تعتبر كرة القدم في رأس هرم الرياضات التي يتابعها الناس، حيث يتخطى عدد مشاهدي الدوري الإنكليزي الممتاز على سبيل المثال 3 مليار مشاهد، فيما شهدت النسخة الأخيرة من كأس العالم تفاعل نحو 6 مليار إنسان.
وتشير التقديرات بشأن نهائي البطولة التي أُقيمت على أرض دولة قطر، وتواجه خلاله منتخبا الأرجنتين وفرنسا، إلى أنه حصد مشاهدة مليار ونصف المليار شخص.
أما ماليًا، فعلى الرغم من كثرة الحديث عن كرة القدم وتحولها إلى "استثمار كبير"، حيث تنفق مئات ملايين الدولارات لانتداب لاعب ويتم دفع أجور "خيالية" لعدد كبير من اللاعبين، إلا أن التدقيق بالأرقام يبيّن أن المجال لا يوفر استثمارًا جيدًا بل يمكن وصفه بالسيئ.
ففي الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية تبلغ مجمل مداخيل الأندية 18 مليار و600 مليون دولار، بينما سجلت مجمل مداخيل أندية الدوري الإنكليزي الممتاز لموسم 2021/22: 6.8 مليار دولار.
صحيح أن عدد سكان الولايات المتحدة يفوق 330 مليون نسمة مقابل 67 مليون في بريطانيا، إلا أن عولمة الألعاب الرياضية جعلت من جماهيرها تتخطى حدود الدولة المضيفة، لا سيما في ما يتعلق بالمداخيل التجارية للأندية من إعلانات ومبيعات ومشاهدات تلفزيونية وغيرها.
وفي موسم 2021/22 كان "مانشستر سيتي" النادي الأكثر تحقيقًا للمداخيل في عالم كرة القدم مع 782 مليون دولار. وفي المركز الثاني، حل ريال مدريد بمداخيل بلغت نحو 764 مليون دولار.
في المقابل، وصلت مداخيل "دالاس كاوبويز" في الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية NFL لعام 2022 إلى 1.140 مليار دولار.
وفي تقرير لها، نشرت مجلة "فوربس" لائحة بأكثر الأندية الرياضية قيمة من حيث القيمة السوقية فحلّ ريال مدريد في المرتبة الـ13 بقيمة 5.1 مليار دولار، خلف أندية أميركية لكرة القدم والبايسبول وكرة القدم الأميركية.
ومن المستغرب أن تكون 3 أندية كرة قدم فقط بين أغلى 20 ناد في العالم، في الوقت الذي يعتبر فيه "الفوتبول" اللعبة الأكثر شعبية ويشاهدها نصف سكان الكوكب.
فكيف للعبة يعد جمهورها بالمليارات ألا تصل مداخيلها إلى نصف مداخيل لعبة لا يتجاوز عدد مشاهديها 10% من حجم جمهور كرة القدم؟ ولمَ توصف هذه الأخيرة – على الرغم من شعبيتها ومليارات الدولارات التي يتم تداولها فيها – بأنها استثمار سيئ؟
هوة شاسعة بين الدوريات
يصل مجمل عائدات كرة القدم الأوروبية إلى 29.5 مليار يورو، لكن الهوة شاسعة بين الدوريات الخمس الكبرى: الإنكليزي والإسباني والألماني والإيطالي والفرنسي، وكل الدوريات الأوروبية الأخرى.
ويتعمق غياب التوازن بين مداخيل الدوريات حتى الخمسة أعلاه عامًا بعد آخر؛ ففيما يحقق الدوري الإنكليزي الممتاز عائدات بقيمة 6 مليار و450 مليون يورو، فإن مجموع مداخيل الدوري الإسباني الذي يعد الثاني في اللائحة توازي نصف مداخيل الدوري الإنكليزي الممتاز مع 3 مليار و270 مليون يورو.
ثالثًا يحل الدوري الألماني بـ3 مليار و150 مليون يورو، والدوري الإيطالي بـ2 مليار و 350 مليون يورو، والفرنسي بـ2 مليار يورو.
ولا تتوقف الهوة بين الدوري الإنكليزي الممتاز وبقية الدوريات الأخرى عند حجم الإيرادات، بل الأهم أنها تطال أيضًا حجم الأرباح أم الخسائر.
فقد حقق الدوري الإنكليزي بعد حسم مصاريف الأندية في موسم 2021/22 أرباحًا إجمالية بقيمة 542 مليون يورو، والدوري الألماني أرباحًا بقيمة 227 مليون يورو.
أما الدوري الإسباني فقد سجّل خسائر بقيمة 82 مليون يورو، والإيطالي كانت خسائره بقيمة 412 مليون يورو، فيما وصلت خسائر الدوري الفرنسي إلى 599 مليون يورو.
في المحصلة، حققت الدوريات الخمس الأكبر أوروبيًا وبصورة إجمالية خسارة بقيمة 324 مليون يورو، على الرغم من 17.2 مليار يورو عائدات.
ومن الجدير الإشارة إليه، أن الهوة بين الدوريات الخمس الأكبر وبقية الدوريات الأوروبية تقلل من التنافسية على الصعيد الأوروبي.
وإلى جانب تناقص عدد النوادي التي تفوز من خارج الدوريات الخمس الأفضل خلال الأعوام الأخيرة، فإن عدد الأندية التي تبلغ الدور نصف نهائي تناقص أيضًا في دوري أبطال أوروبا، وبات المرشحون للفوز لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة.
لكن في ما يخص تحقيق الدوري الألماني أرباحًا، فإن مردّه ليس إلى قدرته على منافسة الدوري الإنكليزي في المداخيل، بل للانضباط المالي الذي يفرضه الاتحاد الألماني على الأندية الألمانية.
ويلزم الاتحاد الألماني كل ناد بتقديم موازنة مع كل موسم يؤكد فيها عدم الإنفاق على أجور اللاعبين ما يفوق المداخيل العامة.
ففي حين تنفق أندية الدوري الفرنسي 87% من عائداتها على الأجور، ومن بعدها الدوري الإيطالي مع نسبة 83%، والدوري الاسباني 73%، والإنكليزي 67%، فإن الدوري الألماني يحل مع النسبة الأدنى بـ 59%.
وتلخص هذه الأرقام إشكالية كرة القدم، حيث يشكل الإنفاق على الأجور البند الأكبر في نفقات الأندية.
إلى ذلك، تعتبر أرباح الدوري الإنكليزي الممتاز مضللة فعليًا، فالـ 542 مليون يورو هي أرباح تشغيلية، أي لا تشمل احتساب التبادلات المالية لانتداب اللاعبين.
وفي الحسابات الإجمالية، فإن أندية الدوري تسجل خسائر إجمالية. ففي موسم 2021/22 بلغت قيمة الخسائر 703 مليون يورو، بحسب تقرير ديلويت المالي السنوي، بينما نقلت "ذا تايمز" أن الخسائر قاربت المليار باوند استرليني، دون ذكر الديون بحوالي 3.1 مليار يورو.
سوء الإدارة المالية للأندية
لكن، لماذا تسجل أندية كرة القدم، حتى الأكثر جذبًا للمداخيل منها خسائر دائمة، وكيف يمكنها انتداب لاعبين بعشرات ملايين الدولارات ودفع أجور كبيرة؟
يمكن تقسيم أسباب سوء الإدارة المالية لأندية كرة القدم إلى عدة أسباب أساسية، على رأسها حجم المحفزات المالية الضخم لتحقيق نتائج جيدة في عالم كرة القدم على صعيدَي النتائج المالية المباشرة والفوز بالدوري والتأهل للدوريات الأوروبية مثل "تشامبينز ليغ" و"يوروبا ليغ"، أو للأندية الأضعف عدم الهبوط للدرجة الثانية.
ومن الأسباب أيضًا، النتائج المالية غير المباشرة المرتبطة بالأداء على أرض الملعب على العائدات التجارية للأندية. أما النتائج المباشرة فمن آثارها المالية على سبيل المثال، حصول كل ناد على 15.640 مليون يورو عند التأهل لـ"تشامبينز ليغ".
ومع كل فوز في مباراة بدور المجموعات يحصل النادي على 2.8 مليون يورو، ومع التعادل على 930 ألف يورو، ومع التأهل إلى دور الـ16 يحصل النادي على 9.6 مليون يورو، وللربع النهائي 10.6 مليون يورو، ونصف النهائي 12.5 مليون يورو.
كما يحصل وصيف البطل على 15 مليون و500 ألف يورو، والبطل على 20 مليون يورو.
وعليه، تصل الجوائز المحتملة إذا ما حقق فريق أفضل نتائج ممكنة في البطولة إلى أكثر من 85 مليون يورو، دون احتساب عائدات حضور الجمهور في الملعب، والإعلانات التي ترتفع قيمتها لكل فريق، والإعلانات في الملعب، وعائدات النقل التلفزيوني التي يصل مجموعها لنحو 300 مليون يورو وتتوزع على الأندية.
ويضاف إلى ما تقدم ارتفاع قيمة الفريق ماليًا، ما يرفع من العائدات التجارية التي من المعقول تحقيقها من ربط اسمه بأسامي الرعاة والمعلنين.
أما الهبوط من الدوري الممتاز إلى championship، التي توازي الدرجة الثانية، فإن آثارها المالية هائلة أيضًا، حيث يصل مجموع الخسائر من جراء خسارة عائدات النقل التلفزيوني وأسعار البطاقات والمردود التجاري لأكثر من 120 مليون دولار.
ولهذه الأسباب يتحول الأمر إلى نوع أشبه بسباق تسلح لدى أغلب الأندية لمحاولة جذب أفضل اللاعبين.
إلى ذلك، فإن امتلاك الأندية من جانب أشخاص لا يبغون أصلًا تحقيق الأرباح ظاهرة يترجمها بشكلها الحديث امتلاك الملياردير الروسي رومان ابراموفيتش لنادي تشيلسي عام 2003.
الرجل كانت ثروته تقدر بأكثر من 5.7 مليار دولار، وفور وصوله تم استقدام 13 لاعب جديد في أقل من شهرين بقيمة 110 مليون جنيه استرليني.
وبعدما أثبتت هذه الطريقة فعاليتها بفوز تشيلسي بالدوري بعد سنتين، ثم بدوري الأبطال وكل البطولات الممكنة في المستقبل، سادت قناعة بإمكانية النجاح في عالم كرة القدم إذا ما توفرت القدرة على الاستثمار بصورة أكبر.
هكذا، بدأت اللعبة بجذب ثروات تقدر بالمليارات وبما أن الـpremier league أو الدوري الإنكليزي الممتاز أصبح الدوري الأكثر انتشارًا تركز اهتمام المستثمرين فيه بشكل غالب.
وأدت هجمة الأموال الضخمة على عالم كرة القدم بأسعار انتداب اللاعبين وأجورهم للتضخم بشكل هائل في السنوات التالية، ما انعكس على كل الأندية التي أصبحت مضطرة على المنافسة في هذه الأجواء الجديدة.
أما في ثالث الأسباب لسوء الإدارة المالية لأندية كرة القدم فيأتي سوء الإدارة بشكل عام، وفي رابعها الطبيعة المتسرعة باتخاذ القرارت الرياضية عند الأندية، إلى جانب عدم وجود أي عواقب أمام الخسارة المالية.