تحاكم إسرائيل أمام محكمة دولية للمرة الأولى، وذلك لاتخاذ إجراءات قانونية صارمة وملزمة بحقها وسط العدوان المستمر الذي تشنه على قطاع غزة. وقد كانت كلمة السر في هذه المحاكمة: جنوب إفريقيا.
ففي اليوم التالي لأحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، أعلن الاحتلال الإسرائيلي حالة الحرب على قطاع غزة المحاصر، وبدأ بشن عملية انتقامية ما تزال رحاها تدور منذ أكثر من 4 أشهر، استخدم فيها كل أنواع الأسلحة وعدّ كل ما في القطاع "هدفًا مشروعًا" في تجاوز صارخ للقانون الدولي.
شمل الهجوم الإسرائيلي المنازل والمناطق المكتظة بالمدنيين. كما شمل المستشفيات والمدارس ودور الرعاية والبنية التحتية الأساسية للقطاع، وقطع الخدمات كافة من الماء والكهرباء والاتصالات عن غزة.
وخلّف العدوان على القطاع أكثر من 30 ألف شهيد فلسطيني، علمًا أن أكثر من نصف عدد الضحايا هم من الأطفال والنساء.
وفي هذا الصدد، يوضح مدير مركز عدالة لحقوق الإنسان حسن جبارين أن الاحتلال قتل ما يزيد عن 1% من سكان قطاع غزة، وهو ما يوازي 700 ألف فرنسي من أصل عدد سكان فرنسا البالغ 70 مليونًا، و2.5 مليون أميركي من أصل عدد سكان الولايات المتحدة البالغ 240 مليون.
ويقول جبارين: "هذا عدد رهيب من الضحايا، وإبادة فعلًا"، مؤكدًا أن "هدم البيوت والمدارس والمستشفيات كان منهجيًا". كما يشير إلى أن "إجبار السكان على النزوح إلى الجنوب ومنع وصول المساعدات الإنسانية والغذائية إليهم هو موت بطيء منهجي".
دعوى جنوب إفريقيا
في التاسع والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول، وفي مواجهة صمت دولي على ما يجري في القطاع، قامت جنوب إفريقيا بما تحمله من إرث نضالي تحرري ضد الفصل العنصري برفع دعوى قضائية ضد الاحتلال الإسرائيلي في محكمة العدل الدولية بلاهاي، متهمة إسرائيل بخرق معاهدة منع الإبادة الجماعية. كانت تلك ضربة مفاجئة وغير متوقعة تلقاها الاحتلال.
ويؤكد ماريوس فرانسمان، نائب وزير الخارجية السابق في جنوب إفريقيا، أن كلمة صراع مصطلح غير مناسب في توصيف لما يجري في غزة. ويقول: "إنه ليس سوى إبادة جماعية وإنه إرهاب ضد الأطفال والنساء والرجال وكبار السن الأبرياء".
ويضيف: "إذا نظرنا إلى الصلة بين ما حدث هنا وما يحدث في غزة، فإن ما يحدث في غزة هو الأسوأ. نعم عانينا من الفصل العنصري وكان هناك قمع ووحشية شديدة، ولكن ما يحدث هناك بشكل أو بآخر هو تشتيت أمة وتمزيق لكبرياء وكرامة شعب بأكمله، يبدو وكأن إسرائيل تسعى لمحوه من الوجود".
من جانبه، يعتبر المحامي والخبير القانوني علاء محاجنة أن "إسرائيل أخذت الدعوى على محمل الجد، وما زالت تفعل"، مشيرًا إلى أن "تصريحات السياسيين ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو واتهام جنوب إفريقيا بأنها ذراع قانوني لحركة حماس كلها تثبت مدى جدية هذه الدعوى".
لكم لماذا تعامل الاحتلال بجدية مع الدعوى الجنوب إفريقية؟
يكمن الجواب في لاهاي، حيث محكمة العدل الدولية التي تعد الهيئة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة وتعد قراراتها ملزمة لجميع الدول الأعضاء فيها.
ويفيد محاجنة بأن الاعتماد هو على إخلال إسرائيل بمعاهدة منع ومكافحة الإبادة الجماعية، التي تعتبر تاريخية وتمت صياغتها ووضعها في أعقاب المحرقة التي تعرض لها الشعب اليهودي على يد ألمانيا النازية.
وتعرّف المادة الثالثة من الاتفاقية أعمالًا أخرى يمكن المعاقبة عليها، وهي التآمر على ارتكاب الإبادة والتحريض المباشر عليها والاشتراك بها أو حتى مجرد محاولة القيام بها.
الفريق القانوني لجنوب إفريقيا
هكذا اتجهت أنظار العالم في الحادي عشر من يناير/ كانون الثاني، نحو محكمة العدل الدولية بانتظار ما في جعبة الفريق القانوني لجنوب إفريقيا من قرائن وأدلة.
وبينما ضم الفريق تسعة محامين معروفين بمناصرتهم للقانون الدولي وبعدد من القضايا الحقوقية، كان أبرزهم جون دوغارد الذي عمل في محكمة العدل الدولية سابقًا وكان مقررًا في الأمم المتحدة ويعد مدافعًا بارزًا عن حقوق الفلسطينيين.
كما ضم الفريق المحامي البريطاني فون لوي، الذي مثل فلسطين سابقًا في قضية الجدار العازل عام 2004، وترافع في عدد من القضايا الدولية أمام محكمة العدل.
وبرأي ديالا شحادة، المحامية السابقة في محكمة الجنايات الدولية، فإن "فريق المحامين الذي مثل جنوب إفريقيا بوصفها جهة مدعية تم اختياره وفق أعلى المعايير".
وتضيق: "من الواضح أن هؤلاء المحامين ذوو قضية، وليسوا مجرد فريق دفاعي موكل بملف على سبيل مهني".
قدم الفريق الفريق القانوني لجنوب إفريقيا ملفًا من 84 ورقة مدعمة بالأدلة إلى المحكمة؛ وقام بتلخيص بعضها في مرافعته الافتتاحية.
ومما جاء في المرافعة: "لقد اعترفت جنوب إفريقيا بالنكبة المستمرة للشعب الفلسطيني الناجمة عن الاستعمار الإسرائيلي منذ العام 1948. تضع أعمال الإبادة الجماعية الإسرائيلية وسوء التصرف في سياق أوسع من الفصل العنصري الإسرائيلي الذي دام 75 عامًا، والاحتلال المستمر منذ 56 عامًا، والحصار المفروض على قطاع غزة منذ 16 عامًا".
ويلفت حسن جبارين، مدير مركز عدالة لحقوق الإنسان، إلى أن "جنوب إفريقيا وضعت السياق التاريخي في مرافعتها، وهو ما سهل لها القول إن الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة نابعة من المبادئ العنصرية التي قامت عليها إسرائيل واستمرت".
من جهته، يشير المحامي والخبير القانوني علاء محاجنة، إلى أن الدعوى تم تأسيسها جيدًا من خلال قرائن وإثباتات تعتمد على تقارير من الأمم المتحدة صدرت خلال فترة زادت عن 97 يومًا منذ السابع من أكتوبر واندلاع الحرب، ولها ثقل ووزن ومصداقية.
"رمزية كبيرة"
واعتمد الفريق القانوني في استعراض ملف القضية الذي قدمته جنوب إفريقيا ومرافعاته، بالإضافة إلى التقارير الدولية، على إثبات خرق إسرائيل لبنود اتفاقية منع الإبادة الجماعية بوصفها مرتكزًا أساسيًا لتقديم دعوى.
كما ذكرت الورقة عددًا كبيرًا من التفاصيل الموثقة لحالات وقصص وتصريحات رسمية وكم كبير من الأدلة المتنوعة التي تم جمعها وتوثيقها بعناية طيلة أيام الحرب، وتثبت جميعها خرق بنود الاتفاقية.
وقبل سرد الأدلة والوقائع التي ارتكزت عليها، بررت الورقة أولًا لماذا تقوم جنوب إفريقيا تحديدًا برفع القضية من الناحية القانونية.
وقال فريق الادعاء: إن لجنوب إفريقيا الحق في رفع القضية كونها طرفًا في اتفاقية منع الإبادة الجماعية، ولا يشترط أن تكون الدولة المتضررة.
كما أشارت الورقة إلى أن لجنوب إفريقيا حقًا بديهيًا لتقديم نزاعها مع إسرائيل إلى المحكمة.
وفي هذا الصدد، يرى المحامي والخبير القانوني علاء محاجنة أن "تقديم القضية عن طريق جنوب إفريقيا أمر يحمل رمزية كبيرة"، مذكرًا بأنها "دولة ناضلت من أجل الحرية ضد الفصل العنصري على مدار عشرات السنوات، واستطاعت في نهاية المطاف الانتصار في المعركة".
بدورها، تعتبر أستاذة القانون الدولي في جامعة كيب تاون كاثلين باول أن ما دفع جنوب إفريقيا إلى رفع هذه القضية هو العلاقة الخاصة التي جمعتها بفلسطين خلال سنوات الفصل العنصري.
وتذكّر بأن "نيسلون مانديلا أوضح عقب أول انتخابات حرة بشكل صريح، أن جنوب إفريقيا تعتبر فلسطين دولة صديقة وحليفة، وأنه سيواصل دعمها".
وبالعودة إلى ملف القضية، اتهمت جنوب إفريقيا في مستهل الدعوى الاحتلال بانتهاك اتفاقية منع الإبادة الجماعية، حيث أن إسرائيل لم تمنع حدوثها وارتكبت تجاوزات كالقتل العمد والإيذاء الجسدي والعقلي والتحريض وغيرها من محددات الاتفاقية.
كما اتهمتها في فقرة أخرى بالعنصرية والتطهير العرقي للشعب الفلسطيني، وبانخراطها المباشر في عمليات الإبادة، ما يمثل خرقًا صريحًا بالنص لبنود اتفاقية منع الإبادة.
وبحسب ديالا شحادة، المحامية السابقة في محكمة الجنايات الدولية، فإن جرائم الإبادة الجماعية لا تقتصر على القتل العمد المباشر لجماعة معينة تتبع قومية أو إثنية أو طائفة، بل تتضمن أيضًا تضييق الظروف المعيشية على هذه الجماعة على مستوى الطبابة والغذاء والوقود أو البنى التحتية ما يؤدي إلى منعها من الازدهار واضمحلالها.
وتستطرد ورقة جنوب إفريقيا بسرد البنود التي اخترقها الاحتلال في اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وتذكر أن إسرائيل قد دمرت أكثر من 335 ألف منزل في القطاع وأجبرت السكان على الإخلاء القسري مما يحبط الآمال الواقعية لعودة الغزيين لمساكنهم.
ثم تسرد مدعمة بتقارير الأونروا أن أكثر من 1.9 مليون غزي نازحون ويبحثون عن مأوى في مرافق الوكالة في المدارس والخيام. ورغم ذلك، فقد قتلت إسرائيل المئات منهم داخل تلك المرافق.
كما يلفت الطبيب الفلسطيني غسان أبو ستة، إلى تدمير الاحتلال أربعة مستشفيات للأطفال، ومستشفى السرطان ومستشفى العيون ومستشفى الأمراض النفسية في غزة، واستهداف مستشفى العودة مرتين.
ويستذكر ما شهدته المستشفيات الأخرى من بينها الشفاء والإندونيسي، معتبرًا أن الاحتلال أجهز على الغالبية العظمى من القطاع الصحي في القطاع.
إثبات النية
بحسب كاثلين باول، أستاذة القانون في جامعة كيب تاون، فإن المحامي في فريق الادعاء فان لوي أشار إلى أنه من غير المجدي الادعاء بالالتزام بقوانين حقوق الإنسان في ظل وجود نية لارتكاب إبادة جماعية.
وتلفت إلى أن "تلك الأفعال التي تتضمن قتل وجرح أفراد من جماعات مختلفة تصبح جميعها مرشحة لتصنيفها كأعمال إبادة، وفقًا للمادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة"، مشيرة إلى أنه "في اللحظة التي تتوفر فيها نية الإبادة لا يوجد مبرر مقبول".
لكن المحامي والخبير القانوني علاء محاجنة يتحدث عن صعوبة إثبات النية في مثل هذه القضايا، لافتًا إلى سقوط ادعاءات في بعض الأحيان بسبب عدم توفر إثباتات وقرائن تؤسس لوجود نية للقيام بإبادة جماعية.
ومع ذلك يوضح أن ما فعلته إسرائيل منذ اندلاع الحرب هو أنها أعطت هدايا مجانية لطاقم الادعاء، وذلك من خلال تصريحات القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين.
وقد أفرد الفريق القانوني عددًا من الصفحات في ملف القضية مليئة بالتصريحات السياسية والعسكرية في مسعى لإثبات نية الإبادة، واستخدمها الفريق بكثافة في مرافعته.
ومما استشهد به الملف تصريح وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت، الذي وصف فيه الغزيين بـ"الحيوانات البشرية".
وقال حينها غالانت: "فرضنا حصارًا شاملًا على قطاع غزة، قطعنا الكهرباء والطعام والمياه والوقود. قطعت جميعها. نحن نحارب حيوانات على هيئة بشر، ونتصرف وفقًا لذلك"، وفق تعبيره.
وتلاحقت التصريحات الإسرائيلية خلال أيام الحرب بشكل متصاعد، فقد صرح وزير الطاقة والبنية التحتية يسرائيل كاتس قائلًا إن سكان غزة لن يتلقوا قطرة ماء حتى يغادروا العالم.
بدوره وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش قال خلال اجتماع لمجلس الوزراء: "يجب علينا توجيه ضربة لم يشهد لها مثيل منذ خمسين عامًا وإسقاط غزة".
أما وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير فقد كان بتصريحاته أكثر وضوحًا في تحريضه على السكان المدنيين في غزة.
وتشير ديالا شحادة، المحامية السابقة في محكمة الجنايات الدولية، إلى أنه حتى وزراء الزراعة والتراث صدرت عنهم تصريحات تتضح فيها النية الجرمية لجهة استهداف الفلسطينيين والغزيين من حيث أنهم فلسطينيون.
وتستعيد أحد تلك التصريحات التي جاء فيها: "إنها متعة أن نرى غزة مسواة أرضًا ومدمرة".
التدابير العاجلة المؤقتة
اختتم فريق الادعاء مرافعته الخطية بطلب مجموعة من التدابير العاجلة المؤقتة إلى حين أن تبت المحكمة في جوهر القضية.
وقد كان على رأسها وقف العمليات العسكرية في غزة على الفور، ووقف كل أعمال الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل وما يتعلق بها من التحريض ومعاقبة مرتكبيها.
وفي اليوم التالي لمرافعة فريق الادعاء ترافع فريق الدفاع عن الاحتلال في محاولة لدحض اتهامات جنوب إفريقيا.
وفي هذا الصدد، يذكر المحامي والخبير القانوني علاء محاجنة أن "الجانب الإسرائيلي، وبعكس جنوب إفريقيا التي نشرت القضية قبل أسابيع من تقديمها على الملأ، تكتم على مجمل ادعاءات الدفاع وأثارها مباشرة أمام المحكمة". وأضاف: "لكن لم تكن هناك مفاجآت".
من ناحيتها، تشدد ديالا شحادة على عدم وجود ما يبرر جرائم الإبادة الجماعية في أي قانون أو شرعة.
وترى أن محاولة فريق الدفاع الإسرائيلي بدء مرافعته بالابتزاز العاطفي بالحديث عن معاناة اليهود على يد الأوروبيين في القرن الماضي من أجل الإتجار بها، والزعم بأنهم لا يمكن أن يقدموا على إبادة جماعية لأنهم عانوا منها، ينم عن ضعف في الحجة وإفلاس في الذرائع القانونية المتينة والسليمة.
من جانبها، توضح كاثلين باول أستاذة القانون في جامعة كيب تاون أن إسرائيل "ركزت في ردها على حجة الدفاع عن النفس وتحميل حماس مسؤولية حجم الدمار الذي لحق بغزة، ومن ثم تقديم شكاوى محددة ضد بعض أو جميع الأحكام والتدابير المؤقتة التي تم إلزامها بها".
وتضيف أن الاحتلال "لم ينكر أيًا من المجازر في غزة، ولكنه قدم رواية مختلفة مدعيًا أن حماس هي السبب".
على الأثر، وافقت المحكمة على جميع الإجراءات المؤقتة التي طلبتها جنوب إفريقيا باستثناء وقف إطلاق النار.
وطلبت من الاحتلال الإسرائيلي تقديم تقرير بعد شهر من تاريخ صدور الحكم، يوضح مدى التزامه بقرار المحكمة.