لعلّها من القصص النادرة التي توحّد العالم من أقصاه إلى أقصاه، وسط ترقّب وحبس أنفاس قلّ نظيره، استمرّ لخمسة أيام متواصلة. قد تكون ميزتها أنّ "الإنسانيّة" عنوانها، وضحيّتها طفلٌ يحمل ما يحمل من البراءة والعفويّة، وأنّ السياسة المفرّقة للشعوب، كانت الغائبة الأكبر منها.
إنّها قصّة الطفل المغربي ريّان، الذي بات أشهر من نار على علم، والذي لم يتجاوز عمره الخمس سنوات، لكنّه تحوّل إلى الخبر الأول والعاجل وكالات الأنباء العالمية لخمسة أيام، وعلى شاشات التلفاز التي قطعت برمجتها لتغطية عملية "إنقاذه" الهوليوودية، وإن تحوّلت إلى "مأساة" في نهاية المطاف.
ليس ريّان الطفل الوحيد الذي وجد نفسه في قلب الحدث. كثيرون هم الأطفال الذي واجهوا المآسي، على أنواعها، وما زالوا، في العالم العربي تحديدًا. ولعلّ النماذج أكثر من أن تُعَدّ وتُحصى، وبعضها أكثر من "فاقع"، في سوريا واليمن، على سبيل المثال لا الحصر، حيث يتعرّض الأطفال لأبشع أنواع الظلم.
لكنّ ريّان حقّق، من دون أن يدرك، ما عجز عنه هؤلاء الأطفال مجتمعين. تحوّل الطفل الذي صارع للبقاء بجسده الصغير، عنوانًا للصمود على مدار خمسة أيام، واستحوذت قضيّته على تعاطف لا مثيل له، قبل أن تُسرَق "الفرحة" التي تسرّع البعض باستنتاجها، إلى "حزن جلل"، جعل البعض يتحسّر على "قدر" المنطقة العربية.
بقيت الساعات المئة التي عاشها الطفل ريّان وحيدًا في البرد والظلام "سرّه الصغير"، لكن ما قصّة هذا الطفل التي تجاوزت ببعدها الإنسانيّ حدود المغرب وجغرافيته؟ وأيّ "سرّ" جعل من طفل بعمر الخمس سنوات، "رمزًا" دفع كثيرين لـ"مراجعة" نظرتهم إلى الحياة، بكلّ ما فيها؟
كيف بدأت القصّة - المأساة؟
بدأت القصة عصر يوم الثلاثاء الفائت عندما تاه طفل. ربما كان يلهو، على غفلة من والديه بقرية أغران بإقليم شفشاون شمال المغرب. علم الأهل بعد حين أنه ربما سقط في بئر جافة بعمق 62 مترًا وطلبوا المساعدة من فرق الإنقاذ. حضر المنقذون إلى مكان البئر وعملوا على التأكد من وجود الطفل، وهو ما حصل فعلًا.
تطوع العديد من الشبان لإخراج الطفل، ولكن محاولاتهم تعرقلت بسبب ضيق الحفرة، فقطرها لا يتعدى 45 سنتيمترًا وهي تضيق مع النزول إلى القاع.
و فيما ناشد والد الطفل السلطات لإنقاذ فلذة كبده قبل فوات الأوان، انتشر خبر الطفل العالق، وبدأ التعاطف الشعبي مع قصته، فعرف العالم أن الطفل اسمه ريان وهو بحاجة لإنقاذه من الهلاك. وأطلق ناشطون وسمًا على تويتر باسم "أنقذوا ريان" لدفع السلطات لبذل مزيد من الجهد لإنقاذ حياة الطفل الصغير بعد مرور يومين على سقوطه في البئر.
استجابت السلطات للنداء، أنزلت الفرق كاميرا فرصدت حركة الطفل وتبينت أنه ما زال على قيد الحياة وهو عالق على عمق 32 مترًا. فزود بالماء والأكسجين عبر أنابيب للحفاظ على حياته ريثما يتمكن المنقذون من الوصول إليه. وعلى الرغم من إنزال الطعام إلى ريان لم يفد أنه تناول شيئًا منه.
سيناريوهات عملية الإنقاذ
حالت طبيعة التربة المتحركة وغير الثابتة دون توسيع قطر الثقب وسط مخاوف من سقوط الأتربة والأحجار على الطفل وإيذائه.
وفي النهاية اعتمدت الفرق آلية الحفر الجانبي للوصول إلى نقطة موازية لمكان وجود الطفل. وحفر ممر نحوه بعد ذلك. ومنذ نهاية اليوم الثاني لسقوط ريان كانت أمتار قليلة تفصل بينه وبين فرق الإنقاذ لكن الطبيعة الجغرافية جعلتها أشبه بكيلومترات.
تقاطر المتعاطفون من كل أنحاء المغرب وثبتت وسائل الإعلام كاميراتها بالقرب من التل الذي أصبح ورشة أشبه بخلية نحل تعمل على مدار الساعة من دون كلل أو ملل.
وفيما كثفّت الشلطات جهودها التي شاركت فيها ست جرافات وعشرات الفرق التي تضم الدفاع المدني والدرك والقوات المساعدة، "اشتعلت" وسائل التواصل الاجتماعي، وسط دعوات وصلوات لم تتوقّف.
حفر خندق بموازاة البئر
وفي عصر يوم الجمعة، أعلن التلفزيون المغربي أن فرق الإنقاذ أنهت حفر خندق عمقه 31 مترًا يوازي البئر. وأُحضرت أنابيب إسمنتية بقطر متر واحد حيث تمت الاستعانة بها في عملية الحفر الأفقي التي كانت تسير بوتيرة بطيئة في الأمتار الأخيرة لتفادي أي انجراف في التربة.
وكذلك وصلت معدات تابعة لفرق الحماية المدنية، لاستخدامها في إخراج الطفل ريان عند الوصول إليه. كما جُهزت طائرة مروحية لنقله إلى المستشفى فور إنقاذه.
بدء الحفر اليدوي
كان ريان يحاول التقاط أنفاسه في البئر الشديدة البرودة الواقعة في منطقة التلال المحيطة بشفشاون، فيما كان المتعاطفون في المغرب وخارجه يرفعون الصلوات والأمنيات بأن يعود الصبي سالمًا إلى أحضان عائلته. وهو ما طلبته والدة الصغير في مقطع فيديو بثته وسائل إعلام محلية. وقالت فيه: "أطلب من المغاربة الدعاء من أجل عودة ابني سالمًا".
وبعد غروب يوم الجمعة بدأ مختصون محليون بالحفر اليدوي لمنفذ أفقي نحو الطفل العالق، عقب إنهاء الجرافات حفر منحدر بعمق 32 بموازاة مع البئر التي علق فيها الطفل. واستعانت السلطات المغربية بالمختص بالحفر اليدوي للآبار العم علي الجاجاوي "الصحراوي"، ليقود أعقد مراحل إنقاذ الطفل.
مرحلة الإنقاذ النهائية
وفي صباح السبت، دخلت عملية الإنقاذ "مراحلها النهائية"، وكان الترقب ثقيلًا وجهود الإنقاذ الحثيثة بطيئة جدًا بسبب حدوث انهيارات لبعض الأتربة خلال عملية الإنقاذ أعاقتها.
وفيما استمرت طواقم الإنقاذ بمرحلة الحفر اليدوي للنفق الأفقي للوصول إلى ريان، بقي وسم "أنقذوا ريان" محتلًا منصة تويتر في الكثير من البلدان العربية. وتسمر العالم أمام شاشات التلفزة فيما بثت عدد من الصفحات عملية الإنقاذ مباشرة تابعها عشرات الآلاف مباشرة.
وكانت طواقم الإنقاذ المغربية استعانت بصهريج حديدي كبير لتأمين عملية الحفر اليدوي للمنفذ الأفقي لانتشال الطفل. وشكل الصهريج الحديدي الذي يبلغ قطره مترًا ونصف، إلى جانب الأنابيب إسمنتية كبيرة وسيلة لحماية الطواقم من أي انهيار صخري محتمل أثناء الحفراليدوي.
ونقلت جريدة هسبريس المغربية، صباح السبت، نقلًا عن مصدر مسؤول أن رجال الإنقاذ كانوا يواجهون خطر الإغماء بسبب ضعف الأكسجين داخل الثقب الذي تم استحداثه.
ومع تقدّم ساعات النهار استمر التضامن مع ريان، وانضمّ إليه نجوم كرة قدم وفنانون وإعلاميون وسياسيون. وغرد مدوّنون من بلدان كثيرة مثل الجزائر والعراق واليمن وكندا والولايات المتحدة بلغات متعددة للتعبير عن رجائهم إنقاذ الطفل.
وفيما لم يفصح عن الوضع الصحي لريان، بدت الساعات القليلة دهرًا للجموع المتجمهرة في محيط الموقع، والتي كانت تنتظر نهاية سعيدة لقصة دامت خمسة أيام.
عملية تكللت بالنجاح
ومساء السبت شخصت الأنظار على مدخل النفق لأكثر من ساعة من الوقت ووضعت القوى الأمنية التي عززت انتشارها في المكان حواجز للحيلولة دون عرقلة الجموع المتجمهرة لجهود فرق الإنقاذ، إلى أن تمكنت الفرق من الوصول إلى ريان وخضع لتدخّل طبّي عاجل ونقل عبر سيارة إسعاف مجهزة إلى الهيليكوبتر الملكية التي كانت بانتظاره لتقله إلى المستشفى وسط إجراءات أمنية مشددة.
نحجت عملية الإنقاذ وكان أمل المتابعين كبيرًا بنهاية سعيدة وعمّت أجواء البهجة بالإنجاز المنتظر بعد مرور أكثر من مئة ساعة على سقوط الطفل، فيما رصدت عدسات المصورين والدي الطفل يخرجان من النفق المستحدث من دون إظهار أي تعابير بعد رؤية طفلهما.
فرحة لم تكتمل
وبعد دقائق، أعلن التلفزيون المغربي وفاة الطفل ريان، وقال بيان الديوان الذي نشرته وكالة الأنباء المغربية: "على إثر الحادث المفجع الذي أودى بحياة الطفل ريان أورام، أجرى الملك محمد السادس، اتصالًا هاتفيًا مع خالد أورام، ووسيمة خرشيش والدي الفقيد الذي وافته المنية بعد سقوطه في بئر".
وقدّم الملك المغربي، بحسب البيان، "تعازيه لكلّ أفراد أسرة الفقيد في هذا المصاب الأليم". وأشار البيان إلى أن العاهل المغربي "كان يتابع عن كثب تطورات هذا الحادث المأسوي، حيث أصدر تعليماته لكل السلطات المعنية قصد اتخاذ الإجراءات اللازمة، وبذل أقصى الجهود لإنقاذ حياة الفقيد، إلا أن إرادة الله تعالى شاءت أن يلبي داعي ربه راضيًا مرضيًا".
وأعرب الملك محمد السادس عن "تقديره للجهود الدؤوبة التي بذلتها مختلف السلطات والقوات العمومية، والفعاليات الجمعوية، وللتضامن القوي والتعاطف الواسع الذي حظيت به أسرة الفقيد من مختلف الفئات والأسر المغربية في هذا الظرف الأليم".
وأفادت وكالة الأنباء المغربية الرسمية، اليوم الأحد، أن الطفل ريان توفي قبل وصول فرق الإنقاذ إليه.
قصة تراجيدية أبكت العالم
لم يعلم ريان أن مأساته ستمس قلوب الملايين. لكنّ نهاية قصته التراجيدية هزّت مشاعر الملايين ممن تابعوا تطورات إنقاذه واجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي رسائل التعزية، وعبر العديد من الفنانين العرب عن حزنهم وتعازيهم لذوي الطفل والشعب المغربي, وانبرى في مصر كل من الممثلين أحمد السقا وياسمين صبري، والحارس السابق لمنتخب مصر أحمد شوبير، وكذلك زميله أحمد حسام "ميدو"، والمطربة شيرين عبد الوهاب، والممثلة يسرا، بالإضافة لصفحتي ناديي الأهلي والزمالك وغيرهم من الوسطين الفني والرياضي بالتعزية لأهل ريان والمغرب عمومًا.
هي قصّة لا تشبه غيرها. مأساة أخرى تُضاف إلى مآسي الأطفال في عالمنا العربي. قد لا تكون مشابهة لمأساة أطفال آخرين سُلِبت منهم طفولتهم، لأسباب مرتبطة بالنزاعات والحروب التي لا دخل لهم بها. لكنّها قصة "ملهِمة"، ولو أنّ نهايتها لم تكن كما كان يتمنّى الجميع. أما "العِبرة" منها، فتبقى أنّ "الإنسانية"، التي وحّدت كلّ العالم لأيام، يجب أن "تنتصر"، ولو كان "الشرّ" هو المهيمن، على الأقلّ في الظاهر.