تابع برنامج "وفي رواية أخرى" على شاشة "العربي"، والذي يقدّمه بدر الدين الصائغ، سلسلة الغوص في أسرار أكبر جهاز استخباراتي في التاريخ وهو الـ"كي جي بي".
وفي الحلقة الثانية من السلسلة، يستمر رئيس قسم مكافحة التجسس في الاستخبارات الخارجية السوفييتية سابقًا الجنرال أوليغ كالوغين في التحدث عن روايته الخاصة لتلك الحقبة.
ويُعَدّ كالوغين بحق صندوق أسرار جهاز الاستخبارات السوفييتية، فقد كان له على مدى أكثر من ثلاثة عقود دور رئيس في أهم وأشهر الأحداث أيام الحرب الباردة سواء داخل الستار الحديدي للاتحاد أو في عواصم الغرب.
كما كان أحد أقرب مساعدي رئيس الـ"كي جي بي" والزعيم السوفييتي السابق يوري أندروبوف، ومشرفًا على عمليات اختراق حكومات ومسؤولي عدد من دول العالم، وعلى مجموعة من أشهر جواسيس الحرب الباردة على الإطلاق.
ترؤس قسم مكافحة التجسس الخارجي
في هذه الحلقة، يستذكر كالوغين فترة تسلّمه قسم مكافحة التجسس الخارجي عام 1970، وعودته إلى موسكو.
ويوضح كالوغين أن ترؤسه لهذا القسم، خلق له الكثير من "العداوات" داخل جهاز الاستخبارات الروسية، خصوصًا بعد تقرّبه من القيادي السوفييتي يوري أندروبوف.
ولدى تسلّمه هذا المنصب، كان الأصغر سنًا في تاريخ تلك المؤسسة، بعد أن نال رتبة جنرال في عمر الـ38 سنة.
ويلفت كالوغين إلى أن المنصب الذي استلمه، كان يهدف إلى اختراق كل أجهزة الاستخبارات في العالم، وعلى رأس أولوياته كانت الولايات المتحدة ودول حلف الناتو، مشيرًا إلى أن الـ"كي جي بي" تمكّن من خرق أهم أجهزة الاستخبارات حول العالم، وتحديدًا في فرنسا.
ويقول: "تم اختراق 50 جهاز استخبارات حول العالم، إضافة إلى اختراق كل منظمات المهاجرين السوفييت حول العالم، والتلاعب بالرأي العام لإيصال هؤلاء المهاجرين إلى مناصب عليا".
لم تعد متعطشة للدماء
ويشرح كالوغين أنه كان بحاجة إلى عدد كبير من الضباط للتمكن من القيام بالمهام الموكلة له، لافتًا إلى أنه كان تحت أمرته 200 ضابط في موسكو، والمئات منهم خارج حدود الاتحاد.
وعن تعاون أجهزة عالمية مع الـ"كي جي بي"، يشير إلى أن "رئيس فنلندا في تلك الحقبة عمل معنا، إضافة إلى مسؤولين كبار داخل الحكومة الهندية التي كانت تميل إلى الاتحاد، وفي فرنسا كان كبار المسؤولين يتعاملون معنا لأهداف أيديولوجية وليس مالية".
وعن التراتبية الهرمية في السلطة، يقول المسؤول السابق: "في العهد السوفييتي، كان الحزب الشيوعي على رأس الدولة ومن ثم تأتي أجهزة الأمن والجيش، أما اليوم فالأمور تغيرت، فالأولوية باتت للـ"كي جي بي"، ومن ثم الجيش الذي يخضع لسيطرة الاستخبارات، وأخيرًا تأتي الكنيسة الأرثوذكسية الروسية التي برزت كرمز عقائدي بدل الحزب الشيوعي".
ويضيف: "الاستخبارات اليوم تدير البلاد، ولم تعد متعطشة للدماء مثل السابق".
حقبة أندروبوف
ويرى المسؤول السوفييتي السابق، أن يوري أندروبوف كان أبرز من ترأس جهاز الـ"كي جي بي"، مضيفًا: "كنت محظوظًا للعمل معه، وهو عضو في المكتب السياسي للحزب الشيوعي وأصبحت أحد أبرز مساعديه، وكان يطلبني على هاتفي الخاص لنحتسي شرابًا".
ويتابع: "كان يقدّر أندروبوف صراحتي في الحديث معه، وعندما علم المسؤول عني بقربي من أندروبوف، بدأ بالبحث عن طريقة للتخلص مني".
ويلفت إلى أن "أندروبوف كان ضد جرائم القتل السياسي، وكان يقول صراحة إنه ضد الاغتيالات السياسية، وكان يبحث عن طرق أخرى للتخلص من الأشخاص غير المرغوب بهم، مثل تدمير سمعتهم فقط أو نفيهم خارج البلاد، وذلك بهدف ترسيخ صورة الـ"كي جي بي" على أنها مؤسسة استخباراتية وليست مؤسسة قاتلة للشعب".
ويعتبر أن هذا الموضوع كان سبب كره الكثيرين لأندروبوف داخل الحزب الشيوعي وداخل الجهاز الاستخباراتي.
سجون الاتحاد السوفييتي
ينفي كالوغين الأخبار المتناقلة عن الحقبة السوفييتية وانتشار السجون فيها، حيث يؤكد أن جهاز الاستخبارات لم يقم بعمليات سجن جماعية للمناهضين له.
ويلفت إلى أن إحدى الطرق التي أراد أندروبوف التخلص عبرها من صورة جهاز الاستخبارات القاتل، هو إرسال المعارضين إلى مصحات عقلية بدل قتلهم، وبالتالي كان يتخلص عبر هذه الطريقة منهم.
ويقول: "النظام السابق قبل أندروبوف كان يريد القتل فقط، لكن مسؤول الـ"كي جي بي" البارز أراد خلق نمط جديد".
اغتيال جورجي ماركوف
وفي تفاصيل عمليات الاغتيال السياسية، يؤكد كالوغين أن القيادة السوفييتية حاولت قدر الإمكان الابتعاد عن القتل، وكانت تزوّد بعض الدول بالمعدات فقط من دون المشاركة في العملية.
ويعطي مثالًا على ذلك، وهو اغتيال بلغاريا للمعارض جورجي ماركوف، الذي تم قتله باستخدام مظلة مسممة. ويقول: "كانت الفكرة سوفييتية بالطبع من خلال الأدوات والطريقة، وكنا أفضل من ألمانيا النازية في هذا المجال، لكن لم ننفذ ذلك بل بلغاريا من قامت بذلك".
ويروي أن السلطات البريطانية أوقفته في منتصف التسعينيات لدى وصوله إلى المطار، بسبب اتهامه بشكل غير مباشر بتلك العملية، ويشير إلى أن السفارة الروسية في لندن تحركت سريعًا للإفراج عنه.
ويضيف: "لم توجه التهمة رسميًا لي، وأرادوا انتزاع بعض التصريحات مني، لكن لم يحصلوا على أي معلومات".
ويتابع قائلًا: "أعرف القصة كاملة، لكن لا يجب أن يُقتل أو يُعتقل شخص لأنه يعرف شيئًا ما".
تصفية المنشقين
وعن انشقاق البعض عن الـ"كي جي بي" والتحاقهم بأجهزة استخبارات غربية، يعطي كالوغين مثال انشقاق القيادي أوليغ ليانين والتحاقه بالـ"سي آي إيه"، ويقول: "فور إعلانه الانشقاق صدر الأمر باغتياله، لأن القوانين تنص على أنه يجب إعدام الخونة".
ويضيف: "جميع أفراد المؤسسات الأمنية في الـ"كي جي بي" ووزارة الدفاع والحزب الشيوعي إذا ما انشقوا، تصدر تلقائيًا عليهم أحكام الإعدام، ويتم البحث عنهم لقتلهم".
كما يشير كالوغين إلى نيكولاي أرتامانوف، القيادي السابق في الاستخبارات السوفييتية، والذي التحق أيضًا بالـ"سي آي إيه"، ويقول: "تم خطفه من فيينا، وأثناء إرساله إلى موسكو لمحاكمته، توفي بسبب جرعة زائدة من المنوّم".
ويضيف:" كان أرتامانوف ضابطًا في البحرية، وكان قادرًا على الوصول إلى معلومات سرية، لكن الغرب لم يثقوا به كثيرًا ما سهّل عملية خطفه".
ويتابع قائلًا: "لم نكن نريد قتله، بل أردنا استغلاله لإظهار الاتحاد السوفييتي بصورة جيدة أمام الغرب، لكن ذلك لم ينجح".
فيينا مدينة الأحلام
ويؤكد كالوغين، في حديثه إلى "العربي"، أن العاصمة النمساوية فيينا كانت "المدينة الحلم" للعمل، واستطاع جهاز الاستخبارات السوفييتية القيام بالكثير من العمليات هناك.
ويلفت إلى أن فيينا تُعتبر من أبرز المدن التي تتم فيها عمليات التجسس، وتضم الكثير من أجهزة الاستخبارات العالمية.
ويوثّق كلامه ذاكرًا عملية اغتيال ألكسندر ليتفينينكو، الذي كان مقربًا من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في عملية حصلت في العاصمة النمساوية.
ويشير إلى أن عملية الاغتيال حصلت بسبب قرب ليتفينينكو من بوتين ومعرفة الكثير من الأسرار عنه، فتم تسميمه بمادة البولونيوم، وهي منتج سوفييتي استخدم في أكثر من عملية، حسب قوله.
معاداة السامية
وينتقل كالوغين للحديث عن اليهود في الاتحاد السوفييتي، ويقول: "معاداة السامية كانت جزءًا من سياسة الاتحاد في عهد ستالين، لكن في عهد أندروبوف تغيّر الموضوع، خصوصًا أن لديه أصولًا يهودية".
ويضيف: "العديد من اليهود الروس أرادوا الخروج والسكن في إسرائيل، وهذا ما كنا نخشاه، فإذا ساد هذا النوع من المزاج في تلك الفترة كنّا سنخسر بلدنا، لذا حاولنا في الـ"كي جي بي" مناهضة معاداة السامية".
ويتابع: "قلت لأندروبوف، يجب أن نترك أكثر اليهود معاداة لروسيا يخرجون من البلاد، ونضع في السجن أولئك الذين يهاجموننا، في مقابل ترك اليهود المتبقين في البلاد، ولهذا السبب تمت دعوتي إلى إسرائيل بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لشكري على مساعدة اليهود".
العميل البريطاني المزدوج كيم فيلبي
في سياق آخر، يتطرق كالوغين إلى موضوع الجواسيس الغربيين الذين يعملون لحساب الـ"كي جي بي"، ويتحدث عمن وصفه بـ"أعظم الجواسيس على الإطلاق"، وهو كيم فيلبي، أحد "جواسيس كامبريدج" الخمسة.
ويقول: "قابلت فيلبي في روسيا بعد انشقاقه عن الغرب بعد طلب من أندروبوف".
ويضيف: "عندما زرته لإقناعه بالعمل لدى جهاز الاستخبارات، وجدت فيلبي يشرب بكثرة، واكتشفت أنه لم يكن لديه شيئًا ليفعله، وكان ثملًا بشكل دائم".
ويتابع: "وجدت له سيدة ليتزوجها ليصبح أكثر استقرارًا، قبل أن يبدأ العمل معنا".
كما يشير المسؤول السابق إلى جاسوس بريطاني آخر وهو جورج بلايك، فيقول عنه: "كان على عكس فيلبي، ولم يكن لديه أي مشاكل وكان من السهل عليه التأقلم في الاتحاد السوفييتي، ووجد لنفسه صديقة وكان شخصية ذكية جدًا".