"إن انتقالنا الدراماتيكي المفاجىء من السلاح إلى السلطة، شكّل موضوعيًا أرضية للخلل الذي حصل. والآن بعد أن حسمت الجبهة القومية الصراع مع القوى المنافسة لها، فإن الصراع قد انتقل إليها وانحصر في قلبها، حيث لم تعد هناك منافسة مع حزب أو تنظيم آخر. ما حصر كل خلافات وصراعات الآراء داخل التنظيم الواحد الذي لم يعد يزعجه وجود أحزاب أو أفكار منافسة من الخارج. بل إن الأفكار والآراء داخله باتت هي المزعجة له، ما عرّض الثورة والتجربة في اليمن الجنوبي لنتائج مريرة"، هكذا لخّص الرئيس اليمني الجنوبي الأسبق علي ناصر محمد صعود جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وسقوطها.
أكثر من نصف قرن مضت على ثورة التحرير في جنوب اليمن، الكفاح المسلّح الذي خاضه أبناء الجنوب ضدّ المحتل البريطاني عام 1963، لتجد السلطات الانكليزية نفسها مجبرة على الانسحاب من اليمن عام 1967.
وبعد أكثر من 20 عامًا على الاستقلال، تحوّل اليمن الجنوبي إلى ساحة للصراع، لينتهي الأمر بحرب أهلية عُرفت بـ"حرب 13 يناير 1986". حرب دموية لدرجة أن ضحاياها كانوا أكثر من ضحايا الكفاح المسلّح ضدّ المحتل البريطاني.
سجّلت الكثير من الكتابات قصة صعود اليمن الجنوبي وسقوطه، وواحدة من تلك الشهادات سجّلها الرئيس اليمني الجنوبي الأسبق علي ناصر محمد.
شغل علي ناصر محمد العديد من المناصب بعد استقلال اليمن الجنوبي، فعُيّن وزيرًا للحكم المحلي، ثم وزيرًا للدفاع، ثمّ رئيسًا للوزراء، ثمّ شغل منصب رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية منذ عام 1980 حتى اندلاع ثورة 13 يناير 1986.
من منفاه سجّل علي ناصر محمد شهادته حول الأحداث الكبرى التي شهدتها الجمهورية الوليدة، في مذكرات تحت عنوان "ذاكرة وطن.. جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية".
قراءة دقيقة للأحداث
وتروي المذكرات كواليس تأسيس دولة اليمن الجنوبي، والصعوبات التي واجهتها في سنواتها الأولى، وتكشف عن خبايا أحداث يناير الدامية، التي كانت مقدمة لسقوط تجربة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
وأوضح نبيل البكري، الباحث اليمني، أن أهمية مذكرات علي ناصر محمد تكمن في أنه كان شاهدًا على تجارب هذه الفترة من تاريخ اليمن.
وأضاف البكري، في حديث إلى "العربي"، أن علي ناصر محمد لا يزال ينظر إلى هذه المرحلة على أنها "نوع من التوازنات، وعدم تحمل كافة المسؤوليات باعتباره كان رئيسًا لليمن الجنوبي".
وأشار إلى أن المذكرات تسرد محطات مختلفة من تاريخه في السلطة، كما أنه تنقّل في العديد من محطات الكفاح المسلّح، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وصولًا إلى مرحلة ما بعد الوحدة وقبلها، وقدّم قراءة دقيقة، ربما ليس في كل المراحل، كونه شاهدًا ومتهمًا، في نفس الوقت، في بعض هذه المحطات التاريخية، التي قد لا تروق شهادته فيها لبعض الأطراف والتيارات الموجودة في اليمن.
من جهته، قال لطفي فؤاد نعمان، الباحث اليمني في حديث إلى "العربي"، إن مذكرات علي ناصر محمد "لا تخلو من الكثير من الموضوعية والذاتية في كل الأحوال".
الانسحاب البريطاني
في نهاية عام 1967، ومع الانسحاب البريطاني من جنوب اليمن، تسلّمت الجبهة القومية للتحرير الحكم في اليمن بعد أن حسمت صراعها مع شريكتها في حركة التحرر الوطني "جبهة تحرير جنوب اليمن"، ليتمّ بعدها إعلان تأسيس الجمهورية، ويصبح قحطان الشعبي أول رئيس لجنوب اليمن.
كان الانتقال من جبهات القتال وأتون الثورة إلى دار الرئاسة، مليئًا بالمصاعب الداخلية. بوصول الرئيس قحطان إلى القصر الرئاسي، كانت أروقة القصر ساحة للعديد من الصراعات. الصراع الذي كان ايديولوجيًا في الظاهر، كان في الحقيقة صراعًا على السلطة.
وعن هذه المرحلة، كتب علي ناصر محمد في مذكراته: "عندما استلمنا السلطة، أحسسنا بأننا تائهون. كان استلامنا السلطة مفاجأة لم نعد أنفسنا لها. كان كل ما عندنا ميثاق الجبهة القومية الذي تمّ إقراره عام 1965. والميثاق نفسه يحتاج إلى إعادة تفكير. لقد كان الميثاق الوطني واضحًا في التزامه الاشتراكية العلمية. وهنا بدأ سؤال مهم يتصدّر كل الأسئلة: ما هي طبيعة المرحلة التي نواجهها؟ وكيف نحدّدها ونطبّق مساراتها؟".
وقال البكري: "مع رحيل المستعمر، كانت هناك بعض الأطراف التي تطالب باستحقاقاتها السياسية في تلك المرحلة، وبالتالي نشأت هناك تيارات وأجنحة ضمن الجبهة القومية التي تعتبر امتدادًا لحركة القوميين العرب، وجبهة التحرير التي كانت تحصل على بعض الدعم من الجانب المصري خلال عهد جمال عبد الناصر".
وأضاف البكري أنه "بمجرد انسحاب البريطانيين، عُقدت مفاوضات جنيف، وبموجب هذه المفاوضات تمّ تسليم الحكم للجبهة القومية. واستاءت جبهة التحرير من أن تكون شريكة في إدارة شؤون اليمن. وهذا الأمر أدى إلى نزاعات دامية بين التيارين والأجنحة العسكرية التابعة لهما، وانتهت بانتصار جبهة القوميين، وإقصاء جبهة التحرير من المشهد السياسي في البلاد".
أحداث العشرين من مارس
وسلّط علي ناصر محمد في مذكراته الضوء على محطات ذلك الصراع. وكتب أن المؤتمرات العامة للجبهة القومية، ثم الحزب الاشتراكي اليمني، كانت تؤسس لما هو قادم من صراعات بين الرفاق، والتي سرعان ما انتقلت إلى داخل الجيش ومؤسسات الدولة القديمة. ووصلت الخلافات بين الجناحين إلى ذروتها حين احتل الجيش مبنى الإذاعة والشوارع في عدن.
وكتب: "في صباح العشرين من شهر مارس/ آذار عام 1968، بتمام الساعة الخامسة والنصف، تحرّكت وحدات عسكرية بأمر من العقيد حسين عشّال- قائد الجيش، فاحتلت الإذاعة وشوراع العاصمة. وخيمت على الجنوب سحابة سوداء تضعه على حافة حرب أهلية طاحنة. وفي المساء، حاصرت وحدات الجيش مقر رئاسة الجمهورية، وطلبت من الرئيس قحطان الشعبي، إعلان تشكيل حكومة جديدة، لكنه رفض. وفي هذه اللحظة الحرجة، تقدّم الرئيس قحطان الشعبي بمبادرة للتسوية، ينسحب في إطارها العسكريون إلى ثكناتهم، ويقبل الطرف الآخر بعدم غدانة الحركة أو الانتقام من مدبريها".
وضعت أحداث العشرين من مارس، الرئيس قحطان الشعبي بين فكّي كماشة القيادات العسكرية من جهة، وقادة الجبهة القومية من جهة أخرى. لكن ما دفع الوضع إلى الاشتعال، هو البيان الذي أصدره الرئيس في الخامس من مايو 1968، والذي حمل عنوان "عفا الله عما سلف". فبدأت الاحتجاجات العفوية في الشارع، وتسرّب الغليان منه إلى وحدات الجيش اعتراضًا على عدم معاقبة مدبري حركة العشرين من مارس.
استقالة الشعبي
تدهورت الأوضاع في الدولة الوليدة، وتفتت القيادة إلى جبهتين في محافظتين: في العاصمة كان الرئيس قحطان الشعبي ومجموعته، وفي جعار كان سالم ربيّع علي الذي كان يخوض تحالف القوى اليسارية ويستعدّ للانقضاض على الحكم.
يحكي علي ناصر في مذكراته، كواليس الساعات الأخيرة من حكم الرئيس قحطان الشعبي، فيقول إن سالم ربيّع علي كان قد أعدّ خطة للزحف نحو العاصمة، في الوقت الذي أصدر فيه قحطان الشعبي قرارًا باقالة وزير الداخلية. القرار الذي كان بمثابة الفرصة التي مكّنت سالم ربيّع علي ورفاقه من قحطان الشعبي.
ويقول علي ناصر إنه في اليوم التالي، عُقدت اجتماعات عدة في مقرّ الرئاسة، دارت فيها مناقشات ساخنة بين أعضاء الجبهة الذين رفضوا قرار إقالة وزير الداخلية، وأن الرئيس قحطان الشعبي قد استشعر بأن هناك محاولة للانقلاب عليه، حينما دخل إلى القاعة أحد الموظفين، وقدّم إليه ورقة صغيرة قرأها الرئيس لأكثر من مرة.
وكتب علي ناصر محمد في مذكراته: "لم يكن الأعضاء يعرفون شيئًا عن مضمون الورقة، وقد اثار انتباههم دخول موظف الرئيس المدعو محمد عبد المجيد، واستدعى كل هذا القلق العميق على وجه الرئيس. وفجأة، خرج عن صمته وضرب الطاولة بقبضة يده اليمنى، وصاح: لا يمكن أن استمرّ في الاجتماع. وهناك مؤامرة تُدبّر من الخلف. وكرّر بصوت عالٍ: "هذا تآمر، هذه مؤامرة. دخل الرئيس إلى مكتبه، وهو في عاية الغضب والتوتر. سألناه عن المؤامرة التي يقصدها. قلنا له إن هذا أمر خطير، قد نذهب ضحيته جميعًا. ثم قال: انقلاب.. محمود العيدروس موجود الآن في قيادة الحرس الجهوري، ويعطي هناك أوامره للبدء بالانقلاب".
وما هي إلا ساعات حتى استقال قحطان الشعبي، ووضع رهن الإقامة الجبرية في 22 يونيو/ حزيران 1969، وتشكّلت لجنة رئاسية من خمسة أشخاص من بينهم سالم ربيّع علي، الرئيس الثاني للجمهورية اليمنية الجنوبية.
وبحلول عام 1970، غيّر الجناح اليساري للجبهة القومية الذي استولى على مقاليد الحكم في عدن، اسم البلاد إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، ووضع برنامجًا اشتراكيًا للتغيير الثوري.
وقال البكري: "لم تكن حربًا، بل نوعًا من الانقلاب العسكري بين الجناحين اليساري بزعامة عبدالفتاح اسماعيل، والمحافظ بزعامة قحطان الشعبي. وأراد الجناح اليساري أن يطبّق التجربة اليسارية في الجنوب بحذافيرها، ما أدى إلى صدام مع الجناح المحافظ بزعامة قحطان الشعبي وفيصل عبد اللطيف، انتهت بانقلاب على القحطي، ووضعه تحت الإقامة الجبرية حتى وفاته في معتقله".
عام العواصف
تقدّم مذكرات علي ناصر محمد شهادة عن عام 1972، "عام العواصف" كما يسميه ناصر، حيث جرت أول محاولة لاغتياله في مكتبه في رئاسة الوزراء. وتطوّرت الاشتباكات في سبتمبر/ أيلول عام 1972، إلى نزاع مسلّح بين قوات اليمن الشمالي التي حظيت بدعم السعودية ومصر، وبين القوات الجنوبية المدعومة من الاتحاد السوفييتي.
ويحكي الرئيس علي ناصر محمد كيف استنفدت الحرب مخازن الذخائر والمؤن من عدن، وأن الأمر لم يكن أفضل حالًا في صنعاء الشمال.
وقال علي ناصر إن الرئيس المصري أنور السادات منع مرور الطائرات الروسية التي تحمل الدعم لجمهورية الجنوب من الأجواء المصرية، بل إنه قدّم الدعم لحكومة الشمال بالطائرات والدبابات.
وهو الأمر نفسه، الذي يؤكد الفريق سعد الدين الشاذلي في مذكراته، حيث كتب: "في أواخر سبتمبر 1972، اندلعت الحرب بين اليمن الشمالي والجنوبي، وقتها اتصل بي الدكتور أشرف مروان، وأبلغني أن الرئيس أمر بأن ندعم اليمن الشمالي بخمس طائرات ميغ 17، وطائراتي اليوشن 28 دون طيارين على أن نقومم بتسليم الطائرات في مطار عبد الناصر في ليبيا".
اغتيال الغشمي
شهدت سنوات السبعينيات تنازعًا على السلطة بين اثنين من أبرز قيادات الجبهة القومية، وهما: رئيس الدولة سابقًا سالم ربيّع علي، وأمين عام الجبهة القومية عبد الفتاح اسماعيل. لكن ما رجّح كفة عبدالفتاح اسماعيل هو حادث اغتيال رئيس اليمن الشمالي أحمد الغشمي في 24 يونيو 1978، حيث اتهم سالم ربيّع علي بتدبيره من خلال مبعوث أرسله إلى أحمد الغشمي.
وكتب علي ناصر في مذكراته: "استمرت المعارك حتى الساعة الخامسة والنصف من اليوم الذي انفجرت خلاله المعارك، قبل أن يستسلم الرئيس في النهاية، بشرط أن يسلم نفسه تحديدًا لعلي عنتر الذي كان يعدّه صديقًا، طالبًا منه أن يكتب له ضمانًا بسلامة حياته. وبالفعل كتب علي عنتر بخط يده، ووافق الرئيس على ذلك. فتوقّفت المعركة في دار الرئاسة، وكان المكتب السياسي للجبهة في حالة انعقاد في المنزل الذي يقطنه الأمين العام عبدالفتاح اسماعيل.
وقال البكري إن "أحمد الغشمي انقلب على الحمدي وقتله. وكان سالم ربيّع علي تجمعه علاقة صداقة قوية بالحمدي، وكانا قبل مقتل الحمدي بيوم، يخططان للالتقاء في عدن لإعالن الوحدة اليمنية، أو خارطة طريق الوحدة اليمنية. فاستعجل الجناح غير الوحدوي في الشمال، فقتل الحمدي. ما دفع سالم ربيّع علي إلى التخطيط للثأر للحمدي".
وأضاف: "يُقال إن سالم ربيّع علي أرسل شخصية بحقيبة دبلوماسية إلى صنعاء، ودخل إلى مكتب الغشمي الذي قُتل بانفجار قنبلة موضوعة في الحقيبة الدبلوماسية. وهذه قصة مشهورة في التاريخ السياسي اليمني".
وقال إن "الجناح اليساري كان يريد تصفية كل التيار المحافظ في الجنوب، وكان على رأسهم سالم. ووجدوها فرصة لقتله، باتهامه أنه تسبّب في مقتل الغشمي".
ويروي ناصر علي أنه في هذا الاجتماع، أصدرت اللجنة المركزية بيانًا تعلن فيه إعدام الرئيس سالم ربيّع والسيطرة الكاملة على الوضع.
القصر المشؤوم
تولّى عبدالفتاح اسماعيل الحكم خلفًا للربيّع نهاية عام 1978، لكنه اضطر للاستقالة في أبريل/ نيسان 1980، ليتولى علي ناصر بعدها حكم الجنوب.
وهكذا انتقل علي ناصر محمد إلى ما أسماه في مذكراته بـ"القصر المشؤوم". ولا يفارق ذهنه مشهدان: الأول- خروح الرئيس الأول للجمهورية قحطان الشعبي والصراعات التي شهدتها فترة حكمه القصيرة. أما المشهد الثاني، فكان مشهد إعدام سالم ربيّع علي.
كان علي ناصر يُدرك أن الانفراد بالسلطة هو الطريق الوحيد للقضاء على الصراعات بين القيادات التاريخية للجبهة، فأزاح أنصار عبدالفتاح اسماعيل من المكتب السياسي، وأحكم قبضته على البلاد، فسيطر على الجيش والأمن.
لكن هذا الانفراد بالسلطة كان سببًا في ظهور كتلة من المعارضين له، كان من بينهم علي عنتر، نائب الرئيس علي ناصر. ومع حلول عام 1985، عاد الانقسام إلى المشهد بقوة، حتى أن مناطق كأبين وشبوة كانتا مواليتين لعلي ناصر، في حين أن لحجة وحضرموت كانتا للمعارضة، وأن النزاع كان يدور حول السيطرة على عدن.
كان لهذا الصراع دور في إجبار علي ناصر على الدعوة علنًا إلى عودة عبد الفتاح اسماعيل إلى اليمن الجنوبي.
ويكشف الرئيس علي ناصر في مذكراته، أنه التقى عبدالفتاح اسماعيل في موسكو في أكتوبر/ تشرين الأول 1984، وأن الأخير طلب منه أن يرافقه في رحلة العودة إلى اليمن، لكنّ علي ناصر قد حذّره من هذه الخطوة، قائلًا له إنه يمكنه العودة لكنه في الوقت نفسه لا يضمن سلامته.
حينها فوجىء علي ناصر بعناصر من المخابرات الروسية يدخلون إلى قاعة الاجتماع تغمرهم السعادة؛ حينها علم علي ناصر أن المخابرات الروسية كانت في هذا الاجتماع قبل أن تحضره، لدرجة أنه وصفهم في مذكراته بـ"الجواسيس الذين يزعمون أنهم أصدقاء اليمن".
وكتب علي ناصر: "استغرق اللقاء حتى الثانية صباحًا، وقد شعرت ألا فائدة ترجى من إقناعه وإثنائه. ما دمت مصرًا على العودة إلى اليمن، فأهلًا وسهلًا بك، بامكانك أن تعود وقت تشاء. ولكنني أرى من واجبي أن أقول لك إنني أخشى أن يكون هذا آخر سفر لك إلى خارج الوطن. إنك تحفر قبرك بيدك، وعليك أن تتحمل نتائج اختيارك وقرارك. فأنت لا تعرف على ما يبدو شيئًا مما يدور في عدن، بدليل أنك لم تعرف سابقًا أنك ستغادر السلطة إلا بعد أن طلب منك بعض حلفائك من أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية تقديم استقالتك".
وأضاف علي ناصر: "المهم أنني أعطيته ما يريد، وما كان قد زيّنه له المطبّلون والمزيّنون". فرشوا له طريق الموت بالورود. وكان أول من علّق على قرار عودته، وزير الدفاع صالح مصلح، قائلًا: "عبدو غلّط في الحساب".
"كلنا مسؤولون"
يتحدّث علي ناصر في مذكراته عن آخر الفصول الدامية في تاريخ اليمن الديمقراطية. وتحت عنوان "كلنا مسؤولون"، تستعرض المذكرات أحداث 13 يناير الدامية، او ما عُرف بـ"مذبحة المكتب السياسي" عام 1986.
فيحكي أنه قبيل أيام من هذه الاحداث تلقّى اتصالًا من السفير اليمني في لندن، صالح عبدالله المثنّى، يطلب مقابلته بشكل عاجل. وعندما قابلة أخبره أن لديه معلومة مؤكدة أن الأطراف الأخرى في الحزب تخطط لاغتياله.
لكن المفاجأة التي تكشفها المذكرات هو الاتصال الذي دار بين الرئيس ناصر محمد وعلي عبدالله صالح، والذي أخبره فيه صالح أنه استقى معلومات من الملك السعودي فهد والرئيس المصري حسني مبارك فحواها أن اسرائيل ستقوم بضرب معسكرات الفلسطينيين في عدن.
يقول علي ناصر إنه أخبر صالح مصلح، وزير الدفاع آنذاك من أجل أخذ الاحتياطات اللازمة، لكن صالح مصلح حرّك قوات المدرعات ليس من أجل صد الهجوم الاسرائيلي المحتمل، ولكن بدافع خطة داخلية للتخلّص منه.
أحداث 13 يناير 1986
في 13 يناير 1986، استيقظت اليمن على حرب شوارع وتصفيات على الهوية، استمرت عشرة أيام سقط فيها أكثر من 13 ألف قتيل، واشتعلت العاصمة بالنيران.
وكتب علي ناصر: "كان الوضع صعبًا، والهواء مزروعًا بالرصاص. اتجهت من منزلي، الذي يقع على تلة لا تبعد سوى عشرات الأمتار من مبنى اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني، وقبيل الساعة العاشرة من يوم الثالث عشر من يناير، عندما اقتربت سيارتي من مدخل مينى اللجنة المركزية، وترجلت منها، انطلقت صيحات من عدد من المرافقين والحرس، الذين كانوا يتجمعون على المدخل، تطالبني بالرجوع، وتحذرني من أنهم يريدون قتلي. وما كادت هذه الصيحات تصل مسامعي، حتى انهمرت زخات كثيفة من رصاص الرشاشات باتجاهي، فقُتل ابني جمال الذي كان يقف بجانبي على الفور ".
وقال البكري، في حديث إلى "العربي"، إن الجديد في أحداث 13 يناير، هو وجود بعد قبلي مناطقي للصراع، لكن جرى تغليفه بالمسألة الايديولجية، أي وجود جناح أقرب للتجربة الصينية في مقابل جناح أقرب إلى التجربة الروسية. أما البعد الآخر، فهو أنه يتحدث عن جذور الصراع بين الجبهتين، والصراع المناطقي بين ما يسمى الزمرة والطغمة.
وأضاف أنه خلال تلك الفترة، كان هناك دور للمخابرات الروسية كي جي بي، والتي ساهمت بتصفية أطراف في الحزب الاشتراكي اليمني، إضافة إلى علاقة جمهورية اليمن الشعبية بجوارها الاقليمي، كلها عوامل مجتمعة ساهمت في انفجار أحداث 13 يناير بتلك الطريقة الدموية".
بدوره، قال نعمان، في حديثه إلى "العربي" إن الصراعات كانت تدور حول السلطة ما بين الرئيس علي ناصر محمد ورفاقه، بما وصفه الرئيس بأنه "التطرف الكوميدي"، حيث شحنوا بدعايات سياسية صاغت الكثير من مواقفهم، ورؤاهم، ولم تتح الفرصة التي تمكن من استمرار نموذج ايجابي لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
في 17 ديسمبر/ كانون الأول 1987، تم الحكم بالإعدام غيابيًا على الرئيس علي ناصر محمد، وخمسة من المتورطين معه في المجزرة. وفي مساء 29 ديسمبر من العام نفسه، نُفذ حكم الإعدام رميًا بالرصاص في خمسة آخرين.
كان علي ناصر يدرك صعوبة البقاء في عدن بعد تلك الأحداث، حيث كان يرى أن أي حصار لعدن سيجعل مصيره إما مسجونًا أو مقتولًا، كما غيره ممن تولوا الرئاسة. لذلك قرر الذهاب إلى صنعاء مع آلاف من أنصاره، وليتركها لاحقًا لاجئًا إلى دمشق.