أكد المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الدكتور عزمي بشارة وجود "قناعة أميركية" بضرورة إنهاء حرب غزة، تجلّت في كلام الرئيس الأميركي جو بايدن الذي قال إنّ "الوقت قد حان لإنهاء الحرب"، وذلك في معرض عرضه للمبادرة الإسرائيلية لوقف إطلاق النار.
ورأى بشارة في حديث إلى "العربي"، في سياق التغطية المفتوحة للعدوان الإسرائيلي على غزة، أنّ بايدن "أضفى لمساته" على المبادرة الإسرائيلية بما في ذلك طريقة الانتقال من مرحلة إلى أخرى، ملمّحًا إلى أنّه بذلك "يكبّل" رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشكل أو بآخر.
وأعرب عن اعتقاده بأنّ المقاومة الفلسطينية ستتعامل بإيجابية مع صيغة المقترح الذي طرحه بايدن، وتحديدًا مع النبرة والمفردات التي استخدمها، لكن قد تطلب تأكيدًا إسرائيليًا عليها، مشدّدًا على انّ إيجابيتها لا تعني قبول المقترح كما هو، بل التفاوض على بعض تفاصيله.
ولفت بشارة إلى أنّ المأزق الإسرائيلي الحقيقي يكمن في عدم وجود تصوّر لديهم حتى الآن لليوم التالي للحرب في غزة، ولا سيما بغياب أيّ قوة منظّمة تستطيع أن تستلم القطاع في حال انتهت الحرب اليوم، مشيرًا إلى أنّ الأميركيين في المقابل لديهم تصوّر ويحاولون فرضه على نتنياهو.
وفيما أكد أنّ السردية الإسرائيلية اهتزّت في الدول الغربية، ولا سيما أنّ تل أبيب لم تكن في السابق بحاجة لقمع الإعلام والطلاب كما يحصل اليوم، أشار إلى أنّ الملاحقات القضائية لنتنياهو ووزير أمنه يوآف غالانت سيكون لها تأثير في المجتمع الإسرائيلي على المدى الطويل.
ورأى أنّ الإسرائيليين سيدركون في لحظة ما تحولهم إلى عبء على الدول الأخرى إذا استمرت سياسة الحكومة الحالية، ملاحظًا أنّ القضية الفلسطينية تحرج الدول الغربية بسبب طبيعة علاقتها مع إسرائيل كطفل مدلل.
أما فلسطينيًا، فجدّد بشارة القول إنّ الحلّ يكمن في التوافق على حكومة وفاق وطني بمشاركة فصائل المقاومة وإعادة بناء منظمة التحرير لاحقًا، مشدّدًا على أنّ هذا الأمر قد لا يكون حلاً مثاليًا في ظلّ المعطيات الحالية، لكنه المخرج الوحيد حاليًا.
وشدّد بشارة كذلك على أنّ تضامن الفلسطينيين داخل الخط الأخضر مع أهلهم في غزة جزء من هويتهم الوطنية ويصب في مصلحتهم، منبّهًا ممّا وصفه بـ"التدهور" في إشارة إلى نهج التخلي عن المواقف الوطنية، ولافتًا إلى أنّ المجتمع العربي في الداخل يعاني من أزمة خطيرة جدًا.
لمسات بايدن "ربما لن تعجب نتنياهو"
من قراءة خطاب الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي عرض فيه ما وصفه بالمقترح الإسرائيلي الشامل لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، انطلق الدكتور عزمي بشارة في حديثه لـ"العربي"، حيث لفت إلى أنّ الكلام الأميركي في هذا السياق "مهمّ"، ولا سيما لجهة التأكيد على ضرورة إنهاء الحرب.
واعتبر أنّ أهمية الخطاب تتجلى في أنّ الرئيس الأميركي خرج لتقديم المبادرة الإسرائيلية، وهو ما قد يبدو غريبًا، إذ ليس نتنياهو الذي ألقى كلمة يعرض فيها المبادرة وإنما الرئيس الأميركي، الذي أضفى تفسيرات أميركية على المقترح، "ربما لن تعجب نتنياهو"، كما قال.
ومن هذه التفسيرات مثلاً حديثه عن إنهاء الحرب، وهو ما لا يقوله الإسرائيليون صراحةً، وكذلك تشديده على أنّ المراحل الانتقالية شبه حتمية ولن تكون خاضعة للتفسيرات الإسرائيلية، بمعنى أنّ الانتقال من مرحلة لأخرى شبه فوري، على أن يبقى وقف النار ساريًا حتى لو لم يحصل اتفاق.
ولاحظ الدكتور بشارة أنّ بايدن ردّ في معرض تقديمه للمبادرة الإسرائيلية على قول نتنياهو إنّ إسرائيل تريد مواصلة الحرب "حتى لا تتكرر 7 أكتوبر مرّة أخرى"، حيث قال له إنّه ضمن ذلك من الآن، أخذًا بالاعتبار أنّ "حماس لم تعد قادرة على تنفيذ هجوم آخر مثل 7 أكتوبر"، على حدّ قوله.
وتحدّث في هذا السياق عن "جدلية مشوّقة" في الكلام الذي يجري الآن، موضحًا أنّ "رئيس أميركا أخذ المبادرة الإسرائيلية وعرضها بطريقته بحيث تكون مقبولة من العرب ومن المعارضة الإسرائيلية"، داعيًا إلى ترقّب موقف نتنياهو منها، وإن قال إنّ الأخير "لا يستطيع تجاهل" تفسيرات بايدن.
كيف ستتعامل المقاومة مع المقترح الإسرائيلي؟
وفي حين أكد بشارة أنّ حركة حماس لم تتعاطَ بجدية مع المبادرة الإسرائيلية قبل كلام بايدن، انطلاقًا من التجارب السابقة، حيث كان نتنياهو يرسل فريقًا أمنيًا ليفاوض ثمّ يتنصل من الاتفاقيات التي يتوصل إليها، شدّد على أنّه لا يوجد أيّ سبب لدى الحركة حتى لا تلتزم بالتزاماتها.
وأكد أنّ ما يهمّ حركة حماس، وما تتقاطع عليه مع فصائل المقاومة الفلسطينية بصورة عامة، هو وقف إطلاق النار الدائم والشامل، والانسحاب الإسرائيلي من غزة، معربًا عن اعتقاده انطلاقًا من ذلك، بأنها ستتعاطى بإيجابية مع المفردات التي استخدمها بايدن، لكنها قد تطلب تأكيدًا إسرائيليًا عليها، "بمعنى أنّها ستقول إنّ كلام بايدن نتعاطى معه بإيجابية، ونري أن نسمعه من إسرائيل".
وبالحديث عن الانسحاب من غزة، لفت بشارة إلى أنّ الإسرائيليين لا يبقون أساسًا في أيّ منطقة مأهولة يدخلون إليها أكثر من المدة "اللازمة" برأيهم لإنجاز العملية العسكرية، وهم موجودون الآن فقط في غلاف داخلي لقطاع غزة وفي نتساريم ورفح.
لكنّه شدّد على أنّ مطلب المقاومة الفلسطينية هو أن تنسحب إسرائيل من قطاع غزة وليس فقط من المناطق المأهولة، معربًا عن اعتقاده في الوقت نفسه بأنّ الانسحاب من نتساريم يمكن أن يكون في المرحلة الأخيرة من الاتفاق، إذا ما تمّ التوصل إليه فعليًا.
ماذا عن وقف إطلاق النار؟
وفي ما يتعلق بوقف إطلاق النار، لفت بشارة إلى أنّ ما قاله الرئيس الأميركي جو بايدن علنًا، هو ما كان يقوله في الغرف المغلقة منذ فترة طويلة، وتحديدًا مع القادة العرب، لجهة أنه "يضمن" عدم العودة إلى إطلاق النار بعد مراحل الهدنة الثلاث، التي قد تصل إلى زهاء 90 يومًا. وقال: "كان بايدن يقول ذلك في أحاديث خاصة، لكنه الآن يقولها في التلفزيون وعلنًا، أنه في هذه الحالة سيكون هناك وقف لإطلاق النار، لكن نريد أن نرى ماذا سيقول نتنياهو".
وفي مطلق الأحوال، شدّد بايدن على أنّ المقاومة الفلسطينية لن تسلم كل من لديها قبل التوصل إلى وقف شامل لإطلاق النار، مضيفًا: "لن يقبلوا بتسليم كل الأوراق قبل وقف دائم وشامل لإطلاق النار وانسحاب إسرائيل من قطاع غزة، بمعنى أنّهم لن يتنازلوا عن كل ما لديهم من دون اتفاق على وقف إطلاق النار".
وفيما لفت بشارة إلى أنّ بايدن يتحدّث عن "فرصة لإسرائيل وللفلسطينيين لوقف الحرب"، شدّد على أنّها في الحقيقة "فرصة للإدارة الأميركية" التي تريد التخلّص من "الصداع" الناجم عن الحرب وتأثيراته على الانتخابات الأميركية.
ولفت في هذا السياق إلى أنّ المبادرة الإسرائيلية لم تأتِ من فراغ وإنما بضغط أميركي دفع إسرائيل لتقبل ما كانت قد رفضته في 6 مايو، متحدّثًا عن مجموعة عوامل أسهمت كذلك في هذا الأمر، من بينها عزلة إسرائيل والمحاكمات الدولية، إضافة إلى الضغط الداخلي الإسرائيلي أيضًا.
أميركا تريد تطبيعًا إسرائيليًا سعوديًا
ورأى المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أنّ إدارة بايدن تريد تطبيعًا إسرائيليًا سعوديًا قبل الانتخابات الأميركية، مشيرًا إلى أنّه يسعى للتوصل إلى الاتفاق اليوم بحيث يخف الصداع المتعلق بالمظاهرات، وفي الوقت نفسه تبدأ عملية تطبيع علنية واضحة يريد استثمارها في الاستحقاق الانتخابي.
وأوضح أنّ الشق المتعلق بالعلاقة السعودية الأميركية أنجز، وما تبقى هو الشق المتعلق بالعلاقة السعودية الإسرائيلية، ولذلك فإنّ بايدن يعتبر أنّ الفرصة باتت الآن مؤاتية لذلك، وهو لا يريد تفويت هذه الفرصة بأي شكل من الأشكال.
لكنّ بشارة دعا إلى انتظار موقف الحكومة الإسرائيلية وكيفية تعاملها مع الموضوع، مرجّحًا أن تحاول الأخيرة "تهدئة روع" اليمين الإسرائيلي الذي قد لا يعجبه هذا الحديث، الذي قد يعني "فشلاً لإسرائيل" خصوصًا بعد عملية رفح التي لم يتحقق شيء من أهدافها. وذكّر بأنّ نتنياهو تحدّى العالم للدخول إلى رفح تحت عنوان تحرير الرهائن، والقضاء على قيادة المقاومة، لكنه لم يحقّق شيئًا من ذلك.
وانطلاقًا من ذلك، اعتبر بشارة أنّه من المبكر الحديث عن اتفاق، معربًا عن اعتقاده بأنّ نتنياهو لا يزال مصرًا على الاستمرار في الحرب، لافتًا في هذا السياق إلى تصريح مستشار الأمن القومي الإسرائيلي الذي تحدّث عن الحاجة إلى "سبعة أشهر أخرى".
"معضلة" اليوم التالي في غزة
كما تحدّث بشارة عن "معضلة أخرى" في العلاقة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والأميركيين، وفي العلاقة مع جيشه أيضًا، تكمن في أنّ نتنياهو ليس في جعبته أيّ رؤية أو تصوّر لليوم التالي في غزة حتى الآن، "وهذه كارثة بالنسبة له".
وأوضح أنّه إذا انسحبت إسرائيل من غزة الآن أو خلال 90 يومًا لا توجد قوة منظمة يمكن أن تسيطر على القطاع الآن سوى حماس، ولا سيما أنّ أي قوة عربية أو دولية لم توافق حتى الآن على استلام زمام الأمور، كما أنّ الجيش الإسرائيلي ليس مستعدًا للعودة إلى غزة.
وأشار في هذا السياق إلى تصريح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، الذي وصفه بأنّه "صهيوني في مواقفه وأفكاره"، والذي قال صراحةً إنّ "على إسرائيل أن تعطي تصوّرًا لليوم التالي". وأوضح أنّ الأميركيين لديهم تصوّر ويريدون أن يفرضوه على نتنياهو.
وأشار إلى أنّ التصور الأميركي يقوم على عودة سلطة فلسطينية "متجدّدة" لتدير الضفة والقطاع مرتكزة أساسًا على أجهزة الأمن الفلسطينية، مشدّدًا على أنّ هذا الأمر غير ممكن بدون حكومة وفاق وطني فلسطينية.
المشهد داخل إسرائيل
وبالحديث عن المشهد داخل إسرائيل، لفت الدكتور عزمي بشارة إلى أنّ ما يهمّ بايدن الآن هو أن يتفرّغ للانتخابات، ويتخلّص من الصداع الناجم عن الحرب، لكنّ خطابه هذا يمكن أن يدعم المعارضة الإسرائيلية المحتملة.
ومع تأكيده أنّ استطلاعات الرأي تُظهِر تقدّمًا لنتنياهو من حيث الشعبية على حساب خصمه المحتمل بيني غانتس، وذلك بفعل الحرب، شدّد على أن ائتلاف نتنياهو سيكون خاسرًا في أيّ تركيبة مقبلة للبرلمان وفقًا للاستطلاعات، ما يعني أنه لن يكون قادرًا على تشكيل حكومة.
وإذ لفت إلى أن الحرب طالت، من دون أن تحقّق نتائج، سوى جعل قطاع غزة غير صالح للحياة البشرية، لاحظ أنّ الجديد داخل المجتمع الإسرائيلي وفقًا لاستطلاعات الرأي أنه أصبح هناك أكثر من 60% مستعدّين لوقف الحرب مقابل إطلاق سراح جميع الرهائن.
وقال: "هذه أكثرية لصالح ما يقوله غانتس، وما هو واضح الآن أن نتنياهو لا يستطيع تشكيل حكومة لو حصلت الانتخابات غدًا ولذلك يريد أن يواصل الحرب".
حكومة توافق وطني.. المَخرَج الوحيد فلسطينيًا
فلسطينيًا، لفت بشارة إلى أنّ المناورة السياسية من طرف المقاومة مهمة لناحية التعاطي الإيجابي مع مفردات بايدن من دون قبول الورقة الإسرائيلية تمامًا، معتبرًا أنّ "على المقاومة والشعب الفلسطيني ألا يثقوا بكلام الولايات المتحدة".
وقال: "حتى الآن ثبت أن الولايات المتحدة لا تتخذ خطوات عملية حقيقية للضغط على إسرائيل في القضايا الجوهرية، وهي ما زالت تتحدث عن القضاء على إمكانيات حماس ومعاقبة من قاموا بعملية 7 أكتوبر".
ولاحظ أنّ بعض الكلام الذي قاله بايدن يترك مخارج لإسرائيل ويدفع للتشكيك، ولذلك فإنّ هذا الأمر يجب أن يُرفَض ويُفاوَض عليه، مشدّدًا على أنّ الصمود والنضال موجود وقائم ويجب المحافظة عليه.
وشدّد بشارة على أنّ الحل الوحيد فلسطينيًا هو التوافق على حكومة وفاق وطني مع المقاومة الفلسطينية، داعيًا إلى أن يكون هنالك نوع من التمايز بين حركة فتح وبين السلطة الفلسطينية. واعتبر أنه "لا يجوز أن تنقاد حركة فتح إلى مجموعة من 5 أو 6 أشخاص خلف الرئاسة الفلسطينية وأن تفقد دورها التاريخي في مرحلة يتعرض فيها الشعب الفلسطيني للإبادة".
وقال: "هذا إذا حصل هو الذي يضمن لاحقًا قيادة سياسية مرجعية للشعب الفلسطيني وحكومة وفاق وطني"، معتبرًا أنّ هذا الأمر قد لا يكون حلاً مثاليًا، لكنه المَخرَج الوحيد في الوقت الحالي.
هل تنتقل الحرب من غزة إلى الضفة؟
وفي سياق متصل، توقف بشارة عند ما تشهده الضفة الغربية المحتلة من اعتداءات وانتهاكات إسرائيلية يومية، وإلى التهديدات التي يطلقها وزير المالية الإسرائيلي يتسلئيل سموتريتشن بجعل الضفة مثل غزة.
ولفت في هذا السياق إلى أنّ سموتريتش وعصابات المستوطنين استغلّوا الحرب بعد 7 أكتوبر والأجواء الهستيرية التي قامت ووجود حليفه إيتمار بن غفير في وزارة الأمن التي أصبحت مسؤولة عن حرس الحدود الناشط في الضفة لإنشاء تحالف بين قوى الأمن والمستوطنين.
وأشار بهذا المعنى إلى كمّ الهجوم على القرى والمدن في الضفة لتصفية حسابات مع مناطق بعينها يعتبرونها إشكالية، لافتًا في السياق عينه إلى توسيع للاستيطان وإعادة للمستوطنات التي سحبوها بعد قرار فك الارتباط مع قطاع غزة.
وإذ لاحظ أيضًا الشراسة في القتل وفي الاعتقالات وعودة سياسة التعذيب التي توقفت في مرحلة ما نتيجة للضغط الدولي، قال: "هم يفعلون الكفاية، أما التهديد فهو يعبّر عن أمنيات سموتريش بفتح حرب في الضفة إذا انتهت الحرب في غزة، لكنه ليس صاحب قرار بهذا الشأن وهذا لن يكون مقبولاً على الإطلاق دوليًا".
مجزرة رفح والمحاكمات.. صورة إسرائيل تتغيّر
وفي سياق حديثه إلى "العربي"، تطرق بشارة إلى التغيّرات التي طرأت على صورة إسرائيل في الآونة الأخيرة، خصوصًا على المستوى الغربي، في ضوء ردود الفعل على مجزرة رفح، وقبلها المحاكمات الدولية، وقرارات محكمة العدل والمحكمة الجنائية الدولية.
وقال: "الإسرائيليون يرون ما يحدث حولهم ويعودون إلى عقلية الغيتو أو المنعزل"، متحدّثًا عن تراكمات ثقافية عميقة سياسية تسمح للقيادات اليمينية في إسرائيل لاستغلالها. لكنه لفت إلى أنّ ذلك مؤقت، لأنّ ما يحصل سيكون له أثر سياسي واقتصادي وثقافي على إسرائيل.
ولفت إلى أنّ إسرائيل لم تتمتع فقط بعلاقات طبيعية مع الغرب، بل بامتيازات بوصفها الابن المدلل للغرب، وفقدان هذا الأمر سيشكّل مشكلة كبيرة بالنسبة لها، متوقّعًا في هذا الإطار مظاهرات عارمة في إسرائيل بعد خطاب بايدن لأنه سيعزز الموقف الذي يطالب بإطلاق سراح الرهائن، حتى لو كان ثمن ذلك وقف الحرب.
وقال إنّ إسرائيل لم تكن بحاجة في الماضي أن يقوم أحد في الغرب بقمع الإعلام والطلاب وكان خطابها مهيمنًا، وهو ما تغيّر اليوم حيث اهتزّت السردية الإسرائيلية إلى حدّ بعيد في الغرب، مشدّدًا على أنّ الإسرائيليين سيدركون في مرحلة ما أنهم يصبحون عبئًا على دول أخرى إذا استمرّت هذه السياسة.
كيف اهتزّت السردية الإسرائيلية في الغرب؟
واعتبر بشارة أنّ الوضع المركّب الذي دخلت فيه قضية فلسطين جاء نتيجة لتداخلها مع قضيتين كبيرتين هما المسألة اليهودية في الغرب والمسألة العربية في الشرق.
فعلى مستوى الدول العربية، تحدّث عن أنظمة فاقدة للهيبة في العالم، وعاجزة عن فرض احترامها بقضية وطنية وقومية من الدرجة الأولى هي قضية فلسطين. أما على مستوى القضية اليهودية، فلفت إلى أن الغرب يُسقِطها على العرب والمسلمين عمومًا ليتنصّل من ماضيه.
ولفت إلى أنّ ما يحصل اليوم على الصعيد الغربي، لم تكن إسرائيل بحاجة إليه سابقًا، حيث كانت سرديّتها هي المهيمنة بوصفها "ديمقراطية تدافع عن نفسها"، لكن هذه السردية اهتزّت وأصبحوا مضطرين ليفرضوها بالقوة.
وقال: "هذا الذي يجري هو الإنجاز الرئيسي للصمود الفلسطيني وليس فقط للمقاومة"، مشدّدًا على أنّ "صمود الشعب الفلسطيني في وجه القمع الإسرائيلي بهذا الشكل الأسطوري حقق هذا الإنجاز".
الاعتراف بالدولة الفلسطينية.. إنجاز دبلوماسي
وتوقف المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عند اعتراف دول أوروبية بالدولة الفلسطينية، واصفًا الأمر بأنه "إنجاز دبلوماسي"، ولو بقي بلا نتائج ملموسة في الوقت الحالي.
وقال إنّه لو كان الاعتراف من دون تحديد الحدود فليس له معنى، موضحًا أنّ الدولة في العصر الحديث هي كيان ترابي territorial فإذا لم تعترف بحدودها لا معنى لها. وأضاف: "السيادة هي على الأرض وما عليها ولذلك إذا قلت أعترف بدولة هكذا في الهواء كأنك لم تعترف بشيء".
وشدّد على أنّ تحديد الحدود مهمّ لأنّه يعني أن القدس الشرقية محتلة وهي عاصمة الدولة الفلسطينية، "وبالنسبة للكيانية الفلسطينية المتمثلة حاليًا بالسلطة هذا إنجاز ليس لهم فيه أي نصيب".
وأوضح أنّ أهمية الإنجاز أنه في أي مفاوضات مستقبلية، سيكون في يد أي طرف فلسطيني يشكّل كيانية فلسطينية "اعتراف دولي بأنه سيد على حدود 1967"، معتبرًا أنّ ذلك "إنجاز دبلوماسي وإن لم يكن ملموسًا على الأرض"، مضيفًا: "المهم أن يتصرف الطرف الفلسطيني على هذا الأساس".
وعلى الرغم من أنّ الخطوة لا ترجمة ملموسة لها على الأرض، اعتبر بشارة أنّ الغضب الهستيري الذي تجلى في إسرائيل يستند إلى حصول مراجعة حقيقية للسردية الإسرائيلية، وقال: "حتى الآن توجد أكثر من 100 دولة معترفة بفلسطين، ولكن ليس في المعسكر الغربي والأوروبي تحديدًا، وهنا تكمن أهمية الموضوع".
الحراك الشعبي الداعم لفلسطين دوليًا
وفي سياق متصل، لفت بشارة إلى أن القضية الفلسطينية تحرج الدول الغربية بسبب طبيعة علاقتها مع إسرائيل كطفل مدلل، قائلاً: "هناك أساس في مطالبتنا للدول الغربية باحترام القيم التي تدّعيها، خصوصًا بعدما ظهر حجم نفاقهم في قضية تطبيق حقوق الإنسان على شعوب العالم الثالث".
وقارن الأمر مثلاً بدول أخرى تخرق حقوق الإنسان، كسوريا حيث يقصف النظام شعبه بالبراميل، لكنه لفت إلى أنّ هذا النظام "معزول ومحاصَر ومقاطَع ولا يحصل على امتيازات بخلاف إسرائيل". ولفت إلى أنّ الجديد الآن أن هناك في الغرب من يأخذ هذه القيم بجدية، وهم ينطلقون من منطلق أخلاقي.
واعتبر أنّ قضية فلسطين أصبحت لأول مرة مرتبطة بتحرر جيل كامل كقضية جنوب إفريقيا في مرحلة من المراحل، معربًا عن أمله في أن تتعامل القيادات الفلسطينية بكل أطيافها بمسؤولية مع هذه الظاهرة الجديدة، وتطوّر خطابها لكي تفهم على هؤلاء الناس ويفهموا عليها فلا يكون خطابها في واد والخطاب المتضامن في وادٍ آخر".
عرب الداخل.. "صحوة من الصدمة"
وفي ختام حديثه لـ"العربي"، وجّه الدكتور عزمي بشارة تحية لكل الذين يتظاهرون دعمًا لقطاع غزة في العالم العربي، من المغرب إلى الأردن إلى الكويت، مرورًا بمدرجات كرة القدم في مصر، وصولاً إلى أماكن أخرى.
وتوقّف بشكل مفصّل عند الوضع داخل الخط الأخضر، حيث شعر عرب الداخل للمرة الأولى بأنّ ما ينطبق على الدول الديكتاتورية من قمع ينطبق عليهم، ولا سيما بعدما بدأت إسرائيل منذ السابع من أكتوبر بوضع قواعد لعبة مختلفة، وشنّت حملة إرهابية على الناس بسبب تدوينات وتغريدات.
لكنّه قال إنّه بدأ الآن يلمس "صحوة من الصدمة"، على حدّ وصفه، مشدّدًا على أنّ تضامن الفلسطينيين داخل الخط الأخضر مع أهلهم في غزة هو جزء من هويتهم الوطنية ومنظومة القيم التي تحافظ على المجتمع، لكنه أيضًا يصبّ في مصلحتهم حتى لا يخسروا حقوقهم السياسية التي تحاول إسرائيل أن تعيد النظر فيها.
ولاحظ بشارة وجود بعض الأوساط في السنوات الأخيرة التي راجعت الموقف الوطني وأصبحت أكثر استعداداً للاندماج في الائتلافات والحكومات الإسرائيلية، معتبرًا ذلك "أمرًا خطيرًا". ونبّه ممّا وصفه بـ"تدهور لمنهج بدأ بمحاولة الفصل بين المطالب المدنية والحياتية وبين الموقف الوطني باعتبار أنّ الدخول في الحكومات يمكّن عرب الداخل من تحصيل حقوق".
وقال: "هذه حقوق مشروعة، لكنك بسلوكك هذا ترهنها لأنك تربطها بتنازلات عن الموقف الوطني"، مضيفًا: "هذا النهج الذي شهدناه خلال السنوات الأخيرة خطير لأنّ التنازل عن المواقف الوطنية يفرغ الحقوق من مضمونها، بحيث تصبح العلاقة مع الدولة علاقة واسطة كما كانت في أيام الحكم العسكري".
وفيما انتقد بعض التصريحات "الصادمة" التي سمعناها مؤخرًا، من نوع أنّ حماس ارتكبت "جرائم حرب" في 7 أكتوبر، من دون عكس ذلك على ارتكابات إسرائيل في المقابل بالحدّ الأدنى، حذّر أيضًا من أنّ المجتمع العربي في الداخل يعاني من أزمة كبيرة جدًا متعلقة بانتشار الجريمة بشكل غير مألوف يذكّر بالأقليات في الولايات المتحدة في مرحلة ما عندما عملت أجهزة الأمن الأميركية على اختراق المجتمعات.
ونبّه إلى أن خطورة الأمر تتجلى في انهيار البنى التقليدية من دون أن يحل مكانها مجتمع مدني حديث، معطوفة على الانهيار الأخلاقي، قائلاً: "الانهيار الوطني يأتي معه انهيار أخلاقي، ولذلك لا يمكن أن نفصل الأمرين، ولا سيما أنّ التماسك الوطني يجب أن يترافق مع تماسك أخلاقي وهذا يحصّن المجتمع".
تجدون في الفيديو المرفق المقابلة الكاملة مع الدكتور عزمي بشارة، التي حاوره فيها الزميل خالد الغرابلي، وناقشت مجموعة من المحاور بينها المقترح الإسرائيلي لوقف إطلاق النار، وخطاب الرئيس الأميركي جو بايدن، إضافة إلى الحراك الدولي الداعم لغزة، وتغيّر صورة إسرائيل في الغرب.