في الكلمة التي ألقاها في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، وصف نائب الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم، رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري بـ"الأخ الأكبر"، معلنًا تأييد الحزب للحراك السياسي الذي يقوم به لوقف إطلاق النار مع إسرائيل.
كان ظهور قاسم هو الثاني بعد اغتيال الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، في السابع والعشرين من سبتمبر/ أيلول الماضي، في غارة جوية على أحد مقرات الحزب في الضاحية الجنوبية، شكّلت "نقطة فاصلة" بين مرحلتين، وقيل بعدها إنّ الحزب أضحى "بلا قيادة".
وتشن إسرائيل غارات جوية غير مسبوقة على لبنان تشمل العاصمة بيروت وضاحيتها الجنوبية منذ 23 سبتمبر الماضي، وذلك في سياق ما تقول إنه مسعى إلى تصفية الحزب وتدمير حاضنته الشعبية، ما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى إخراجه من المعادلة السياسية الداخلية.
ويقول مسؤولون أميركيون إن اغتيال نصر الله وفّر الفرصة لتقليص نفوذ الحزب، وانتخاب رئيس جديد للبلاد لا يخضع لمعادلات القوة التي كرّسها الحزب وحلفاؤه في الداخل وإيران.
وقد طرح كلّ ذلك تساؤلات حول الدور الذي يلعبه رئيس مجلس النواب نبيه بري في هذا السياق، في ظلّ انطباع بأنّه قد يكون "البديل" عن نصر الله لبنانيًا، علمًا أنّه سبق أن قاد مفاوضات وقف إطلاق النار بين الحزب وإسرائيل خلال حرب تموز 2006، وقال إنّه سيواصل ذلك، "بالتوافق مع حزب الله".
أهداف الحرب.. وأهمية حراك بري
قد لا يكون الدور الذي يلعبه بري جديدًا إذًا، فهو مارسه عام 2006 بوجود نصر الله، لكنّ الحرب الحالية تبدو مختلفة عن سابقتها، خصوصًا على مستوى حجم الخسائر الكبير في صفوف الحزب، وفي أهداف إسرائيل منها.
يتجلّى ذلك في قول مسؤولين إسرائيليين إنهم لن يتوقفوا قبل تصفية الحزب، ما يبرز الخطر الوجودي الذي يواجهه الحزب الذي فقد في الأيام الأولى من العدوان عليه أبرز قادته السياسيين والميدانيين، وعلى رأسهم نصر الله نفسه.
وسط هذه الأجواء، تتركز الأضواء على الشريك الثاني لنصر الله، نبيه بري، فيما تسمى الثنائية الشيعية في لبنان، للحد من خسائر حزب الله لا العسكرية وحسب بل مكانته داخل المعادلة السياسية اللبنانية التي قد تتضرر كثيرًا، ويتضرر معها نفوذ ما يصفه مناوئو الحزب بالشيعية السياسية في البلاد، وتشمل رئيس مجلس النواب نفسه الذي يترأس حركة أمل.
وبالفعل، تلقى بري في الأيام التي أعقبت اغتيال نصر الله، مكالمات هاتفية من وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني ومسؤولون أجانب وعرب، والتقى ورئيس الوزراء نجيب ميقاتي كل على حدة مع وزيري الخارجية الفرنسي والإيراني وموفدين دوليين.
وبينما يمثل ميقاتي الحكومة اللبنانية في مباحثاته مع المسؤولين العرب والأجانب فإن تحركات بري لا تأتي في سياق ترؤسه للبرلمان اللبناني فقط، بل بوصفه ممثلاً ومعبّرًا عن حزب الله أيضًا.
فمن هو نبيه بري؟
ولد نبيه بري في مدينة فريتاون (عاصمة سيراليون) عام 1938 لأب يتحدّر من بلدة تبنين في جنوبي لبنان، وهاجر إلى سيراليون حيث عمل في تجارة الماس. وعلى خلاف كثيرين من أقرانه الذين ولدوا في قرى وبلدات جنوبي البلاد توفرت أوضاع بري الابن على كثير من اليسر المادي والاجتماعي.
درس الثانوية في العاصمة بيروت عام 1958 وتخرج في الحقوق من الجامعة اللبنانية عام 1963، وأكمل دراساته العليا في جامعة السوربون في العاصمة الفرنسية باريس.
ظهر بري في المشهد السياسي اللبناني بالغ التعقيد في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وانخرط في صفوف حركة المحرومين التي أسسها رجل الدين الشيعي موسى الصدر، وهي حركة اجتماعية وإصلاحية كانت تهدف للدفاع عن الشيعة في بدايات الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990).
وباختفاء الصدر في ظروف غامضة خلال زيارة رسمية إلى ليبيا عام 1978، واستقالة خليفته على رأس الحركة النائب حسين الحسيني عام 1980، أصبح بري رئيسًا لحركة أمل التي ورثت حركة المحرومين بعد أن انبثقت عنها باعتبارها جناحها العسكري.
شارك بري في عدد من الحكومات اللبنانية بين عامي 1984 و1992، حيث تولى حقائب العدل والموارد المائية والكهربائية والإسكان وشؤون الجنوب والإعمار، قبل أن يصبح نائبًا في مجلس النواب عام 1992 ورئيسًا له في العام نفسه، وهو المنصب الذي بقي فيه لما يزيد على ثلاثة عقود، بعد أن أعيد انتخابه سبع مرات، ليصبح من أطول رؤساء مجالس النواب في العالم على الإطلاق.
بين بري ونصر الله.. تكامل أم تناقض؟
على خلاف نصر الله، زعيم حزب الله، الذي كان يظهر دائمًا في زي رجال الدين، وبلحية كثيفة، وفي صفوف رجاله من مسلحي الحزب، لم يشاهد بري أبدًا مرتديًا زي رجال الدين الشيعة، بل ببدلات أنيقة تعكس طبيعة حياته اليومية والمناصب التي تقلدها وآخرها رئاسة مجلس النواب اللبناني.
لكنّ الفوارق بين الرجلين لا تقتصر على هذه التفاصيل، بل تنطلق من الجذور، فبينما كان والد بري تاجر ماس، كان والد حسن نصر الله (1960-2024) يعمل بائعًا للخضار والفواكه، علمًا أنّ الأمين العام السابق لحزب الله نشأ في منطقة الكرنتينا ( شمال شرق بيروت)، التي يسكنها ذوو الدخل المحدود واللاجئون.
وبعكس بري، لم يقصد نصر الله الجامعات اللبنانية أو السوربون لتلقى تعليمه بل النجف حيث تلقى المرحلة الأولى من الدراسة الإسلامية في الحوزة العلمية، واضطر لقطعها وإكمال دراسته في الحوزة الدينية في بعلبك لاحقًا.
وممّا يجمع نصر الله ببري أيضًا، أنه كان جزءًا من حركة أمل التي التحق بها في سنّ مبكرة، وتحديدًا خلال دراسته الثانوية، حيث تدرّج بالمناصب حتى أصبح عضوًا في المكتب السياسي للحركة عام 1979.
لكن بعد ثلاث سنوات، كان نصر الله واحدًا من مجموعة من الشخصيات التي انشقت عن حركة أمل وأسست حزب الله، ليتولى مهمة التعبئة وإنشاء الخلايا العسكرية، قبل أن يصبح زعيمًا للحزب، ويسمّى أمينًا عامًا له في 16 فبراير/ شباط 1992، بعد اغتيال سلفه عباس الموسوي.
بري ونصر الله.. ثنائية "العمامة والبدلة الأنيقة"
شكلت ثنائية العمامة والبدلة الأنيقة ما يمكن اعتبارها قصة صعود الشيعية السياسية في لبنان التي وجدت نفسها موزعة بين رجلين (نصر الله وبري) وحركتين سياستين (حزب الله وحركة أمل)، لكن العلاقات بين الجانبين لم تكن على ما يرام دومًا.
فإذا كانت سيرة الرجلين تبدو على طرفي نقيض طبقيًا واجتماعيًا ومرجعيات ثقافية، فإنّها تحمل أيضًا محطات خلافية مفصلية، كما جرى حين خاضا حربًا شرسة، سُمّيت بـ"حرب الشقيقين"، وذلك خلال المراحل الأخيرة من الحرب الأهلية اللبنانية.
وعُدّت هذه الحرب واحدة من المعارك "الشرسة"، إلا أنّها انتهت باتفاق سلام رعته كلّ من سوريا وإيران، تكرّس على مرّ السنوات، بعدما وجد الرجلان أنّ ما يجمعهما قد يكون أكبر، حيث ظلّا يبحثان عن مكان تحت الشمس لبيئاتهما- الأم في المجتمع والدولة اللبنانيين.
هكذا، تشكّل منذ ذلك الوقت ما بات يعرف بالثنائي الشيعي، على وقع تقدم حزب الله الذي تزايد نفوذه، وأصبح مع الوقت قوة عسكرية عابرة للحدود، ويحسب لها الحساب إقليميًا، بينما اكتفت حركة أمل ورئيسها نبيه بري بالمكاسب السياسية في البرلمان خصوصًا وفي إدارة لعبة التجاذبات الداخلية، بما يحمي ظهر حزب الله، ويقيه من السقوط الذي من شأنه لو حدث، أن يبدد مكتسبات الطائفة برمتها لا حركة أمل ورئيسها فقط.
باختصار، يمكن القول إنّ بري، أو ثعلب السياسة اللبنانية كما يوصف، ورجل التوازنات والمهمات الصعبة، حافظ على مرّ السنوات على علاقات قوية مع نصر الله، حيث كانا يتكاملان على نحو ما في تمثيل شيعة البلاد لدى قطاع كبير منهم.
فصحيح أنّ هؤلاء كانوا يرون في سلاح حزب الله القوة للدفاع عن أنفسهم، وفي نصر الله القدوة لشبانهم، لكنّهم رأوا أيضًا في بري القدرة على القيام بالمهام الأخرى، التي لا يرغب فيها نصر الله، أو يرفض الآخرون أن يقوم بها.
ومن هذه المهام، الدور السياسي الذي أتقنه بري على مرّ السنوات، قبل وبعد دخول حزب الله رسميًا إلى الندوة البرلمانية، في بلاد تشكل فيها التوازنات الطائفية حجر الأساس للعمل السياسي، وتعظيم النفوذ أو تقليصه تبعًا لذلك، ولعلّ هذه المرحلة تحديدًا تشكّل الاختبار الأكبر، وربما الأقسى، في هذا المضمار...