دخل المشهد السياسي التونسي منعطفًا جديدًا مع قرار الرئيس قيس سعيّد حلّ المجلس الأعلى للقضاء واستبداله بمجلس مؤقت منسجم مع توجّهاته، في خطوة أخرى نحو الاستفراد بالحكم لاقت رفضًا واسعًا في الداخل والخارج.
وأثارت خطوة الرئيس قيس سعيّد استياء محليًا متصاعدًا، حيث وصف القضاة خطوته منذ أول تصريح بـ"الخطيرة"، معتبرين ذلك انتهاكًا صارخًا للسلطة القضائية، في ظلّ رفض شعبي لا يبدو أنّه وصل بعد مرحلة الحسم.
ولم تشفع تنديدات جمعية القضاة التونسيين أمام قصر العدالة ولا تعليق عمل المحاكم للعدول عن قرار اعتبرته 40 منظمة تونسية تداخلًا بين السلطة التنفيذية والقضائية ورفضته رئاسة البرلمان المجمَّد وأحزاب معارضة فلا سند دستوريًا أو قانونيًا لذلك.
إزاء ذلك، تُطرَح سلسلة من علامات الاستفهام، فما دوافع سعيّد لحلّ المجلس الأعلى للقضاء؟ وما مدى دستورية وملامح البديل الذي قدّمه؟ وما تأثير قرار حلّ المجلس على الأزمة السياسية في تعطيل سعيّد للمسار الديمقراطية؟
وكيف يمكن مواجهة إجراءات الرئيس في ظل انقسامات المعارضة وافتقادها لرؤية موحدة؟ وهل من تأثير للموقف الأميركي والدولي وربما العربي على الداخل التونسي؟
الأزمة في تونس تتعمّق
باختصار، تتعمّق الأزمة في تونس وتتوسّع جبهة المعارضة ضدّ الرئيس التونسي وتدابيره الاستثنائية، لكنّ سعيّد الذي يبدو معوّلًا على انقسامات معارضيه وفقدانهم لرؤية موحّدة يقدّم تصوّره على أنه تأسيس لقضاء عادل يطالب به الشعب التونسي.
هي مسوّغات يسوقها القصر الرئاسي لجهات دولية وأممية اعتبرت حلّ المجلس القضائي تقويضًا خطيرًا لسيادة القانون، فالولايات المتحدة وعلى لسان المتحدث باسم خارجية نيد برايس دعت للعودة إلى المسار الدستوري بمشاركة جميع الأطراف السياسية والمدنية والنقابية التونسية.
وذهب الاتحاد الأوروبي بخطوات أبعد، حيث صرّح مسؤول السياسة الخارجية فيه بأنّ الاتحاد يدرس مع الدول الأعضاء وقف مساعدات مالية كانت مخصّصة لتونس.
فهل سيصمد سعيّد بقراراته الأحادية أمام الانتقادات الدولية الخانقة وانتظارات شارع تزداد أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية سوءًا؟
تونس تدخل "نادي الديكتاتوريات"
يرى أستاذ الفلسلفة السياسية والأخلاقية في معهد الدوحة للدراسات منير الكشو أننا أمام مرحلة خطيرة جدًا لأنها تدشن دخول تونس نادي الديكتاتوريات.
ويوضح في حديث إلى "العربي"، من الدوحة، أنّه "في العهد السابق كان النظام السياسي يستند إلى حزب متداخل مع الدولة، قوي ومؤثر وله انتشار في كامل البلاد، ولم يكن يلجأ إلى القمع المباشر إلا نادرًا، وأوجد نظامًا استطاع من خلاله أن يسيطر على القضاة وعلى جهاز العدالة".
ويشير إلى أنّ "هذا الرئيس لا يمتلك عمقًا شعبيًا ولا يمتلك الأدوات التي كان يمتلكها النظام السابق الوريث للحزب الدستوري الذي خاض معارك من أجل الاستقلال ولا يتمتع بهذه الشرعية"، مضيفًا أنّه "يستند إلى القوة الصلبة للدولة ورأينا أنه حتى في الفترات التي دعا أنصاره للتظاهر ضد المجلس الأعلى للدولة لم يتجاوب معه إلا أنفار في حين نرى اليوم مظاهرات حاشدة دعمًا لاستقلالية القضاء".
ويخلص إلى أنّنا "أمام ديكتاتورية عارية بمعنى أنها تستند فقط إلى القوة الصلبة للدولة"، مشدّدًا في الوقت نفسه على أنّ "رئيس الجمهورية دائمًا يعتمد الوسائل القائمة على التحايل".
قيس سعيّد "جائع إلى سلطة مطلقة"
من جهته، يرى مدير المركز العربي للداراسات في تونس مهدي مبروك أنّ رئيس الجمهورية يؤكد بهذا المرسوم أنه جائع إلى سلطة مطلقة وهذه السلطة الآن يمسك بها بين السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية إضافة إلى سلطة الإعلام".
ويوضح في حديث إلى "العربي"، من تونس، أنّ "التلفزة التونسية منذ 25 يوليو لم يدخل بابها أحد المعارضين أو أحد المخالفين"، مشيرًا إلى أنّ "رئيس الجمهورية يؤمن تمامًا أنه الزعيم الملهم الذي لا يمكن أن يشاغبه في سلطته أحد".
ويعتبر أنّ "هذه الشعبوية التسلطية لا يمكن أن تتمكن وأن تستحوذ تمامًا على هذه المؤسسات إلا إذا فكّك رئيس الجمهورية السلطات كما يتصوّر"، وحينئذ "هو يجمع السلطات المطلقة في يديه ويذهب إلى تجسيد مشروعه".
ويعرب عن اعتقاده بأنّ الأسابيع المقبلة ستحمل الجديد من خلال تفكيك المنظومة الحزبية والمجتمع المدني، مشدّدًا على أنّ "رئيس الجمهورية يخطو خطوة من أجل سلطة مطلقة لا يناقضه فيها أحد".
نصوص سعيّد "خارجة عن الشرعية"
أما أستاذة القانون الدستوري في جامعة تونس منى كريم فترى أنّه لم يعد من المجدي البحث في الأسس القانونية والدستورية للمراسيم وكل النصوص التي يصدرها الرئيس قيس سعيّد لأنها خارجة تمامًا عن الشرعية الدستورية حتى وإن حاول إضفاء دستورية عليها بالقول دائمًا بأنّ كل ما يصدره من مراسيم وأوامره هي مستندة إلى الدستور.
وتشير في حديث إلى "العربي"، من تونس، إلى أنّ الرئيس قيس سعيّد استعمل الدستور من خلال الفصل 80 لتجاوزه وخرقه لأن الشروط الواردة في هذا الفصل لم يتمّ احترامها تمامًا من طرف الرئيس سعيّد فكانت مجرد غطاء تجاوز به منطوق الفصل 80 ليفرض سياسته ومشروعه الذي أصبح الجميع على علم به.
وتلفت إلى أنّ "الأمر الصادر في 22 سبتمبر/ أيلول 2021 هو من قبيل الأعمال المعدومة في الدستور لأنه تجاوز الدستور"، مضيفة: "أصبحنا في حالة دهشة من انقلاب هرم القواعد القانونية حيث أصبح الأمر 117 أعلى من الدستور الذي أقسم الرئيس قيس سعيّد على احترامه".