تأسس مجمع الشفاء الطبي أكبر المؤسسات الصحية في غزة عام 1946، ويضم 3 مستشفيات متخصصة، ويعمل فيه 25% من العاملين في المجال الصحي بقطاع غزة كله.
وفي اليوم الثالث من العدوان الإسرائيلي على القطاع (9 أكتوبر/تشرين الأول 2023) بدأت إسرائيل استهدافه فيما سمّي لاحقًا بحرب المستشفيات، مستهدفة محيطه، ولم تتوقف حتى أخرجته من الخدمة.
ويختزل المستشفى سيرة صمود الشعب الفلسطيني في غزة، فرغم التدمير إلا أن إرادة الحياة لدى كادره الطبي سرعان ما انتصرت وأعادته إلى العمل ولو بشكل جزئي.
وفي صباح يوم الإثنين 9 أكتوبر /تشرين الأول 2023 وصل الطبيب الفلسطيني-البريطاني غسّان أبو ستة إلى قطاع غزة قادمًا من لندن ليتطوع في القطاع الطبي. وبعد وصوله بأقل من ساعة تم إخلاء الحي بأكمله لأن قوات الاحتلال أعلنت أنه سيتم استهدافه.
يقول أبو ستة إنه لم يستطع الوصول إلى مجمع الشفاء الطبي في اليوم نفسه بسبب شدة القصف الذي تعرض له المجمع ليلًا، لكنه تمكن من ذلك صباح اليوم التالي.
نازحون وآلاف الجرحى ولا دواء
ويضيف أبو ستة أنه صُدم من الأوضاع التي رآها، فقد كان نحو 60 ألفًا من النازحين في المستشفى وفي محيطه، إضافة إلى وصول أعداد مهولة من الجرحى إلى المستشفى، بما يفوق طاقته الاستيعابية التي تقدّر بنحو 600 سرير، بينما قدّرت أعداد المصابين والمرضى ما بين 2000 و2500 مصاب، وهو ما أدى إلى تناقص شديد في المستلزمات والأدوية وضغط كبير على الطاقم الطبي العامل في المستشفى.
ويوضح أبو ستة أن هذا العدوان يختلف عن سابقيه، ففي الماضي كانت إسرائيل تستهدف مبنى داخل الأحياء، أما في هذا العدوان فهي تستهدف الحي كله، ويقول إنه يختلف عن كل الحروب التي تطوع لتقديم العلاج فيها، في سوريا ولبنان والعراق، فإذا كانت هذه الحروب فيضانًا فإن العدوان على قطاع غزة تسونامي.
"إنها الحرب الأسوأ التي عايشتها" يقول أبو ستة، بينما يوضح أشرف القدرة الناطق باسم وزارة الصحة في قطاع غزة أنه رغم وحشية هذا العدوان فإن الطواقم الطبية راكمت خبرات كبيرة للتعامل مع الحالات الطارئة، لكن تصعيد الاحتلال لقصفه غير المسبوق، وقيامه بقطع الكهرباء والماء، جعل المستشفيات تستقبل أعدادًا كبيرة من الشهداء والمصابين دفعة واحدة على نحو غير مسبوق.
وزاد على ذلك باستهدافه بشكل ممنهج للقطاع الصحي والكوادر الطبية، ما أثر على قدرة المستشفيات وكوادرها على التعامل مع الأعداد الضخمة للمصابين، وتفاقم الأمر سوءًا بمنع الاحتلال وصول الأدوية والمستلزمات الطبية الأخرى.
غياب عن الأهل ومعايشة يومية للموت
ويقول طبيب التخدير في مستشفى الشفاء حسن الشاعر، إنه كان يتواصل مع أفراد أسرته كل ثلاثة أيام للاطمئنان عليهم فقط، فالأولوية كانت للمصابين، ويوضح الشاعر أنها الحرب الأولى التي شهدها في حياته من حيث كم الإصابات ونوعيتها، فالمصاب يصل إلى المستشفى بجسم فيه تمزقات كبيرة بسبب حجم الشظايا، ما كان يضطرهم لبتر بعض أجزاء جسمه.
ويقول الشاعر إنه كان يشعر أن الطفل الذي يصله مصابًا بمثابة ابنه، وعندما كان يأتي طفل مبتور الساق فإنه كان ينخرط في البكاء لساعتين أو أكثر.
"كنا نعمل تحت ضغط كبير"، يضيف حسن الشاعر، "بحيث كنا نضطر لإجراء العمليات الجراحية على الأرض لعدم وجود الأسرّة الكافية".
حالات إصابة غير مسبوقة
أما الطبيب في قسم الطوارئ، محمد غنيم، فيقول إن مستشفى الشفاء هو الأكبر في غزة، ويستقبل تحويل حالات من الخارج، وكثير من الحالات التي شاهدها لم يسبق له أن سمع عن خطورتها سوى في كتب الطب، ومنها الحروق من الدرجة الرابعة.
ويذكر غنيم أنه استقبل طفلًا مصابًا وأحشاؤه خارج جسده، وأنه كان يفكر كثيرًا بالتنحي جانبًا للبكاء فقط، لكن ضغط العمل لم يتح له ذلك.
"كثير من الحالات لا يمكن تحمّلها لصعوبتها لولا وجود دافع لدى الكادر الطبي لمساعدة شعبهم" يقول غنيم ويتحدث بحزن عن أنه لم يشاهد ابنته لفترة طويلة، وأنه أرسل لها فيديو له، وكلما شاهدته ظنت أنه يتحدث معها فتجيبه ولا تعلم أن أباها ما زال في مكان عمله، ولا يستطيع رؤيتها بسبب ضغط عمله الاستثنائي.
وبينما يقول الطبيب غسّان أبو ستة إنه كان ينام في إحدى زوايا غرفة العمليات، وجدت الشابة سارة أبو شرار، نفسها في خضم أزمة أكبر من عمرها.
فقد لجأت الشابة وأهلها إلى مستشفى الشفاء ومحيطه بحثًا عن الأمان، لكنها سرعان ما بدأت بالعمل متطوعة في المستشفى، خاصة أنها كانت تدرس التمريض قبل العدوان على غزة.
يقول أبو ستة إنها المرة الأولى في حياته التي يتعرض فيها شخصيًا للقصف وهو داخل مستشفى، وكانت هذه أكثر أيام حياته صعوبة، مشيرًا إلى قصف مستشفى المعمداني الذي استُدعي للعمل فيه قبل ساعات قليلة من قصفه في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
ويصف أشرف القدرة ذلك اليوم بأنه لا يُنسى، خاصة أن المعمداني ذو مرجعية دينية، ويضم آلاف العائلات النازحة، ويتوسط مدينة غزة، ما يعني أن استهدافه كان متعمّدًا بهدف الإبادة.
وعن وقائع استهداف مستشفى الشفاء وإخلائه وتدميره يروي الدكتور محمد أبو سلمية، مدير المستشفى، بمزيج من الحزن والإصرار على الصمود، كيف استُهدفت الساحة الخارجية للمستشفى في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، وقصف قسم الولادة في 17 نوفمبر، ومحاصرة المستشفى والتعامل كهدف عسكري.
يقول أبو سلمية إنه في 23 نوفمبر أُجبر على مغادرة المستشفى بمعية من تبقى معه من الكادر الطبي وعدد من المرضى، في قافلة كانت تضم سيارات إسعاف تابعة لمنظمة الصحة العالمية، حيث تم اعتقاله على معبر نتساريم، والتحقيق معه ميدانيًا هناك، وتعرّضه للضرب والإساءة اللفظية والجسدية، ومحاولة إجباره على القول إن مجمع الشفاء كان يستخدم مخزنًا لأسلحة المقاومة، وإن تحته أنفاق تستخدمها المقاومة لقصف الجنود الإسرائيليين، وهي ادّعاءات لا نصيب لها من الصحة كما يؤكد أبو سلمية.
ويسرد مدير مجمع الشفاء الطبي وقائع الأيام التي قضاها في سجن عوفر سيئ الصيت والسمعة، وتعرّضه هناك للضرب بشكل شبه يومي تقريبًا، بحيث كُسر له إصبعان وأحد أضلاعه، قبل أن يُنقل إلى سجن نفحة.
أبو سلمية وبطولة المستشفيات
ويضيف أبو سلمية أنه قُدّم ثلاث مرات إلى المحاكمة، من دون أن تُوجّه له تهمة واحدة، وقال إنه لم يقابل محاميًا خلال اعتقاله، كما لم يقابل أحدًا من العاملين في الصليب الأحمر.
وأضاف أبو سلمية أن القاضي أخبره في آخر جلسة لمحاكمته أنه لا توجد تهم ضده، وأنه موقوف حتى إشعار آخر، قبل أن يفرج عنه في مطلع يوليو/ تموز الماضي.
ويشدد أبو سلمية على أن الفلسطينيين سيعيدون بناء مستشفى الشفاء مجددًا, حجرًا حجرًا، حتى يستمر الطاقم الطبي في خدمة شعبه.
من جهته يقول أشرف القدرة الناطق باسم وزارة الصحة في القطاع، إن قوات الاحتلال أعادت اقتحام الشفاء في 18 مارس/ آذار الماضي، وهو ما يصفه أبو سلمية بالرغبة في التدمير، حيث أخرج المستشفى من الخدمة تمامًا، وكانت قبور جماعية في باحاته، لكن ذلك لن يحول دون بنائه مجددًا.
"لقد قالوا إنه يحوي أنفاقًا وأسلحة وكذبوا، ودمروا المستشفى لإخراج غزة كلها وليس المستشفى من الخدمة" يقول أبو سلمية، وهو يتحدث بفخر عن تضحيات الكوادر الطبية في قطاع غزة تحت القصف والرصاص.
أما القدرة فيتحدث بفخر أيضًا عن إعادة افتتاح قسم الاستقبال وجزء من قسم غسيل الكلى في المستشفى في سبتمبر/أيلول الماضي، ويصف الأمر بـ"المعجزة".