Skip to main content

نهوض التنين.. كيف تحوّلت الصين إلى مصنع العالم؟

الجمعة 2 يوليو 2021
يُعتبر الرئيس الصيني السابق دينغ شياو بينغ مهندس خطط النهوض الاقتصادي في البلاد

"صنع في الصين"، عبارة يتردد صداها في المراكز التجارية الكبرى كما في المتاجر الصغيرة في الأحياء الشعبية.

وكيفما بحث المرء حوله، سيجد أشياء يتجاوز عددها عدد أصابع يديه الاثنتين، مصنوعة في الصين.

لكن كيف أصبحت الصين مصنع العالم؟ وكيف تحولت جملة "صنع في الصين" إلى دليل دامغ على هيمنة هذا البلد وتأثيره في جميع دول العالم؟

قصة نهوض التنين

يُعتبر الرئيس الصيني السابق دينغ شياو بينغ مهندس خطة النهوض الاقتصادي في البلاد.

وقد وصل بينغ إلى الحكم بعد منافسات وصراعات طويلة خاضها في الحزب الشيوعي الصيني، للسيطرة على "عصابة الأربعة"، بعد انتهاء حكم سلفه ماو تسي تونغ.

وتدّعي عصابة الأربعة، وهي مجموعة داخل الحزب الشيوعي الصيني، الولاء الشديد لأفكار ماو؛ لكن بينغ استطاع في النهاية ترجيح كفة الحزب لصالحه، بعد إطلاق الكثير من خطط الإصلاح لعلاج نتائج خطط ماو تسي تونغ الاقتصادية وثورته الثقافية.

لكن قصة "نهوض التنين"، بما فيها من حروب وانتكاسات وضحايا، تعود إلى سنوات طويلة قبل استلام بينغ الحكم، وتحديدًا إلى السنوات الأولى لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني الذي يحتفل هذه الأيام بمئويته الأولى.

من المؤسس ماو تسي تونغ إلى مهندس خطط النهوض الاقتصادي دينغ شياو بينغ على جدارية في مدينة ووهان الصينية

الخطوات الأولى

يقول أستاذ علم النفس في جامعة هارفارد ستيفن بينكر، في كتاب "الملائكة الأفضل لطبيعتنا البشريّة: لماذا انخفض العنف؟": إن الزعيم الصيني ماو تسي تونغ هو أسوأ قاتل جماعي في تاريخ الطغاة.

وتتفاوت تقديرات المؤرخين حول العدد الدقيق لضحايا سياسات ماو. لكن الأرقام التي تتراوح بين 40 مليونًا إلى 65 مليونًا، تدخل ما فعله زعيم الحزب والدولة إلى لائحة أكبر الكوارث في القرن العشرين.

لكن كيف لرجل واحد أن يتسبب في قتل كل هذه الملايين؟

قاد ماو وهو على رأس الحزب الشيوعي الصيني الذي يحتفل هذه الأيام بعيد ميلاده المئة (تأسس عام 1921)، جيشًا من الفلاحين للانتصار مرة على اليابانيين في الحرب اليابانية الصينية الثانية، ومرة خلال الحرب الأهلية في البلاد.

أسس ماو جمهورية الصين الشعبية، وشرع منذ أول حكمه الذي بدأ عام 1949 بوضع أسس النظام وخطط النهوض الاقتصادي.

وحققت الخطة الخمسية الأولى بعض النتائج المثمرة، مثل زيادة عدد السكان ومتوسط الأعمار، ورفع نسبة التعليم، وتطوير الصناعة والبنية التحتية؛ الأمر الذي حرّر البلاد من الحاجة إلى الاتحاد السوفييتي في إنشاء المصانع.

لكن مشروع النهضة الاقتصادية سرعان ما قاد البلاد إلى دوامة الغرق والموت.

الزعيم الصيني ماو تسي تونغ في صورة غير مؤرخة

قفزة إلى الأمام؟

بعد الخطة الخمسية الأولى، أطلق ماو خطة سميت بـ"القفزة العظيمة للأمام".

في المؤتمر الوطني الثامن لنقابات العمال الصينية عام 1957، قال ماو الذي كان متأثرًا بشدة بستالين: إن الاتحاد السوفيتي وضع خطة هدفها اللحاق بالاقتصاد الأميركي خلال 15 سنة فقط. وبالمثل فإن خطة "القفزة العظيمة للأمام" كان هدفها اللحاق بالاقتصاد البريطاني خلال 15 سنة أيضًا.

أرادت خطة ماو استغلال كثافة عدد السكان في الصين في تحقيق نهضة سريعة. لكن تلك الخطة كانت كارثية؛ إذ جعل ماو معظم السكان الذين يعملون بالزراعة يتركون مهنهم، بهدف العمل في الصناعة، ولكن من دون خبرة حقيقية.

وأدت هذه السياسات إلى  هبوط الإنتاج الزراعي بشكل كبير، وبالتالي إلى هبوط الإنتاج الحيواني أيضًا.

ونتج عن خطة ماو مجاعة استمرت حتى عام 1962، ووصلت إلى حد لجوء الصينيين إلى أكل لحوم البشر.

ويذكر كتاب "مجاعة ماو السرية" للصحافي البريطاني جاسبر بيكر فظائع عدة من تلك المرحلة، منها أن سكان 21 قرية في مقاطعة بيانغيانغ ماتوا بالكامل.

وفي النهاية قضى ما لا يقل عن 25 مليون صيني من الجوع خلال سنوات الخطة، وقد تسربت تفاصيل تلك المرحلة إلى خارج الصين بعد مذبحة ميدان تيانانمين الشهيرة عام 1989.

الثورة الثقافية

على هامش الخطط الاقتصادية التي أدت في النهاية إلى كارثة معيشية، كان ماو يعد لـمبادرة خاصة تهدف إلى تكريس سيطرته، حتى بعد مماته.

أطلق ماو ما أسماه بـ"الثورة الثقافية"، بهدف مطاردة البرجوازيين الذين تسللوا بأفكارهم إلى الحزب الشيوعي، وتطهير النظام والبلاد من أي شخص انحرف عن "الأفكار الماوية".

ملصق دعائي يظهر الزعيم الشيوعي الصيني ماو تسي تونغ مع الفلاحين في فترة "الثورة الثقافية" لعام 1966

ومع "الثورة" الجديدة، انضم ملايين الشباب الصينيين إلى الحرس الأحمر، وهي قوة شبه عسكرية هدفها القضاء على أي أفكار أو عادات أو أيديولوجيات قديمة تتعارض مع أفكار الحزب.

ونتيحةً لهذه الثورة، قُتل وعُذب مئات الآلاف ممن اتهموا بتبني أفكار معارضة لماو، كما تعرضت مئات المدن والمتاحف للتخريب. وانتشرت الكراهية والعداء بين قطاعات الشعب، إلى أن وصلت الصين إلى شفا حرب أهلية.

الصين الجديدة

توفي ماو، صاحب مقولة "من الأفضل أن نبقى فقراء في ظل الاشتراكية على أن نغتني في ظل الرأسمالية" عام 1976، ليأتي صاحب مقولة: "الفقر ليس اشتراكية"، وينقذ البلاد من الوقوع في الهاوية، ويضعها على المسار الذي سيجعلها مصنع العالم الكبير.

تسلّم دينع شياو بينغ الحكم بعد وفاة ماو بعامين، ليطلق خطط تحويل النهج الاقتصادي في البلاد من الاقتصاد الموجه الذي يتحكم فيه الحزب، والذي يقوم وفقه بتقسيم الأرباح على العاملين والمنتجين، إلى اقتصاد السوق المعتمد في الرأسماليات الغربية.

وسمحت السياسة الجديدة للأفراد بالتملك وإدارة الشركات والمشاريع الخاصة، بلا قيد أو سقف استثماري، شرط الخضوع الكامل للدولة وللحزب الشيوعي.

وقّع بينغ أيضًا، بعد وصوله إلى الحكم بسنوات قليلة، معاهدة سلام مع اليابان، ما سمح بتحقق سلام حقيقي بين الطرفين، بعد سنوات من الحرب. كما زار أميركا وأعاد العلاقات بين البلدين وانتزع اعترافًا رسميًا ببلاده.

الزعيم الصيني دينع شياو بينغ مع الرئيس الأميركي جيمي كارتر في واشنطن عام 1979

أطلق بينغ برنامجًا إصلاحيًا يرتكز على 4 قطاعات أساسية: الصناعة، والزراعة، والبحث العلمي والتكنولوجيا، والدفاع الوطني.

فكك بينغ نظام "الكوميونات". فبدأ الفلاحون يتمتعون لأول مرة بحرية إدارة الأراضي التي يزرعونها، ويبيعون منتجاتهم في السوق ليكسبوا منها؛ فزادت مساحة الأراضي الزراعية.

أما بالنسبة للجيش، فسعى إلى تطوير بنية تحتية مدنية متفوقة، واعتبر ذلك أولوية في خطط الدفاع الوطني، لكي تتمكن الصين من امتلاك أسلحة حديثة.

ولذلك، قلص حجم الجيش عام 1985. وأحال كبار السن والضباط "الفاسدين" إلى التقاعد. ووضع خطة لتجنيد الشباب المتعلمين القادرين على التعامل مع الأسلحة الحديثة.

70 عامًا من التنمية

وضع بينغ خطة تنمية تمتد لـ70 عامًا، ارتكزت على عدة محاور: أولًا مضاعفة الناتج القومي الإجمالي وضمان حصول الناس على ما يكفي من الغذاء والملابس عام 1980.

وتحقق ذلك بالفعل في نهاية الثمانينات.

المحور الثاني من الخطة هدف إلى زيادة الناتج القومي الإجمالي بـ4 أضعاف في نهاية القرن العشرين. وقد تحقق ذلك بالفعل عام 1995، أي قبل 5 سنوات من الموعد المحدد.

أما بالنسبة إلى المحور الثالث، فقد تضمن زيادة نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي إلى مستوى البلدان المتوسطة المتقدمة بحلول عام 2050.

وقد ارتفع متوسط ​​الأجور الشهرية في الصين بالفعل من 55 دولارًا عام 1990 إلى نحو ألف دولار عام 2018.

كما سمح الزعيم الصيني للبلديات والمحافظات بالاستثمار في الصناعات الأكثر ربحية، ما شجع الاستثمار في الصناعات الخفيفة، وزاد معدل النمو الذي تقوده الصادرات.

وعلى إثر هذا القرار، تمكنت البلاد من إعادة استثمار ما نتج عن هذا النمو، في تحقيق إنتاج أكثر تقدمًا من الناحية التكنولوجية، وفي شراء الآلات والمعدات كثيفة التكنولوجيا من اليابان والغرب.

وفي النهاية، وبعد أن سحق الحركة الطلابية عام 1989، تخلى بينغ عن كل المناصب العليا في البلد والحزب.

لكن الحزب الذي كان يقترب من بلوغ عامه السبعين سيظلّ الحزب الوحيد الحاكم في البلاد.

المتظاهر المجهول أو "رجل الدبابة" الذي وقف أمام رتل عسكري في ساحة تيانانمن عام 1989

استفاقة التنين

أدت خطوات دينغ إلى استفاقة التنين من سباته، ففي عام 2001، احتفلت الصين بانضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، ويمكن اعتبار هذا التاريخ بداية تحوّل الصين إلى مصنع العالم.

وعام 2014، أصبح الاقتصاد الصيني أكبر اقتصاد في العالم فيما يتعلق بقوته الشرائية؛ وخلال 10 سنوات أو أقل، يمكن أن يتجاوز اقتصاد الصين نظيره الأميركي من حيث قيمة الناتج المحلي الإجمالي أيضًا.

أما عام 2018، فأصبحت نسبة الأمية في البلاد أقل من 5%، بعد أن كانت تصل إلى 35% في نهاية عهد ماو.

وبلغ متوسط نمو الناتج المحلي السنوي للصين 9.5% حتى عام 2018؛ وهي وتيرة وصفها البنك الدولي باعتبارها "أسرع نمو مستدام من قبل اقتصاد رئيسي في التاريخ".

وقد مكّن هذا النمو الصين من مضاعفة ناتجها المحلي كل 8 سنوات، وساعد على انتشال ما يقدر بنحو 800 مليون شخص من الفقر.

آفاق السيطرة

تملك الصين شركة هواوي، وهي الشركة الأكبر حاليًا في إنتاج وتصنيع معدات الاتصالات، وتصل إيراداتها إلى أكثر من 100 مليار دولار سنويًا، وتبيع أكثر من 200 مليون هاتف.

قبلها، وتحديدًا عام 2008، تم تسجيل 30 مليون شركة خاصة في الصين، لتشكل هذه الشركات 60% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يضم 80% من العمالة الصينية، وما يوفر 90% من فرص العمل الجديدة.

بالإضافة إلى ذلك، دفع هذا التطور الصناعي الشركات والمصانع الأميركية للإنتاج من داخل الصين؛ وتأسست في الصين منذ بداية 2020 أكثر من 70 ألف شركة أميركية.

وبالعودة إلى عام 2008، وبعد أزمة اقتصادية طاحنة ألمت بالولايات المتحدة، شكّلت بكين سندًا لواشنطن، وتضاعف الاستثمار الصيني في الديون الأميركية، فوصل ما تملكه الصين من الدين الأميركي حاليًا لـ1.1 تريليون دولار، ما يمثل تقريبًا خُمس الديون الأميركية.

الحزام الصيني

في عام 2013، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ عن مبادرة "الحزام والطريق"، وهي مبادرة ضخمة لمشروعات بنى تحتية تهدف إلى ربط نصف سكان الأرض تقريبًا ببعضهم البعض، بمشاركة نحو 100 دولة، من بينها دول أوروبية.

وأعلنت الصين عام 2015 عن خطة طموحة للغاية لتفادي تباطؤ النمو وتراجع نسبه في السنوات الأخيرة، في البد الذي تشمل فيه الصناعة كل شيء: السكك الحديدية، والسفن والغواصات الحديثة، والطائرات والروبوتات وتكنولوجيا المعلومات.. وصولًا إلى صناعة الفضاء.

انتكاسات في حقوق الإنسان

لكن في مقابل "القفزات الهائلة" في الاقتصاد، سجّلت الصين خطوات كبيرة إلى الوراء في المجال السياسي ومجال حقوق الإنسان؛ فالنظام الصيني هو أحد أكثر الأنظمة شمولية في العالم، ويواجه اتهامات بانتهاكات فادحة لحقوق الإنسان في قضايا عدة، ومنها الاعتقال الجماعي لأقلية الإيغور المسلمة في معسكرات سرية.

ويسعى النظام باستمرار للتحكم في حياة نحو مليار و400 مليون إنسان، وفي سبيل ذلك، توّظف الحكومة الصينية تقنيات متطورة وأعدادًا هائلة من الشرطة.

صراع العمالقة

مع الصحوة الاقتصادية للتنين الصيني، زادت حدة الصراع مع أميركا، في حرب باردة جديدة للسيطرة على عرش اقتصاد العالم.

ومن "المنافسة غير العادلة"، حيث الدعم الحكومي الصيني للمصانع والمنتجات، إلى "سرقة التكنولوجيا" بحسب الاتهامات الأميركية التي تشمل عدم احترام مبادئ حقوق الملكية والتجسس، يخوض البَلدان حربًا غير عسكرية يحشدان لها الحلفاء ويسخّران في سبيل الفوز فيها كل الإمكانات.

ووضعت أميركا في عهد دونالد ترمب كل العراقيل الممكنة لإبطاء نمو الصين، والحفاظ على عالم لا يكون فيه "التنين" مهيمنًا لأطول فترة ممكنة.

وبالفعل، وقعت إدارة ترمب بعد سنة واحدة من وصوله إلى البيت الأبيض قرارًا برفع التعريفات الجمركية بنسبة 25% على ما قيمته 250 مليار دولار من الواردات من الصين، لترد الصين بالمثل، ولتفتح جبهة جديدة من الصراع.

الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الأمريكي دونالد ترمب خارج قاعة الشعب في بكين حيث اجتمعا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017

لكن ساحات الصراع لم تتوقف عند الجانب الاقتصادي، بل شملت قضية الإيغور، الأقلية المسلمة المضطهدة من قبل نظام الحكم في بكين، وهونغ كونغ حيث تسيطر الصين رويدًا رويدًا على الحكم، وصولًا إلى النزاع على بحر الصين الجنوبي.

وكما في عهد ترمب، كذلك في عهد خليفته جو بايدن ظل الصراع السياسي والاقتصادي يسيطر على العلاقات بين عملاقي العالم.

وفي مطلع يونيو/ حزيران الماضي، وبينما كان الحزب الشيوعي الصيني يقترب من الاحتفال ببلوغه 100 عام من العمر، تكاتفت مجموعة الدول السبع الكبرى للوقوف في وجه "التهديد الصيني".

وأقرت مجموعة السبع بهذا الصدد خطة عالمية واسعة النطاق من البنى التحتية، للدول الفقيرة والناشئة، طرحها الرئيس الأميركي جو بايدن، لتنافس مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، سواء في أميركا اللاتينية أو إفريقيا أو آسيا.

لكن وعلى الرغم من العراقيل الأميركية التي تحاول كبح التقدم الصيني قليلًا، من المحتمل أن يخيم ظل التنين الصيني على عرش العالم في السنوات القليلة القادمة.



للمزيد من القصص، تابعوا قناة أنا العربي على يوتيوب
المصادر:
العربي
شارك القصة