منذ الولادة المتعثّرة للثورة الليبية عام 2011، يعاني الليبيون من فوضى السلاح وغياب المؤسسة العسكرية الموحّدة، حيث بدا أن السلاح الذي كان سببًا في حماية الليبيين من بطش القذافي وقواته، بات مع الوقت من أهم أسباب تعثّر استكمال الثورة لأهدافها، وعلى رأسها بناء دولة موحّدة.
وروى مصطفى المجعي، المتحدث باسم عملية "بركان الغضب"، لبرنامج "كنت هناك"، من "العربي": "كان يوم دوام صباحي عادي في الكلية العسكرية، وكنا نأمل أن يتخرّج هؤلاء وأن يأخذ الجيش والشرطة مكانهما الطبيعي في الحياة الليبية".
ورغم رحيل العقيد معمر القذافي عن ليبيا جسدًا، إلا أن تأثيرات سياساته ما تزال قائمة حتى الآن. وكلما ارتفع صوت السلاح، يبحث الليبيون عن مؤسستهم العسكرية الموحّدة كي تحميهم من الفوضى داخليًا، وتحافظ على مصالحهم خارجيًا. وكلما زاد البحث عن أسباب غياب الجيش الموحّد، يُطل شبح القذافي من بعيد؛ حيث تعمّد العقيد الراحل، وفقًا لمراقبين، تغييب دور الجيش لصالح الكتائب الأمنية، التي كانت أقرب إلى الميليشيات منها إلى العمل النظامي المؤسسي.
وقال المجعي: إن "المجرم القذافي هو من دمّر الجيش، لا ثورة فبراير/ شباط، ولا من جاء بعدها، فهو من حلّ وزارة الدفاع وعيّن اللجنة الشعبية المؤقتة، وهو من أوجد الكتائب والميليشيات، ميليشيا محمد المقريف، وميليشيا خميس، وميليشيا حمزة".
وأضاف أنه "بعد ثورة فبراير، حاولنا لملمة هذا الموضوع، وفرحنا لإعادة افتتاح الكلية العسكرية وتخريج الطلاب منها، إلى أن ارتكبت جريمة الكلية العسكرية، لإخافة الناس ودفعهم إلى عدم الانضمام إلى الكلية".
حين استنشق الليبيون نسائم الحرية، دفعوا أولادهم إلى الكليات العسكرية والأمنية التي حُرموا منها لعقود طويلة، بسبب سياسات القذافي. والأهم أنهم آمنوا منذ اللحظات الأولى، أن بناء الجيش من كافة أبناء المجتمع دون تمييز سيكون من أهم ضمانات مستقبل أفضل.
وروى صالح الهازل، والد أحد ضحايا قصف الكلية العسكرية، في حديث لبرنامج "كنت هناك" من "العربي"، أن ابنه انضم إلى الكلية العسكرية "اعتقادًا منه أن ليبيا دخلت مرحلة جديدة من بناء الدولة، وأن الجيش سيحمي الوطن والحدود والحكومة والشعب".
من جهته، أكد عميد محمد قلونو، المتحدث باسم الجيش الليبي، في حديث لبرنامج "كنت هناك"، من "العربي"، أن الجيش الليبي جيش منظّم، وشرعي، ومهني، ويعمل وفق المعايير الدولية والإقليمية والداخلية، وهو مؤسسة عسكرية يعود تاريخها إلى ما يفوق 100 سنة"، مضيفًا أن الكليات العسكرية "هي أم القوات المسلّحة، والتي تضخّ الدماء الجديدة في الجيش".
اشتباكات أبريل 2019
بين الحين والآخر، يستيقظ الليبيون على وقع اشتباكات مسلّحة بين ثوار الأمس، وأشدها المحاولات المتكررة لاقتحام العاصمة طرابلس، من قبل قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، الذي يسيطر على الشرق الليبي.
وأوضح عبدالباسط الحداد، المحامي أمام المحكمة العليا الليبية، في حديث لبرنامج "كنت هناك" من "العربي"، "الهجوم جرى إبان قيام خليفة حفتر وقواته بمهاجمة طرابلس، حيث كان حفتر يظهر يوميًا على وسائل الإعلام لتأكيد مسؤوليته عن الحادثة".
أخطر تلك المحاولات كانت في أبريل/ نيسان عام 2019، حين اقترب حفتر، بدعم إقليمي، من اقتحام قلب العاصمة الليبية، ثمّ انسحب بعد حصار دام أكثر من 14 شهرًا، وخلّف وراءه جراحًا يصعب أن تندمل قريبًا.
وقال قلونو إن ما قام به حفتر من هجمات على العاصمة الليبية "هي هجمات غير مشروعة، إذ استهدف المدنيين ومطار معيتيقة، والكلية الجوية في مصراتة، ومخازن الكتب، والمستشفيات الميدانية، واستهداف الكلية العسكرية في طرابلس".
ومع بداية يناير/ كانون الثاني عام 2020، كثّفت قوات حفتر قصفها أحياء ومناطق في جنوب العاصمة وشمالها، حيث شنّت قصفًا جويًا ومدفعيًا عشوائيًا طال الأحياء السكنية، وأسفر عن مقتل وإصابة مدنيين.
وقال أمين الهاشمي، المتحدث السابق باسم وزارة الصحة في حكومة الوفاق الوطني"، في حديث لبرنامج "كنت هناك" من "العربي": "كانت ليلة أليمة، وكنت حينها مسؤولًا عن ملف الانتهاكات، وناطقًا باسم وزارة الصحة، وكنا نعمل مع الغرف الميدانية المسؤولة عن إسعاف المصابين، وكنا نسجّل يوميًا ما بين ثلاث إلى خمس إصابات بين المدنيين".
الرابع من يناير 2020
وبحلول مساء الرابع من يناير، تصاعدت الهجمات لتُصبح أكثر مأساوية، حيث سُمع صوت انفجار قوي وسط المدرسة العسكرية بطرابلس. وظنّ الأهالي، في بادىء الأمر، أنها أصوات الاشتباكات والقصف التي اعتادوها قبل أشهر، ليتبيّن بعد وقت قليل أن الصوت ناجم عن غارات جوية استهدفت الكلية العسكرية التي كانت تضمّ العشرات من الطلاب، الذين كانوا يقومون بعملية الجمع المسائي في الباحة الرئيسية للكلية استعدادًا للدخول إلى عنابرهم الخاصة.
وروى عماد بريش، أحد الطلبة الناجين من قصف الكلية العسكرية، في حديث لبرنامج "كنت هناك" من "العربي": "في ذلك اليوم، كنا في ساحة الكلية للتدرب على المسير، وفجأة شعرنا بدفعة قوية وفقدت التركيز ولم أعد أعرف ما حصل بالضبط. التفت ورأيت مشهدًا مأساويًا، حيث تمّ استهدافنا".
من جهته، قال المجعي: "أول ما وصل الخبر، لم نصدّق الأمر، ولم نكن نتصوّر أن يحدث ذلك. ولدى حصولنا على الصور الأولى، تبيّن أن القصف كان ممنهجًا، وعملية مدبّرة".
بعد نحو ساعة من قصف الكلية العسكرية، قال المركز الإعلامي لعملية "بركان الغضب" التابعة لحكومة طرابلس، إن "طائرات أجنبية داعمة لحفتر قد قصفت الكلية العسكرية، ما أدى إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى"، في حين قال قائد قوات الإسناد في الجيش الليبي إن طائرات إماراتية مسيّرة هي من نفّذت العملية.
وشرح قلونو أن الاستهداف كان "مبرمجًا وممنهجًا ومقصود كي يحصد عددًا كبيرًا من الإصابات والقتلى".
بدوره، وصف المجعي العملية بأنها "في قمة البشاعة، ولا يُمكن تصديقها".
بعد قرابة 12 ساعة من القصف الذي كان الأكثر دموية منذ بدء هجوم قوات حفتر في أبريل 2019، أعلنت حكومة "الوفاق الوطني" الحداد ثلاثة أيام على ضحايا القصف، فيما قال رئيس الحكومة وقتها فايز السرّاج إنه سيتمّ مناقشة قطع العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات.
وقال الهاشمي: "أذكر أن نداءات الاستغاثة من الكلية تفيد بسقوط صاروخ، لكن لم نكن نتصوّر حجم المأساة والكارثة الإنسانية هناك".
بدوره، قال الهازل: "لقد كنت مصدومًا، لم أكن أعرف من تمّ قصفه المبنى أم الطلاب. لقد وقع علي الخبر كالصاعقة. وصل الأهالي إلى الكلية، فوجدنا الطلبة متشردين في الخارج، وعلامات الخوف بادية عليهم، وكان الجميع مدنيين وجهات إغاثة يعملون على إسعاف الجرحى والمصابين".
وأضاف الهازل: "خرج من الكلية حوالي 400 طالبًا، وكان كل منهم يهرول خائفًا من القصف. وكنا نسأل كل طالب عن ابني سند، من دون أن نحصل على إجابة منهم، وبعدها توجّهنا إلى المستشفيات بحثًا عنه، إلى أن وجدناه في مستشفى طرابلس مصابًا إصابة بليغة في الرأس توفي على إثرها".
وأوضح العميد محمود الغزالي، قائد الكتيبة العسكرية في طرابلس، في حديث لبرنامج "كنت هناك" من "العربي"، أن عدد الشهداء بلغ 26 شهيدًا في الكلية العسكرية، في حين تمّ إرسال 15 طالبًا إلى تونس للعلاج".
وخرجت مسيرات في العاصمة الليبية ومدن أخرى للتنديد بالهجوم، في حين توافد عدد كبير من المواطنين على مراكز التبرّع بالدم، بعد الدعوات التي وجّهتها وزارة الصحة للمساهمة في إنقاذ حياة الجرحى.
وروى الهاشمي مشهدّا يقول إنه من الصعب نسيانه، "وهو وقوف أحد الطلاب أمام زميله المتوفّى، حيث قدّم له التحية العسكرية"، مضيفًا أن المشاهد كانت "مؤلمة جدًا لطلاب شباب أقبلوا ليكونوا نواة حقيقية للجيش الليبي فأصبحوا ضحايا".
حمّل بريش جميع الأطراف المتصارعة مسؤولية القصف غير المبرر للكلية العسكرية، قائلًا: "ما هو السبب لقصف طلبة عزل تتراوح أعمارهم بين 18 و20 سنة؟".
ووصف الحداد القصف بأنه "فاجعة كبرى، وعدوان بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وجريمة بشعة تتطلّب تحقيقًا جنائيًا شفّافًا ومتكاملًا مع ضرورة معاقبة الفاعلين".
تراشق الاتهامات: حفتر أم الإمارات؟
وندّدت بالجريمة دول عدة، وقالت البعثة الأممية في ليبيا إن التصعيد العسكري يزيد من تعقيد الأوضاع في البلاد، ويهدّد فرص العودة إلى العملية السياسية، مضيفة أن التمادي في القصف العشوائي الذي يطال المدنيين والمرافق المدنية الخدمية قد يرقى إلى مصافي جرائم الحرب، ولن يفلت الجناة من العقاب طال الزمن أو قصُر.
في المقابل، نفى متحدثون باسم قوات حفتر المسؤولية عن القصف، من منطلق أنه غير ذي فائدة لهم، خاصة أنه قد يؤثر على الحاضنة الشعبية، محملين مَن وصفوهم بالميليشيات التابعة لحكومة "الوفاق" مسؤولية قصف الكلية العسكرية بهدف تشويه سمعة قوات حفتر.
وقال الحداد إنه في هذه الواقعة تحديدًا، خرج أحد الناطقين باسم حفتر تلك الليلة، وأكدوا أنهم الجهة التي أرسلت المسيّرة، وأنهم من قاموا بالعملية، قبل أن يتراجعوا عن الإقرار بهذه الجريمة".
لكن في أغسطس/ آب من العام ذاته، نشرت وسائل إعلام غربية تحقيقات تؤكد أن القصف تمّ عبر صاروخ موجّه جو-أرض أطلقته طائرة مسيرة صينية الصنع انطلقت من منطقة في شرق ليبيا تخضع لسيطرة حفتر، وأن الإمارات كانت قد اشترت عام 2017، 15 طائرة من هذا الطراز، وكذلك 350 صاروخًا من النوع المستخدم في القصف.
وأوضح الحداد أنه "ما هو ثابت لدينا إلى هذه اللحظة، على الأقل من تقرير المنظمة الأممية والتقارير الدولية المعروفة، أن الطائرة التي قامت بقصف الكلية العسكرية هو طيران إماراتي".
بدوره، قال قلونو إن أحد الأهداف الرئيسية لاستهداف المجرم حفتر ومن يقف وراءه من داعمين في الدول العربية أو دول الجوار أو الدول الإقليمية، للكلية العسكرية هو خلق بلبلبة في الرأي العام".
بدوره، قال الحداد: "اقترحنا منذ فترة على الحكومة الليبية تكليف مجموعة من المحامين لرفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية التي تختصّ بالفصل في النزاعات بين دولة ودولة أخرى، إذ أن ليبيا الآن في نزاع مع الإمارات، وتحميلها مسؤولية انتهاك السيادة الليبية وخرق الأجواء الليبية، وقصف مواقع مدنية ليبية، ومقتل طلاب داخل أسوار الكلية العسكرية".
كيف يُمكن إنصاف الضحايا؟
صباح الخامس والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2021، حكمت محكمة عسكرية في مصراتة الليبية بالإعدام على خليفة حفتر في قضية قصف الكلية العسكرية في طرابلس. لكن أهالي الضحايا يتساءلون عن الجهة التي يُمكنها تنفيذ الحكم في ظل انقسام البلاد.
وأكد الحداد أنه "لانصاف الضحايا، يحتاج القضاء الليبي إلى ملفات متكاملة تقوم بها النيابية العامة أو الإدعاء العسكري، تحتوي على الأدلة والأشخاص المتّهمين".
بدوره، قال قلونو إن "ثقتنا في قضائنا وجيشنا وقياداتنا العسكرية والمدنية كبيرة، ولا ننفي وجود بعض العراقيل والتأخير، لكن الأمر يحتاج إلى الصبر فقط".
ما يبعث على الأمل هو أن ساحة الكلية العسكرية شهدت بالتزامن مع مرور عامين على القصف الغادر حفل تخرج دفعة جديدة من الضباط، حيث أكد رئيس الأركان العامة الفريق أول محمد الحداد العزم على بناء جيش موحّد يحمي الوطن، ولا ينقلب على الدستور، ولا يقتل أبناء الشعب أو يُدمّر مقدرات الوطن.
وأوضح الغزالي أن الشهداء ينتمون إلى مختلف المناطق الليبية، ولم يكن هناك أي شرط يستثني أي طالب يرغب بالتقدّم للانضمام إلى الكلية، لأن الكلية العسكرية لكافة الليبيين.
ويواصل فريق قانوني ليبي-أميركي الانتقال بمقاضاة خليفة حفتر إلى المحاكم الأميركية، واتهامه بالمسؤولية عن قصف الكلية العسكرية ومقتل طلابها.
وأكد الهاشمي أنه من الصعب محو صور الضحايا، وصور الأشلاء والأبرياء من الذاكرة.
لن ينسى أهالي الطلاب مشاهد استهداف ابنائهم في نفس الساحة التي كانت تتحضر للاحتفاء بتخرّجهم ضباطًا. وكان يأمل ذووهم بأن يساهموا في استعادة الأمن واستكمال الحلم، لكن صفوف الابتهاج بالتخرّج تحوّلت في لحظة إلى مواكب جنائزية حزينة.
وفي ظل غياب أي جهود حقيقية لملاحقة الفاعل، يكتفي الأهالي بإحياء ذكرى أبنائهم كل عام، منتظرين عدالة تنتظرها ليبيا كلها لا المكلومون فقط.
وقال بريش: "حتى اللحظة، لم يتمّ تعويض أهالي الشهداء والجرحى"، متهمًا الحكومة بـ"تهميش مفتعل" لهذه القضية الإنسانية.
بينما قال الهازل: إن "الحكومة هي المسؤولة عن أبنائها في الداخل والخارج، ونحن سلّمنا أولادنا لحكومة الوفاق ولذلك عليها تحمّل مسؤولية تقصيرها وإهمالها".
أما المجعي، فقال إن تعويض الأهالي يكون على الأقل ببناء ليبيا، وتأسيس الدول الليبية.
التعويضات التي لم يحصل عليها الأهالي لم تكن لتُطفىء قلوب انفطرت على وداع أبنائها، لكن عندما تختفي رائحة البارود وتهدأ أصوات المعارك، ويتشارك الليبيون في بناء وطنهم، ربما عندها فقط يمكن أن يقول الأهالي إن الدماء لم تذهب هدرًا، وإن التحاق أبنائهم بالكلية العسكرية حقّق بعض مرادهم أخيرًا.