في العقود الأخيرة، كان لبنان بلدًا هادئًا نسبيًا في منطقة مضطربة. لكنّه يشهد في الفترة الأخيرة أسوأ انهيار اقتصادي منذ 150 عامًا، بل يشهد انهيارا يحدث مرة واحدة في القرن، حسبما جاء في صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية.
واستعرضت الصحيفة تداعيات انهيار لبنان، الذي يستشري في مختلف القطاعات، والذي فاقمه انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/ آب من العام الماضي، الأمر الذي يُهدّد بأن "لا يعود الاقتصاد اللبناني إلى ما كان عليه من قبل".
ويتكرّر انقطاع التيار الكهربائي لدرجة أن المطاعم تُخصّص ساعاتها وفقًا لجدول الكهرباء من المولّدات الخاصّة. وتندلع المُشاجرات في المحلات حيث يندفع المتسوّقون لشراء الخبز والسكر وزيت الطهي قبل نفادها أو ارتفاع أسعارها.
وغادرت الكوادر الطبية إلى خارج البلاد، فيما تضرب البلاد موجة جديدة من الإصابات بكوفيد-19. وزادت حوادث السرقة بنسبة 62%، كما ارتفعت معدلات القتل.
وفي مايو/ أيار الماضي، أشار البنك الدولي إلى أنّ الأزمة الاقتصادية في لبنان يُمكن أن "تُصنّف ضمن الأزمات الثلاث الأولى في العالم خلال الـ 150 عامًا الماضية".
اقتصاد لبنان لن يعود كما كان
وقال مايك عازار، خبير تمويل الديون الذي قدّم المشورة للوكالات الحكومية الأميركية: "في مرحلة ما، تُصبح الأزمة سيئة للغاية حتى إن اللبنات الأساسية للانتعاش ينتهي بها الأمر بالاختفاء. لن يعود لبنان أبدًا إلى نوع الاقتصاد الذي كان يتمتّع به من قبل".
وذكر التقرير أنه في حين أن العديد من الأزمات الاقتصادية تنبع من الحروب والكوارث الطبيعية، أو الوباء في الآونة الأخيرة، إلا أن انهيار لبنان يكشف عن "قدرة الحكومة التي لا حدود لها على إلحاق الضرر بنفسها"، بحيث تهدّد التداعيات بزعزعة استقرار منطقة مضطربة بالفعل في الشرق الأوسط، ولا تزال تعاني من الحرب في سوريا المجاورة والتوترات على الحدود الإسرائيلية.
وحتى الحرب الأهلية التي استمرّت لسنوات، واستيعاب ملايين اللاجئين من الدول المجاورة، والصراعات المتكررة مع إسرائيل، والاغتيالات السياسية، "لم تتمكّن من تقسيم البلاد بهذه الطريقة".
ويُصنّف البنك الدولي أزمة لبنان على أنها أسوأ من أزمة اليونان عام 2008، التي تسببت في تشريد عشرات الآلاف من الأشخاص وسنوات من الاضطرابات الاجتماعية، وأكثر حدة من أزمة عام 2001 في الأرجنتين، والتي أثارت أيضًا اضطرابات واسعة النطاق.
لبنان قد يستغرق ما بين 12 و19 عامًا للتعافي
واعتمادًا على كيفية أداء لبنان، قال البنك الدولي إن لبنان يمكن أن يأتي مباشرة بعد تشيلي، التي استغرقت 16 عامًا للتعافي من انهيارها عام 1926؛ وإسبانيا خلال حربها الأهلية في الثلاثينيات التي استغرق تعافيها 26 عامًا. وقدّر البنك أن لبنان قد يستغرق ما بين 12 و19 عامًا للتعافي.
وبلغ عبء ديون لبنان 92 مليار دولار في 2020 مقارنة مع 417 مليارًا لليونان في العام نفسه. ومع ذلك، كان لانهيار لبنان تأثير مضاعف في الشرق الأوسط. حيث أودعت البنوك اليمنية أكثر من 240 مليون دولار في لبنان اعتبارًا من عام 2019، بينما حُرمت حكومة إقليم كردستان في العراق من عائدات النفط المحتجزة الآن.
وبحلول ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ارتفع معدل البطالة في لبنان إلى حوالي 40% وفقًا للبنك الدولي. والحد الأدنى للأجور الشهري الذي كان يبلغ حوالي 450 دولارًا، يقدّر الآن بحوالي 35 دولارًا. كما، يقول العديد من أفراد الطبقة المتوسطة إنهم تخلّوا عن اللحوم والأسماك والدجاج من وجباتهم الغذائية. وأبدى حوالي 49% من اللبنانيين قلقهم بشأن الحصول على طعام كافٍ، وفقًا لبرنامج الغذاء العالمي.
منعطف دراماتيكي
كما يملأ المغتربون اللبنانيون العائدون إلى لبنان حقائبهم بأجهزة استنشاق الهواء، والأسبرين، وأدوية الربو التي لا يستطيع أقاربهم العثور عليها داخل لبنان.
وفي مستشفيات لبنان، نفدت بعض أدوية التخدير وجراحة القلب، بينما يبحث الموظفون عن الوقود والماء. وقال رئيس نقابة أصحاب المستشفيات الخاصة سليمان هارون: "بدلًا من الاهتمام بالأشياء المهمة، نعتني بأشياء تافهة مثل إيجاد الديزل للمولدات والكهرباء والمياه، والتي يتعيّن علينا بعد ذلك تعقيمها".
بدوره، قال نقيب الأطباء في لبنان الدكتور شرف أبو شرف: "هاجر حوالي 1200 طبيب منذ العالم الماضي. وتنزف المستشفيات موظفيها، حتى في الوقت الذي يكافح فيه لبنان جائحة كوفيد 19"، مضيفًا: "إنه أمر محزن، فهؤلاء أطباء ذوو مهارات عالية ومتخصّصون".
ووصفت الصحيفة الوضع الحالي في لبنان بـ "المنعطف الدراماتيكي المعاكس" لتلك الأيام التي بدا فيها أن لبنان يتحدّى "السقوط الاقتصادي"، أي عندما كان بيروت "مقصدًا سياحيًا واستثماريًا للنخبة العالمية".
الدولة لا تُريد الإصلاح
وفي العام الماضي، حصل لبنان على فرصة لوقف انهياره، عندما وضعت الحكومة خطة إصلاحات اقتصادية وخفض الإنفاق العام، بما في ذلك على الأجور، وإعادة هيكلة البنوك التي كانت تتطلّب مساهمة مؤقتة من المودعين للمساعدة في تعويض خسائر النظام التي تُقدّر بنحو 83 مليار دولار.
وبينما أشاد صندوق النقد الدولي بالخطة، معتبرًا أنها وفّرت أساسًا للمحادثات بشأن خطة الإنقاذ، رفضها السياسيون وأصحاب المصارف؛ حيث حذّرت جمعية المصارف اللبنانية من أنها ستُضرّ بثقة عالم الأعمال وتنتهك حقوق الملكية الخاصة.
هذا الأمر أدى إلى استقالة الخبراء المشاركين في صياغتها، ومن بينهم آلان بيفاني، الذي عمل لمدة 20 عامًا في وزارة المالية اللبنانية.
وقال بيفاني: "إذا كانت الدولة لا تُريد اتخاذ إصلاحات، ولا تريد السماح للاقتصاد بالانتعاش، فماذا سنفعل؟".
ونقلت الصحيفة عن مسؤول غربي كبير في بيروت قوله: "عندما أُصاب بالأرق ليلًا، يمكنني أن أفكر في جميع أنواع السيناريوهات لمآل الأمور في لبنان. ومن بينها العودة إلى زمن أمراء الحرب، والميليشيات المسلّحة التي تحتل مناطق جغرافية معينة. لا قدر الله أن نصل إلى تلك المرحلة".