مدينة بنقردان، حيث توزّع البضاعة في الجنوب الشرقي لتصل حتى الوسط التونسي في محافظة القيروان، التي تبعد 150 كلم عن العاصمة.
في عام 2015، قامت السلطات التونسية ببناء حاجز مائي على حدودها مع ليبيا، في محاولة منها لكبح التهريب.
إلا أن عمليات التهريب تواصلت وارتفعت وتيرتها بسبب عدم استقرار الوضع السياسي في البلدين.
إلى ذلك، تشير التقديرات الرسمية الليبية إلى أن ما بين 30 إلى 40% من الوقود المكرّر في ليبيا أو المستورد من الخارج يتعرّض للتهريب والسرقة.
وتقول إن هناك ما يقرب من 25 مليون ليتر بنزين يهرب يوميًا، ويصل منه إلى تونس وحدها 4 ملايين ليتر يوميًا، وهي كمية تغطي 40% من احتياجات السوق التونسي المحلية.
خسارة سنوية للدولة التونسية
وكانت مؤسسة "سيغما كونساي" للدراسات والإحصائيات في العاصمة التونسية، قد رصدت ظاهرة تهريب المحروقات وحلّلت بياناتها.
وفي حديث إلى "العربي"، يشير رئيسها حسن زرقوني إلى الخسارة السنوية للدولة التونسية جراء تهريب المحروقات والمقدرة بـ400 مليون دينار، بالنظر إلى العائدات من الأداءات المفروضة على هذه المادة.
ويتحدث عن مخاطر أخرى، حيث يلفت إلى أن التهريب والإرهاب يسيران معًا بطريقة موازية، فمن يمكنه تهريب محروقات بإمكانه تهريب مواد أخرى أخطر.
لكنه يلفت إلى أن هؤلاء الشبان يجدون أنفسهم مجبرين على تأمين لقمة العيش من هذه المغامرة الإجرامية، بوصفها مخالفة للقانون وتحمل خطورة على أنفسهم وعلى عائلاتهم.
"إدارة أمنية لمعضلة اقتصادية واجتماعية"
بدوره، يصف الصحافي والباحث في الاقتصاد السياسي حمزة المؤدّب تهريب المحروقات عبر الحدود إلى تونس بأنها ظاهرة كبيرة ومهمة جدًا جغرافيًا واقتصاديًا واجتماعيًا بحكم عدد الشبكات التي تعمل في هذا المجال.
كما يشير إلى أهميتها من ناحية ماكرواقتصادية، من حيث تأثيرها على التوازنات الاقتصادية وعلى العرض والطلب.
ويذكر بأن المناطق الحدودية سواء مع ليبيا أو الجزائر تعرف معضلات تنموية كبيرة تاريخيًا، فهي تعرضت للتهميش من قبل السلطة المركزية، وتشهد مشاكل تنموية وغيابًا لموارد الرزق ولخلق فرص العمل.
ويعتبر أن تهريب النفط أو تجارة النفط صارا في تلك المناطق نوعًا من اقتصاد الضرورة، إن صح التعبير، للآلاف.
وحول الطلب الداخلي، يلفت إلى أن تدهور الوضع في تونس جعل الطلب على النفط الرخيص من الجزائر أو ليبيا يتزايد.
إلى ذلك، يتحدث المؤدّب عن ريع حماية لبعض الشبكات وصراع بين عدد من الشبكات للسيطرة على جغرافيات معينة، وعن دور للأجهزة الأمنية في تقسيم الكعكة بين الشبكات.
ويقول: "لسنا أمام شبكات خارج الدولة وكأن الدولة مغلوب على أمرها، بل يبدو لي أن الدولة تتعامل بالكثير من البراغماتية وبإدارة أمنية لمعضلة اقتصادية واجتماعية".
وأمام غياب دور الدولة التونسية في محاربة ظاهرة تهريب المحروقات، وورود العديد من الاتهامات لوجود متنفذين مستفيدين منه، توجّه "العربي" للإدارة العامة للجمارك للإجابة على استفساراته، لكنهم رفضوا مقابلته.
كما توجه إلى عدد من الجهات الرسمية للتعليق على الاتهامات، ولكن من دون أي رد.
المزيد عن ظاهرة تهريب المحروقات إلى تونس عبر الحدود الليبية، من خلال رحلة طاقم "عين المكان"، في الحلقة المرفقة.