نهاية شهر حزيران/ يونيو الماضي رحل عن هذا العالم السياسي الأميركي دونالد رامسفيلد، الذي يُعدّ أحد مهندسِي غزو العراق، إلى جانب كولن باول الذي شغل منصب وزير الخارجية الأميركية في تلك الحقبة.
على مسافة زمنية من قرار الحرب التي كلّفت العراق أثمانًا باهظة، والتي جاءت بُعيد نحو عامين على هجمات 11 سبتمبر/ أيلول التي شهدتها أميركا، قدّم الرجلان في مذكراتهما تفاصيل عن كواليس المشهد في إدارة جورج بوش الابن، ومواقف متباينة من تلك الخطوة.
تسويق وإسقاط
كان باول وزير الخارجية وحامل رسالة تسويق الحرب إلى العالم، فيما كان دونالد رامسفيلد وزيرًا للدفاع وقائد الجيش الذي سيسقط حكم صدّام.
وفي موجز لما عُدّ آخر المعارك الكبرى التي خاضتها الولايات المتحدة في العقود الأخيرة، وبدأتها في العشرين من مارس/ آذار لعام 2003، فإن قواتها ملأت مدعومة بقوات دولية أرض العراق وسماءه.
وكانت مهمتهم على أرض الرافدين تتلخّص بالآتي: إسقاط النظام ورئيسه صدّام حسين، والحصول على أسلحة الدمار الشامل.
وبينما تحقّقت الأولى من دون عناء كبير، مرّ عام تلو عام ولم يعثر أحد إلى اليوم على تلك الأسلحة. فخرج قادة الحرب الأميركية ومهندسوها ليقرّوا بأنهم كانوا مخطئين، ولم تكن هناك أسلحة نووية في العراق.
كيف تمّ ربط هذا الغزو بالاعتداءات التي شهدتها الولايات المتحدة في شهر سبتمبر عام 2001؟
بوش.. القائد المهزوم
مثّلت أحداث سبتمبر صفعة قوية هدّدت حينها مستقبل بوش الابن السياسي، ومهدت لأفول حظه في انتخابات رئاسية مقبلة كان يرى نفسه فيها صاحب الكفّة الراجحة وسط خصومه.
وعلى أطلال مركز التجارة العالمي خطب بوش بُعيد أيام على وقوع الهجمات على هذا المركز ومبنى البنتاغون، متوعّدًا ومنذرًا ومعلنًا بداية عهد جديد عنوانه الرئيس: "الحرب على الإرهاب".
وبينما كان على القائد المهزوم أن يبحث عن نصر سياسي سريع يرمّم به شعبيته المهددة بالانهيار، كان الحل في الشرق الأوسط: في أفغانستان، ومن ثم في العراق.
11 سبتمبر وغزو العراق
يقول دونالد رامسفيلد في مذكّراته إن جورج بوش طلب منه صباح السادس والعشرين من سبتمبر/ أيلول أي بعد 15 يومًا من أحداث 11 سبتمبر، الانضمام إليه في المكتب البيضاوي وحده، وطالبه يومها بخيارات إبداعية.
وقد فهم رامسفيلد الأمر حينها على أن الرئيس الأميركي يريد شيئًا مختلفًا عن القوة البرية الهائلة، التي تم تجميعها خلال حرب الخليج الثانية عام 1991.
ويؤكد وزير الدفاع الأميركي أن غزو العراق لم يكن من بنات أفكاره، وأن الفكرة اقترحها مساعده آنذاك بول ولفويتس، أحد أبرز الصقور في إدارة الرئيس بوش الابن، وهو رئيس أسبق للبنك الدولي.
اقرأ أيضًا من ملف: 11 سبتمبر وما بعده
-
موت ونار ودمار.. هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 في صور
-
مركز التجارة العالمي.. ما كان قبل 11 سبتمبر وما قام على أنقاضه
-
يوم سادت عقيدة "قتل العرب".. كيف أثّر 11 سبتمبر على أجهزة الاستخبارات الأميركية؟
-
أفغانستان بين موعدين.. حرب بوش على "الإرهاب" مرّت من هنا
وفيما كان قرار الحرب قد اتُخذ في أروقة البيت الأبيض، انتقلت المداولات نحو إيجاد المبرّرات والحجج القوية المقنعة للداخل الأميركي والمجتمع الدولي.
وقد حدّد بوش في خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه أمام جلسة مشتركة للكونغرس في 28 يناير/ كانون الثاني عام 2003 مبرّرات الغزو الأميركي للعراق، مؤكدًا أنه بحسب تعبيره لن يسمح لصدام، الدكتاتور الوحشي الذي يمتلك تاريخًا من العدوان والإرهاب، بالسيطرة على منطقة حيوية يهدّد من خلالها الولايات المتحدة.
وينقل رامسفيلد ما أخبره إياه بوش من حيث أنه يظنّ أن الأميركيين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 مهيّأون نفسيًا لهذه الحرب، وهم لا يمكن أن يقبلوا بوجود أي تهديد آخر لبلادهم، ولا سيما مع الاعتراف بخطورة امتلاك ديكتاتور مثل صدام حسين أسلحة دمار شامل.
وإذ يلفت إلى هذه الحجة في نهاية المطاف قوية و"تجعل قضيتنا مقبولة أمام الرأي العام والمجتمع الدولي"، يقول: إن بوش أعطى لذلك "توجيهاته إلى موظفي مجلس الأمن القومي بترتيب هذا الأمر واعداده جيدًا على وجه السرعة".
حلفاء واشنطن ومعارضة قرار الحرب
إزاء مسعاها إلى إقناع المجتمع الدولي بمبرّراتها حول الحرب، واجهت الدبلوماسية الأميركية معارضة من الخصوم التقليديين مثل روسيا والصين.
وفي بادئ الأمر عاكس مزاج أوروبي متردّد وغير مقتنع بالمبررات، ظهر تحديدًا في باريس وبرلين، ما ذهب إليه البيت الأبيض.
وفي الثاني والعشرين من يناير/ كانون الثاني أعلن الرئيس الفرنسي جاك شيراك والمستشار الألماني غيرهارد شرويدر معارضتهما الإطاحة بنظام صدام حسين، ما عكر صفو العلاقات بين الطرفين.
في هذا الصدد يقول رامسفيلد: "لقد كان موقفًا مؤسفًا لاثنين من حلفاء الولايات المتحدة القدامى. لقد استخدم المعارضون للحرب داخل البلاد فرنسا وألمانيا للادعاء بأن أوروبا تعارض موقف الإدارة من العراق".
وينفي ذلك، مشددًا على أن الغالبية العظمى من الدول الأوروبية "كانت داعمة وقد عمل عملاء صدام بنشاط لإغراء أصدقائهم في باريس وبرلين وموسكو بعروض نفطية مربحة وعقود أخرى".
ويشير إلى أن الفرنسيين كانوا "على علاقة وثيقة وطويلة الأمد معه، وقد جاؤوا يستفيدون منه بسخاء"، لافتًا إلى أن "الرئيس جاك شيراك كان قد أطلع صدام على منشآت الطاقة النووية الفرنسية في السبعينيات، كما تفاوض على اتفاق لبيع العراق مفاعلًا نوويًا".
يُذكر أنه بعد فترة وجيزة من إعلان الموقف الفرنسي-الألماني الرافض للحرب، أعلنت 10 دول من أوروبا الشرقية بشكل مشترك دعمها العمل العسكري ضد العراق، وأعلنت واشنطن في وقت لاحق نجاح دبلوماسيتها باجتذاب نحو 50 دولة إلى التحالف بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا.
على المستوى العربي، يتحدث رامسفيلد في مذكراته عن لقاءاته المتعدّدة بقادة دول عربية في الخليج وشمال إفريقيا. ويقول إنه تلقى رسالة تكرّرت على مسامعه كثيرًا منهم: "إذا طاردت صدام فافعل ذلك بسرعة".
وصمة عار كولن باول
كولن باول الذي ألقى خطابًا شهيرًا أمام الأمم المتحدة لإقناع العالم بامتلاك العراق أسلحة دمار شامل، كان قد وقع عليه الخيار عندما قرّر بوش تقديم الولايات المتحدة عرضًا رئيسًا في مجلس الأمن الدولي عن التهديد الذي يشكّله العراق بتحدّيه قرارات الأمم المتحدة.
وساق باول في الخطاب الحجج الأميركية لغزو العراق، وأشار فيه إلى أن "أحد أهم الأسباب التي تدفعنا إلى القلق حيال موضوع حيازة العراق الأسلحة البيولوجية هو وجود منشآت صناعة أسلحة متنقلة كانت تُستخدم من قبل لصناعة هذا النوع من الأسلحة".
وأضاف: "لدينا نماذج وصفية أولية عن مصانع أسلحة بيولوجية ذات عجلات ويمكن نقلها على سكك".
بعد سنوات كتب كولن باول عن ذلك الخطاب في مذكراته باعتباره "وصمة عار" شكلت عبئًا ثقيلًا على تاريخه السياسي.
وفيما يصفه بـ"الخطاب سيئ السمعة"، يشير إلى أنه غالبًا ما يُسأل عنه يوميًا أو يقرأ عنه في الصحف دائمًا.
ويؤكد أن "الخامس من فبراير/ شباط 2003 هو يوم محفور في ذاكرتي بحروف من نار مثل يوم ميلادي تمامًا، وسيكون هذا الحدث بعد وفاتي هو الفقرة الأبرز من فقرات نعيي في الصحف".
وإذ يستذكر سؤال المذيعة بربرا والترز له في أول مقابلة رئيسة معه بعد مغادرته موقعه الرسمي في وزارة الخارجية الأميركية: "هل هو وصمة عار في سجلك الوظيفي وسيرتك الذاتية"، يقول: "أجبت نعم، ما تم قد تم، وليس في مقدوري منعه الآن، أو الحيلولة دون منعه في الماضي فقد انتهى الأمر وعلي أن أتعايش معه".
رامسفيلد يعترف ولا يندم
على الضفة الأخرى، يدافع رامسفيلد في مذكراته عن حرب العراق، مدعيًا أن العالم أصبح أفضل حالًا بعد الإطاحة بصدام حسين، الذي كان بقاؤه في السلطة من وجهة نظره يمثل خطرًا على المنطقة.
ويعلن رامسفيلد، مع إقراره بخطأ بعض قراراته المتعلّقة بالعراق، أنه غير نادم على طريقة إدارته تلك الحرب.
ويوجّه في شهادته على أحداث تلك الفترة نقده إلى عدد من جنرالات الحرب في العراق، معتبرًا أنهم ارتكبوا أخطاء جسيمة في مسرح العمليات.