في 1 سبتمبر/ أيلول 1969 قاد الضابط الشاب معمر القذافي مع رفاقه انقلابًا عسكريًا في ليبيا على الملك محمد إدريس السنوسي.
وفي قلب هذا المشهد وقف عبد السلام جلود الضابط الأبرز في الانقلاب كتفًا إلى كتف مع القذافي ليصبح الرجل الثاني في النظام. وبهذه الصفة جال دول العالم والتقى المرشد الأعلى لإيران حينها الخميني، وصدام حسين وحافظ الأسد وغيرهم.
وبحماسة الشباب أرسله القذافي عام 1970 إلى بكين ليطلب من رئيس وزراء الصين حينها شو إن لاي شراء تكنولوجيا السلاح النووي. وبذات الحماسة، سلم جلود صفقة صواريخ سكود لإيران لتقصف بها بغداد.
وتكشف مذكرت جلود تحت اسم "الملحمة" الكثير من تفاصيل صناعة القرار في ليبيا. فهو يعد رجلًا مطلعًا على أسرار ليبيا حينها وعلى تحول القذافي من ثائر إلى مستبد وطاغية.
من مشاركة البطانيات إلى الشراكة السياسية
إلا أن هذه المذكرات خلت من النقذ الذاتي والمراجعة التاريخية للمواقف والاعتراف بالتقصير، وكأنها بيان يبيض به جلود صفحته مما علق بها في عهد القذافي، رغم أنه شارك في صناعة العديد من الأحداث.
فقد تولى جلود العديد من المناصب الحساسة في النظام الليبي، بينها وزارة الداخلية والحكم المحلي، ووزارة المالية، وعضوية الأمانة العام لمؤتمر الشعب العام، فضلًا عن أدوار في ملفات عربية، بينها الحرب الأهلية في لبنان.
وقبل عقد من الثورة اعتقل عبد السلام عندما كان طالبًا لمشاركته في مظاهرة، وذات يوم أدخلوا معتقلًا آخر إلى زنزانته هو معمر القذافي. وبسبب نقص البطانيات في السجن تشاركا البطانية نفسها.
وتحولت هذه المشاركة إلى مشاركة سياسية وشراكة لعقود لاحقة. فبعد السجن التقى الرجلان واتفقا على إسقاط النظام الملكي في ليبيا عام 1959. وهكذا ولدت حركة "الوحدويين الأحرار"، لكن القذافي حول هذه الحركة إلى عسكرية عام 1963 من خلال التحاق الأعضاء بالكلية العسكرية. وكتب القذافي بخط يده طلب انتساب جلود إلى الكلية.
ويروي عبد السلام جلود حادثة حصلت في طفولته حيث حاول عندما كان طالبًا في المرحلة الثانوية زيارة طرابلس والتمتع بجمال شواطئها لكن الجالية الإيطالية وقلة من المحظوظين الليبيين طردته، وما إن وصل إلى مصيف آخر للعسكريين الإنكليز حتى طُرد من جديد.
وقد حفر هذا اليوم ندبة كبيرة في عقله ووجدانه حيث بدا أن ليبيا ليست لليبيين. وفي هذا اليوم اقتنع بضرورة الثورة على النظام الملكي.
طموح يتخطى مجلس قيادة الثورة
وفي تلك الفترة هبت رياح الانقلابات التي خاضها كبار الجنرالات في المنطقة، فضعفت الرقابة على صغار الضباط. وهذه الإستراتيجية ساعدت مجموعة القذافي وجلود في التخطيط لانقلابهم. فهؤلاء استطاعوا في فترة قصيرة أن يضموا لحركتهم أكثر من 60 ضابطًا سيطروا بهم على ليبيا مستغلين زيارة الملك السنوسي إلى اليونان.
وشكل هذا الأمر انقلابًا مفاجئًا في ظل وجود قوات أميركية وبريطانية تحتل أجزاء من ليبيا.
وكان طموح القذافي أكبر مما كان يفكر به رفاقه في الحركة، فوفقًا لمذكرات عبد السلام جلود، فإن القذافي كان يسعى منذ اليوم الأول للانفراد في السلطة، لدرجة أنه كان يصر على إخفاء أسماء مجلس قيادة الثورة حتى يبدو أمام العالم قائدًا واحدًا.
وتكشف المذكرات عن ضغوط مارسها الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر لإعلان القذافي رئيسًا للمجلس. وهكذا كتب جلود بنفسه خبر ترقية القذافي وتعيينه رئيسًا لمجلس قيادة الثورة.
وبعد نجاح الانقلاب بشهر واحد في أوكتوبر 1969 كان جلود أول عضو في قيادة الثورة يقابل عبد الناصر، وفي ذلك اللقاء طلب عبد الناصر من الليبيين شراء طائرات مقاتلة لدعم مصر في حربها ضد إسرائيل.
وقد أبدى جلود استعداده للقيام بهذه المهمة لكن عبد الناصر كان يرى استحالة ذلك لدرجة أنه قال لجلود: "أنتم مجموعة من الشباب الصغير المتحمس لكنكم لا تعملون شيئًا عن السياسة".
ورغم ذلك قاد جلود مفاوضات الشراء مع وزير الدفاع الفرنسي ونجح بتوقيع صفقة بقيمة 120 مليون دولار لشراء 110 طائرات ميراج.
وبحسب المذكرات فقد كان القذافي يبدي قلقه من تنامي شعبية جلود في ليبيا لذا حمّله بالعديد من الأعباء الوزارية، في وقت كان القذافي قد وصل لقناعة بأن الاستحواذ الكامل على السلطة يمنحه الحصول على كل شيء.
وتشير المذكرات إلى العديد من الخلافات بين الرجلين لكنها لم تغير الواقع المرعب الذي عاشته ليبيا حتى اليوم رغم أن هذا الوضع دفع آخرين في مجلس الثورة لمحاولة التغيير، بينها محاولة الانقلاب التي قام بها عمر المحيشي عام 1975.
صورة الزاهد بالسلطة
ويتحدث جلود في مذكراته عن رحلة الدجل التي ابتدعها القذافي منذ 1974 فيقول إن القذافي كان يتعمد أن يظهر بمظهر الزاهد في السلطة، ومن أجل ذلك شرع في ما أسماه جلود مسلسل الاستقالات الزائفة، وبعد كل استقالة كان يطلب من حاشيته وأجهزة الدولة أن تدفع الناس للخروج إلى الشوارع مطالبين إياه بالعدول عن استقالته.
ومع تدهور أسعار النفط العالية بدءًا من عام 1983 ازدادت الأعباء على الخزانة الليبية التي تعتمد على العائدات النفطية، وشهدت حينها البلاد أزمات اجتماعية. وبعيدًا في صحراء سرت في يونيو 1986 نصب القذافي خيمته وأجرى حوارات مع جلود استمرت 11 يومًا من أجل الإصلاح السياسي والاقتصادي. وفي حينه اقترج جلود 3 أوراق للإصلاح ترتكز على وقف قمع اللجان الثورية واعترض على جعل الكتاب الأخضر المرجعية النهائية للثورة الليبية.
لكن الحوار فشل، إذ إن الروح الديكتاتورية تملكت القذافي بحسب جلود.
إلا أن هذه المذكرات لا تتطرق إلى العديد من القضايا حيث يتجاهل جلود تفاصيل مذبحة الطلاب في أبريل/ نيسان 1976 حيث نصب النظام الليبي المشانق في الساحات العامة والجامعات. وحينها كان جلود على رأس منصبه.
وتخلو كذلك المذكرات من مراجعة تحالفات ليبيا ومن المال السياسي الذي دفعه نظام القذافي.