تُعد البصرة ثالث أكبر مدن العراق والعاصمة الاقتصادية له، وكانت قديمًا إحدى حواضر العلم عند العرب، حيث كُشفت فيها أسرار اللغة العربية ورُسخت قواعد النحو على يد الفراهيدي.
ويتمازج في هذه المدينة الطابع الحضري والقبلي، لكن مشاهد الرصاص المتطاير أصبحت شائعة في البصرة، حيث يتبدد ليلها صبحًا بسبب النزاعات العشائرية المستمرة.
ظاهرة النزاع العشائري المسلّح
تعيش البصرة ومنذ عدة عقود ظاهرة النزاع العشائري المسلّح إلّا أنها استفحلت وزادت بعد عام 2003 إثر احتلال الولايات المتحدة الأميركية للعراق وغياب سطوة الأمن.
يبلغ عدد سكان البصرة قرابة 3 ملايين نسمة، وتشمل عشرات القبائل التي تنتشر على جغرافية المدينة. ويتركز النزاع العشائري شمالي المدينة ولا سيما في القرنة والهارثة والكرمة.
ويخشى أفراد العشائر ممن شاركوا في نزاعات سابقة من الكشف عن هويتهم للعلن خوفًا من ملاحقتهم. وجالت كاميرا "العربي" في بعض المناطق ككرمة علي، وتحدث من تغلّب على خوفه عن الفوضى التي ترافق معارك النزاع العشائري. ولا تزال تلك المناطق تعيش في أزمات كبيرة منها غياب البنى التحتية والخدمات، حيث يعيش الناس في ظروف بدائية.
معارك دامية
وفي القرنة، أكّد الشيخ قاسم المالكي الذي يرأس قبيلة بني مالك آل ساري وهي إحدى أكبر قبائل البصرة، أن بعض القبائل تستخدم الأسلحة الثقيلة، وحتى أن بعضها يستخدم طائرات مسيرة.
ويقول المالكي: "تستمر المعارك بين قبيلتين متنازعتين لنحو يوم ونصف اليوم تستخدم فيها جميع الأسلحة". ويؤكد أن المعارك غالبًا ما تدور بسبب أموال الربا حيث لا معارك مذهبية أو نزاعات داخلية.
وفي مضيف بني مالك، جلس شيوخ ووجهاء عشائر أخرى من البصرة وتحدثوا عن أسباب وجود النزاعات العشائرية. ويشير الشيخ ماجد الصمد، شيخ عشيرة الحمداوي آل إبراهيم إلى أنه لا ينقاد وراء خلاف شباب من عشيرته مع آخرين من عشائر أخرى، بل يسأل عن الأسباب كي لا يجر العشيرة إلى القتال العبثي حيث يموت الناس لأسباب تافهة.
ويرى الوجهاء الآخرون أن أسباب النزاعات تتمحور حول البطالة والتعدي على الممتلكات والوافدين الذين يأتون للسكن في البصرة. ويجد سكان مناطق شمالي البصرة أن مشكلتهم تتمثل في صعوبة إيجاد فرص العمل، حيث يعمل عدد كبير منهم في تربية الجواميس وسط غياب الدعم.
وتفاقمت الأزمة بعدما جفت الأهوار من الماء وتلاشت زراعة السمك وعائداتها. ويرى أحد السكان أن إشغال الشباب بالعمل قد يكون كافيًا لإبعادهم عن النزاعات.
من هي العشائر المتنازعة؟
يشير مستشار محافظ البصرة لشؤون العشائر الشيخ محمد الزيداوي، في حديث إلى "العربي" إلى أن معظم النزاعات ارتكزت بين عشيرة الإمارة وعشيرة أخرى، وبين عشيرة القرامشة وأخرى وغيرها.
ويعتبر أن وجود النفط عزز من هذه النزاعات، فبغياب الدولة عمدت العشائر للاستيلاء على الاستثمارات النفطية وعائداتها بعد السيطرة على منطقة ما، بحسب الزيداوي. واستولت الدولة بعد ذلك على بعض الآبار النفطية وأعطت بعض العشائر تعويضات حُرمت منها عشائر أخرى ما عزز النزاعات بينها.
وتنال عشيرة القرامشة نصيبها من كل نزاع وحتى وإن لم تدخل فيه. أُخذت عليها هذه السمعة نظرًا إلى كثرة النزاعات العنيفة التي خاضتها، بحسب أحد شيوخ هذه العشيرة، الشيخ كاظم عبار الكرمشي الذي يؤكد امتلاك العشيرة للأسلحة الثقيلة كغيرها. لكنه يشدد على أن عددًا قليلًا من أفراد العشيرة يدخلون النزاعات ولا يعني ذلك أن عشرات الآلاف من الأبناء يشاركون فيها.
البحث عن الحماية
ومن جهته، يعتبر الباحث في الشأنين السياسي والاجتماعي، إياد الإمارة في حديث إلى "العربي"، أن المثقف العراقي والمتدين والأكاديمي يعود عشائريًا مرة أخرى مهما بلغ من درجات الرقي الثقافي والتحصيل العلمي.
ويقول: "هو عشائري بطبيعة الحال، ونحن أمام معضلة في هذا الشأن"، فالعشيرة هي الضمانة له حيث لا وجود للدولة التي توفر الحماية، حسب قوله.
ويعتبر أن إمكانيات العشائر لناحية العدة والعديد قد تفوق قدرات الدولة التي لا تظهر عن جدية حين تستغيث بعض العشائر بها لفك النزاعات.
وتقوم القوات العراقية بحملات عدة لسحب السلاح من العشائر بين فترة وأخرى ولكنها لم تبسط نفوذها على تلك المناطق بشكل تام.
ويعتبر المالكي أن المنطقة تحتاج للجيش وإرساء القانون لتوفير الحماية للسكان. ويؤكد أن عناصر قوة الجيش الموجودة في المنطقة قليلة، فيما لا توفر الحكومة المركزية الحماية الحقيقة للعشائر وأفرادها.
ويوضح الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة اللواء يحيى رسول أن القوات المسلحة استطاعت إلقاء القبض على عدد من المتورطين بالنزاعات ومصادرة الأسلحة.
من أين يأتي السلاح للعشائر؟
وتستخدم العشائر الأسلحة المتوسطة والثقيلة ومنها الـ "بي كي سي" ومضاد الطائرات والهاون فضلًا عن أسلحة أميركية خفيفة مثل "إم16" وإم 4".
ويؤكد المالكي أن العشائر استولت على أسلحة بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق. كما تشتري الأسلحة من محافظات أخرى.
وينفي رسول هذا الأمر، فيما يشير الزيداوي إلى أن جهات نافذة وأحزاب هي من تؤمن السلاح والذخيرة للعشائر.