يجد العديد من الأطفال السوريين اللاجئين في تركيا أنفسهم مضطرين للعمل بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي يواجهونها.
يبحث هؤلاء الأطفال عمّا يسد رمق جوعهم وعوز أسرهم من خلفهم، وتجد شركات عالمية كبرى ضالتها في هذا العوز، مستغلة انعدام الرقابة الحكومية.
هي ماكينات تعمل ليل نهار تزداد فيها الأرباح من تعب وشقاء أطفال حُرموا التعليم، وفقدوا الأمل بالعيش بمستقبل أفضل.
وفي "عين المكان" يكشف تحقيق "العربي" كيف يتم تشغيل أطفال قصّر من اللاجئين في صناعة الملابس، وكيف تتحكم في مصائرهم وقوت يومهم شبكة من السماسرة، وسط غياب وربما غضّ طرف من قبل الشركات الكبرى وتحايل أرباب العمل على القانون.
عمالة اللاجئين السوريين الأطفال في تركيا
يوسف من بين مئات آلاف حالات عمالة اللاجئين السوريين الأطفال في تركيا، حيث يتم تشغيلهم بمصانع صغيرة تنتج وتصدّر الألبسة من تركيا إلى السوق الأوروبية.
في الصباح الباكر، يصل يوسف ذو الثالثة عشرة إلى مكان عمله في مصنع للملابس لبدء ورديته الممتدة حتى ساعات الليل.
محل الخياطة الذي يعمل فيه يقع في حي باغجلار في مدينة اسطنبول، التي انتقلت إليها عائلته - التي كانت قد نزحت إلى إنطاكية - عقب وقوع الزلزال المدمر في فبراير/ شباط الماضي.
يقول يوسف إنه غادر وعائلته سوريا إلى تركيا قرابة عام 2013.
ولأكثر من 10 سنوات ظلّت تركيا وجهة الكثير من اللاجئين السوريين منذ اندلاع الحرب في بلادهم. ويعيش فيها حاليًا ما يقرب من 3.5 ملايين لاجئ سوري من بينهم أكثر من مليون طفل.
ولا توجد تقديرات دقيقة لعدد الأطفال السوريين العاملين في تركيا، إلا أن مؤسسات عمالية تركية تقدر عددهم بحوالي 300 ألف طفل.
في هذا الصدد، يشير طه الغازي، الناشط الحقوقي، إلى تقرير وزارة العمل الذي صدر العام الماضي وأشار إلى أن عدد الأطفال القصّر في تركيا ممن يتواجدون في سوق العمل بلغ 620 ألف طفل.
ويتوقف عند تقارير "هيئات ومنظمات غير حقوقية مختصة بقضايا العمال منها مجلس السلامة والصحة المهنية، فيلفت إلى أن تقرير هذا الأخير بيّن أن عدد الأطفال القصّر في سوق العمل بتركيا بلغ 2 مليون طفل، منهم ما يقارب 300 ألف طفل سوري لاجئ. ويردف بأنهم يعملون "في ظروف قاسية غير إنسانية".
وبحسب تقرير المجلس، تأتي الزراعة في طليعة القطاعات التي يعمل فيها الأطفال السوريون اللاجئون في تركيا، يليها قطاع الصناعات النسيجية، فقطاع صناعات الأحذية، وقطاع خدمات المطاعم والفنادق.
الزلزال أثقل كاهل الأسر
وبينما لا تُعد عمالة الأطفال اللاجئين ظاهرة جديدة، إلا أنها استفحلت في الآونة الأخيرة. ففي فبراير من هذا العام وقع الزلزال المدمّر في جنوب تركيا، الأمر الذي أثقل كاهل العائلات السورية اللاجئة، واضطر أطفالها إلى البحث عن عمل للتخفيف من وطأة الظروف المعيشية.
وقد كان ملفتًا حجم عمالة الأطفال التي تم رصدها في 3 مدن رئيسية هي اسطنبول وبورصة وغازي عنتاب.
فهذه المدن تزخر بنشاط واضح لمصانع وورش النسيج. وقد تمكن فريق "عين المكان" من الدخول إلى بعض المصانع في اسطنبول ورصد تشغيل أطفال قصّر فيها.
هناك، يقضي الأطفال ما لا يقل عن 12 ساعة يوميًا في ظروف قاسية يحوطها الإهمال، ويتلقون مقابل عملهم أجورًا ضئيلة تقارب الخمسين ليرة تركية أي ما يعادل نحو 2.5 دولار في اليوم الواحد.
وبالحديث مع بعض الأطفال، كان الكلام والتعب البادي على وجوههم دالًا على محنة حمل ما لا طاقة لهم بهم.
يوسف الذي تتمحور مهمته في أحد المصانع حول قصّ القماش الملوّن ثم فرزه حتى يكون جاهزًا لماكينات الخياطة، هو كحال جميع الأطفال السوريين الذين تحدثنا إليهم، يعرف أنه يتعرض لعملية استغلال لكنه لا يملك بديلًا.
فأسرته تعاني من عجز تام عن تأمين قوت يومها من دون مساعدة ابنها في ظل ظروف مادية صعبة.
وتقول والدته إنه يخرج في الصباح الباكر ويعود عند العاشرة مساء، مذكّرة بمقدار صعوبة المعيشة في مدينة اسطنبول عقب الانتقال إليها.
وتستذكر الأحوال في أنطاكية عندما كان نجلها يرتاد المدرسة، أما اليوم فلم يعد بوسعه متابعة تعليمه، لاضطراره لمساعدة والده في إعالة الأسرة.
وحتى قبل وقوع الزلزال وفي ظل الارتفاع المتزايد لتكلفة المعيشة في تركيا وسوء الأوضاع الاقتصادية، اضطر عدد كبير من الأطفال السوريين للعمل لمساعدة عائلاتهم.
وبينما يذكر الناشط الحقوقي طه الغازي أن عدد الأطفال العاملين اليوم في سوق العمل، وفق إحصائيات مجلس السلامة والصحة المهنية، بلغ 2 مليون طفل، يقول إن العدد يرتفع في فترة الصيف إلى 5 ملايين طفل تقريبًا ويشكل منهم الأطفال السوريون قرابة 30%.
ويتوقف عند ما أشار إليه المجلس من أن السنوات العشر الأخيرة شهدت فقدان ما يقارب 600 طفل لاجئ حياته في أماكن العمل.
وبالحديث عن أسباب تسرب الأطفال السوريين اللاجئين من المدارس وانخراطهم في سوق العمل، يشير إلى جانب الأسباب الاقتصادية وغلاء المعيشة إلى أسباب أخرى مثل العنصرية والتنمر التي يتعرض لها الطفل اللاجئ من قبل أقرانه الأتراك.
شركات عالمية وشبكات سماسرة
إلى ذلك، تمكن فريق "عين المكان" من مقابلة يزن الذي يملك ورشة حياكة ألبسة. يزن نفسه سوري الجنسية، وعند مواجهته بتشغيله لأطفال في ورشته كان رده أن ما من خيار ثان أمام أسر اللاجئين السوريين؛ فإما عمل أطفالهم أو مواجهة الأسوأ.
ويقول إن العمّال في الورشة يعملون طيلة أيام الأسبوع بين 10 و12 ساعة باستثناء الآحاد والأعياد الرسمية على غرار الفطر والأضحى، ويتقاضون أجورهم بشكل يومي. ويؤكد أنه "يتم احترام الأطفال"، وفق تعبيره.
وخلال عام 2022، عُدت تركيا من أكبر المصدرين إلى أوروبا بعد الصين وبنغلادش، حيث استوردت القارة العجوز منها 17.5 مليار دولار من المنسوجات والملابس.
وبتحليل التبادل التجاري بين تركيا وأوروبا، تبيّن أن العديد من العلامات التجارية الأوروبية مثل "زارا" و"نيويوركر" و"مانغو" و"نَكست" وغيرها تفضل تصنيع ملابسها في تركيا لكونها قريبة من أوروبا ولتعاملها السريع مع طلبات الإنتاج الملحة.
وقد حصل فريق التحقيق على وثائق تثبت أن شركتَي "نَكست" و"إتش اند أم" أقرتا في عام 2015 باكتشاف أطفال لاجئين سوريين يعملون في المصانع التركية التي تنتج ملابسهم.
وفي رد مكتوب، قال ممثلون عن هاتين الشركتين إنهم اتخذوا الإجراء المناسب ولا يوجد اليوم عمال من اللاجئين الأطفال يعملون في الشركات التي تورد لهم الألبسة.
ويبقى من الصعب إثبات ما إذا كانت الشركات العالمية المصنعة في تركيا تغض الطرف عن حالات عمالة الأطفال بسبب أجورهم المنخفضة، أو إن تشغيل الأطفال يكون دون علم هذه الشركات.
لكن المستفيد في الحالتين هو شبكات السماسرة، التي تستقطب الأطفال للعمل في الورش والمصانع.
إلياس واحد من مئات السماسرة المحليين المنتشرين بشكل غير قانوني في عدة مدن تركية، وهو يقدم للأطفال وأسرهم عروضًا مغرية بالعمل في مصانع حياكة الملابس مقابل حصوله على نسبة من أجرهم عند تشغيلهم.
ولا يعترف إلياس بأن ما يقوم به هو استغلال لظروف هؤلاء الأطفال. ويقول إنه يتواصل مع أصحاب الورش سواء أكانوا سوريين أم أتراكا لتشغيل الأطفال مع تقاضي حصة مقابل ذلك.
ويلفت إلى أن الشركات تدفع له أكثر عند تشغيل أطفال بعمر صغير، "لأنهم يتعلمون بسرعة ولا يتكلمون كثيرًا". ويردف بأنه "أمّن عملًا خلال السنوات الثلاث لنحو 3.5 ألاف طفل".
علام ينص القانون التركي بشأن عمالة الأطفال؟
تكشف الأدلة التي حصل عليها فريق التحقيق وتُعرض للمرة الأولى، عن إجراءات اتخذتها 13 علامة تجارية أوروبية لحماية اللاجئين السوريين في سلاسل التوريد الخاصة بها.
وتشمل هذه الإجراءات مراقبة المصانع التي تخيط لها الملابس بشكل دوري لضمان سلامة المعايير.
كما تفرض الحكومة التركية رقابة على معظم المصانع والورش، لكن هناك دومًا وسائل احتيال يختفي بها هؤلاء الأطفال عن الأنظار عندما يصل المراقبون الحكوميون وممثلو الشركات.
يُضاف إلى ما تقدم أنه يتم التعاقد بين ورش الخياطة والمورّدين من الباطن وبشكل غير مصرّح به في سلسلة التوريد. وهناك مصانع أخرى لا يزورها المراقبون من الأساس.
ويشير غزوان قرنفل رئيس تجمع المحامين السوريين إلى أن قانون العمل في تركيا رقم 4 و857 يحظر أولًا عمل الأطفال دون الخامسة عشرة بشكل قاطع.
ويقول إن الأطفال بين 15 و18 عامًا أتاح لهم القانون فرصة العمل خارج وقت الدراسة، على غرار العطل الصيفية، فارضًا في الآن عينه شروطًا للعمل وأنواعًا من الأعمال مناسبة لهذه الفئة العمرية.
ويقدم أمثلة على ذلك مهمة مساعد في محل بقالة أو مكتب أو مكتبة أو في محل أزهار، على ألا تتجاوز ساعات العمل السبع ساعات متضمنة ساعة استراحة الغداء.
لكن كيف يصل الخبر إلى أصحاب الورش حول موعد وصول المراقبين فيتم إخفاء الأطفال عن عيونهم قبل إعادتهم إلى العمل، وما الذي يرويه بكور عن تجربته في العمل بالورش والمصانع في سنوات الطفولة؟
الإجابات وأكثر في الحلقة المرفقة من برنامج "عين المكان"، التي تتناول عمالة اللاجئين السوريين الأطفال في تركيا.