في العراق، اجتمعت وجهًا لوجه أطراف سياسيّة إقليمية ربما كان من الصعب أن تلتقي في مكان آخر.
ففي مؤتمر بغداد، التقى قادة دول عربية وإقليمية عديدة بعضها على خصومة وأخرى على وفاق لبحث ملفات تمتد من أزمات اليمن ولبنان وسوريا وغيرها، إلى خطر الإرهاب الذي يشمل كل المنطقة.
ومع أنّ مخرجات هذه القمة لا تبدو واضحة بجلاء بعد، لكن على هوامشها عقدت لقاءات تدل على أن أطراف عدد من النزاعات مستعدون للحوار ومستعدون للقبول بالعراق وسيطًا.
إزاء ذلك، تُطرَح العديد من علامات الاستفهام، فما دلالات هذه القمة وأثرها على الملفات الشائكة في الإقليم؟ وهل العراق مهيَّأ للاضطلاع بدور الوساطة وتقريب وجهات النظر مثلًا؟ وكيف يمكن أن ينعكس هذ التحول على العراق داخليًا وفي الإقليم؟
بغداد.. "المهبط الأمثل" للجميع
لعلّ الرسالة الأولى التي برزت في مؤتمر بغداد هي أنّ العراق ما عاد ساحة دائمة للصراع فقد صار أيضًا طاولة شاسعة للقاء.
هكذا، بدا ممكنًا أن يلتقي "الأضداد" في العراق، كما لم يفعلوا في أيّ مكان آخر، بعدما حضر إلى بغداد وزراء من عواصم أقطاب الأزمة في الإقليم، خصوم سابقون وحلفاء حاليون.
التأم كلّ هؤلاء في العراق لا لأجل دعمه وحده، بل ليختبروا عبره فرصة بديلة للحوار، وهو ما تجلّى في "القمم الأهمّ" التي عُقِدت على هامش المؤتمر، وأفرزت مشاهد غير معتادة.
في هذا اليوم، يكاد يجمع أغلب القادة أنهم عادوا إلى العراق ليفكّوا العزلة عنه، ويعود إلى الإقليم بعد سنوات الحروب المنهكة.
بهذا المعنى، قد تبدو بغداد المهبط الأمثل للجميع في جغرافية سياسية صعبة. ولعلّ تلك أيضًا هي صورة العراق الجديد الذي يرغب ساسته أن تستبدل صور البلاد المأزومة بأخرى صارت طرفًا في الحلّ.
منظومة جديدة للتعاون في المنطقة
يرى مستشار رئيس الوزراء العراقي حسين علاوي أنّ العراق حقق الغايات الأساسية لمؤتمر بغداد للحوار الإقليمي.
ويشير علاوي، في حديث إلى "العربي"، من بغداد، إلى أنّ هذا المؤتمر مرتبط ببرنامج الحكومة العراقية القائم على إعادة بناء الثقة، وهو ما مضى به رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي منذ الأشهر الأولى لحكومته.
ويلفت علاوي إلى أنّ المسار الثاني الذي كرّسه المؤتمر هو قضية المؤسساتية والعمل على بناء محطة للتعاون الإقليمي، معتبرًا أنّ هذا الحوار قد يؤسس لعهد إقليمي جديد يقوم على التنمية والإعمار.
وينفي أن تكون الصورة التي يتحدّث عنها "ورديّة"، موضحًا أنّها، على النقيض، صورة حقيقية للحاجة إلى التعاون والحوار والانتقال بالمنطقة من الصراع الذي دام على مدى 40 سنة إلى تكوين منظومة جديدة للتعاون لا بدّ منها لحلّ المشاكل إقليميًا.
ويؤكد أنّ العراق يلعب دور الوساطة وكذلك المبادرة وقد يلعب أدوارًا أخرى مقبلة، مشيرًا إلى أنّ البيئة الاستراتيجية المحيطة الآن بالعراق والمنطقة هي مشجّعة جدًا لعودة الدور العراقي.
ويخلص إلى وجود قدرة على صناعة شبكة من الحوار ما بين القادة وهذا ما استطاع الكاظمي أن ينجح في تكريسه، مضيفًا: "هذا مسار سياسي جديد للعراق مفيد جدًا للمنطقة وكذلك للحكومة العراقية في عملية تفكيك المشاكل الداخلية ذات الامتدادات الإقليمية".
هل "نغرق" في التفاؤل؟
من جهته، يعتبر أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت عبد الله الشايجي أنّ ما تحقّق في مؤتمر بغداد يشكّل "خطوة جيدة إلى الأمام"، لكنّه ينبّه من "الغرق في التفاؤل".
ويوضح الشايجي، في حديث إلى "العربي"، من الكويت، أنّ مخرجات مؤتمر بغداد أظهرت وجود التفاف عربي وخليجي واضح حول العراق ودعمه.
إلا أنّه يلفت إلى أنّ ذلك لا يعني أنّ العراق خرج من أزماته، مشبّهًا إياه بأنّه كمريض خرج من غرفة العناية ويحاول أن يستعيد عافيته شيئًا فشيئًا.
وانطلاقًا من ذلك، يرى أنّ العراق لا يزال يعاني من مشكلتين أساسيتين، تتمثّل الأولى بوجود دولة داخل الدولة، في إشارة إلى الحشد الشعبي وقدراته العسكرية والوصاية الإيرانية.
وينتقد الشايجي في هذا السياق وزير الخارجية الإيراني، الذي رغم أنّه تحدّث بالعربية، إلا أنّ خطابه كان فيه "الكثير من الشوفيينة والفوقية"، على حدّ تعبيره.
أما المشكلة الثانية التي لا يزال العراق يعاني منها، وفقًا للشايجي، فتتلخص بالوضعين الاقتصادي والصحي. ويشير إلى أنّ العراق لا يزال مصنَّفًا من الدول الهشّة، ووضعه لا يطمئن، وهو بحاجة إلى دعم وتعاون.
ماذا تريد فرنسا من العراق؟
ويتوقف الباحث في مركز جنيف للدراسات ناصر زهير عند دلالات المشاركة الفرنسية في مؤتمر بغداد، حيث يلفت إلى أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يريد أن يثبت أنّ فرنسا قادرة على لعب دور خارجي في الشرق الأوسط.
ويشير زهير، في حديث إلى "العربي"، من باريس، إلى أنّها قد تكون "فرصة ذهبية" إلى فرنسا، بالتزامن مع الانسحاب أو الانكفاء الأميركيّ من المنطقة.
ويلفت إلى أنّ العنوان العريض لمؤتمر بغداد كان مواجهة الإرهاب ودعم استقرار العراق، لكن الهدف الأساسي بالنسبة لفرنسا هو لعب دور محوري في الشرق الأوسط.
ويذكّر بالمبادرة الفرنسية في لبنان التي لم تنجح في تحقيق أهدافها، ولذلك تُعتبَر فاشلة، مشيرًا إلى أنّ الأمر مختلف في العراق، إذ إنّ "فرنسا تتسلح في العراق بتحالف أو بتنسيق مع الدول العربية، وهنا يمكن تحقيق نجاح".
ويشدّد على أنّ هذا المؤتمر هو فقط بالون اختبار للدول الإقليمية وحتى الأجنبية من أجل تحديد آليات التحالفات القادمة وما هي المسارات الثنائية.
ويلفت إلى أنّ ماكرون يريد كذلك تحقيق بعض الشعبية الداخلية بأن فرنسا تلعب دورًا محوريًا في الخارج بحيث تكون فاعلة في الشرق الأوسط، ملاحظًا أنّ الفرنسيين ينظرون إلى النتائج وليس إلى العمل انطلاقًا من التجربة اللبنانية.
ويتحدّث عن "جدوى اقتصادية" لفرنسا التي تطرح نفسها بأنها طرف دولي كبير لديه آليات لصفقات تسليح كبيرة يمكن الاعتماد عليه في ظل تنويع التحالفات بعد الانكفاء الأميركي.