الجمعة 22 نوفمبر / November 2024

اليسار يجدد نفسه في أميركا اللاتينية.. هل هي مجرد "موجة عابرة"؟

اليسار يجدد نفسه في أميركا اللاتينية.. هل هي مجرد "موجة عابرة"؟

شارك القصة

حلقة "قراءة ثانية" تناقش مسألة المد اليساري الجديد الذي وصل إلى الحكم في غالبية دول أميركا اللاتينية وتوج أخيرًا بفوز لولا دا سيلفا في البرازيل (الصورة: غيتي)
تُطرَح علامات استفهام حول صعود اليسار في أميركا اللاتينية، فهل هو اليسار القديم نفسه أم هو يسار جديد يجاري تطورات العصر؟ وهل يمتد إلى مناطق أخرى في العالم؟

خلال الأعوام الماضية، شهدت الخريطة السياسية في أميركا اللاتينية تحوّلًا لافتًا نحو حكم اليسار، إذ انحاز الناخبون في معظم دولها إلى مرشحي أحزاب أعادت إلى الواجهة شعارات المساواة والعدالة الاجتماعية.

وفيما وصف الإعلام الغربي موجة صعود اليسار في أميركا اللاتينية، بـ"الغزو اليساري"، فإنّ الثابت أنّ المد اليساري الجديد وصل بالفعل إلى الحكم في غالبية دول أميركا اللاتينية وتوج أخيراً بفوز لولا دا سيلفا في البرازيل.

من هنا، تُطرَح العديد من علامات الاستفهام حول ماهية هذا اليسار، فهل هو اليسار القديم نفسه أم هو يسار جديد يجاري تطورات العصر؟ وأي خصوصية تميز العلاقة بين اليسار والقارة اللاتينية؟

وأبعد من ذلك، هل هي موجة يسار جديدة؟ وهل ترسخ؟ وهل تمتدّ إلى مناطق أخرى في العالم بما فيها العالم العربي، ام أنها موجة عابرة أنتجتها الظروف الاقتصادية والمعيشية وفشل السياسات النيوليبرالية؟

مناضلون يساريون يصلون إلى الحكم

إذا كان صعود اليسار في أميركا اللاتينية بدأ نهاية تسعينيات القرن الماضي واستمرّ إلى بدايات الألفية الجديدة، فإنّ موجة المد الأولى حملت مناضلين يساريين إلى سدّة الحكم في بلادهم.

من هؤلاء هوغو تشافيز في فنزويلا عام 1998، ولولا دا سيلفا في البرازيل عام 2002، ونيستور كيرشنير في الأرجنتين عام 2003، وإيفو مورالس في بوليفيا عام 2005، وهو العام الذي شهد عودة دانييل أورتيغا إلى الحكم في نيكاراغوا.

وفي عام 2008 وصل خوزيه موخيكا إلى الحكم في الأوروغواي، ثم انتخب البرازيليون ديلما روسيف بديلة لدا سيلفا في عام 2010، وخلف نيكولاس مادورو هوغو تشافيز عام 2013.

وصل هوغو تشافيز إلى الحكم في فنزويلا عام 1998 - غيتي
وصل هوغو تشافيز إلى الحكم في فنزويلا عام 1998 - غيتي

هل فشلت تجربة اليسار في أميركا اللاتينية؟

في قراءة تجربة اليسار في أميركا اللاتينية، يشير المؤرّخون إلى أنّ مناضلي الأمس واجهوا واقعًا سياسيًا مختلفًا عن طموحاتهم الرومانسية، ولم تسعفهم خبراتهم السياسية المحدودة في التعامل معه.

وقد تسبّب ذلك، وفق مراقبين، في انحسار موجة المد اليساري وصعود اليمين الشعبوي وهو ما شهدته البرازيل والأرجنتين في 2015 وتشيلي في 2018 وبوليفيا في 2020، ما ترك انطباعًا لدى كثيرين في فشل التجربة اليسارية في أميركا اللاتينية وفقدان الناخب الثقة في أصحابها وأفكارهم.

في عام 2019، وفي ذروة موجة الجذر، شهدت مدينة بويبلا المكسيكية، إحدى أبرز محاولات مقاومة الغرق، حيث اجتمع عدد من الرؤساء السابقين والقيادات اليسارية لدراسة تجربتهم في الحكم وإعادة تقييمها ثم تقديمها بما يتناسب مع حسابات الواقع.

واتفق المجتمعون حينها على تقديم عروض تناهض النيوليبرالية من ناحية، وتنحاز إلى العدالة الاجتماعية والتضامن والديمقراطية ومواجهة القمع السياسي من ناحية أخرى.

ويبدو أنّ الموجة الجديدة من المد اليساري في الحكم جاءت لتدعم هذه الطموحات والتوصيات، ولو أنّ النجاح الفعلي يبقى رهنًا بالممارسة السياسية على أرض الواقع.

"اختلافات جذرية" بين يسار الأمس واليوم

يرى الباحث المتخصّص في شؤون أميركا اللاتينية بلال بكري أنّ اليسار في أميركا اللاتينية أصبح شبه متجذر لما يزيد عن ستة عقود بعد انتصار الثورة الكوبية التي اتسمت برمزية كبيرة في العالم كله وألهمت الشباب في عقد الستينيات والسبعينيات وما بعدهما، وما تزال تجدد نفسها وتلهم اليساريين في العالم بأسره.

ويشير في حديث إلى "العربي"، من ساو باولو في البرازيل، إلى أنّ اليسار في أميركا اللاتينية له خصوصياته، موضحًا أنّه يختلف كثيرًا عن التجربة اليسارية أو الاشتراكية أو الشيوعية في مناطق أخرى من العالم، حيث استلهم تجربته الخاصة التي تلائم أوضاع أميركا اللاتينية، إن جاز التعبير.

ويلفت إلى أنّ بدايات اليسار في أواسط القرن العشرين تختلف عن واقعه اليوم، متحدّثًا في هذا السياق عن "اختلافات جذرية"، لكنه يلاحظ أنّ من المميزات العامة لليسار هنا أنه نظر إلى طبقة الفلاحين وأهالي الأرياف والسكان الأصليين نظرة خاصة وإن كان من ضمن صفوفه حركة بروليتارية صناعية.

ويخلص بكري إلى أننا نشهد اليوم  الموجة الثانية لليسار في أميركا اللاتينية وهي موجة عارمة وصفها بعض المراقبين بالتسونامي، إلا أنّه يعتبر أنّ هذه الموجة جاءت نتيجة للعبة الديمقراطية النزيهة، مشدّدًا في الوقت نفسه على أنّها لم تنشأ من فراغ، بل جاءت نتيجة تراكمات.

خلف نيكولاس مادورو هوغو تشافيز عام 2013
خلف نيكولاس مادورو هوغو تشافيز عام 2013 في فنزويلا - غيتي

"يساران" في أميركا اللاتينية.. ماذا يعني ذلك؟

من جهته، يدعو الباحث في الشؤون الإسبانية والأميركية اللاتينية الأمين خطاري إلى فهم السياقات التي تأسست فيها الثورة اليسارية، حيث بدأت بنوع من الصراع ضد المستعمر، وهذا الصراع كان مسلحًا بمعنى أنه يفرض حالة من التسلح، أو العسكريتاريا، التي بدورها تحمل في سياقاتها الديكتاتورية وغير ذلك.

ويشير في حديث إلى "العربي"، من العاصمة الموريتانية نواكشوط، إلى ثورات متلاحقة استخدمت البنادق كوسيلة للكفاح والصراع، لكنّها حملت في طياتها في الوقت نفسه، الكثير من الاستبداد ومن عدم استقبال الرأي الآخر بمعنى أن لا صوت يعلو على صوت المعركة.

ويتحدّث في هذا السياق عن سلسلة من التحولات مرت بها أميركا اللاتينية إلى أن أوصلتها اليوم إلى ما لا يعتبره يسارًا جديدًا بالمعنى الحرفي، ولكن "تجدد ومحاولة بناء جسور مع منظومة عالمية جديدة وفق منطق لا يستبعد الطرح الثوري ولكنه أيضًا يفهم إكراهات اقتصاد السوق وعالم اليوم".

ويلفت خطاري إلى أنه يمكن الحديث عن خطين لليسار، "أو يسارين إن صح التعبير"، أولهما خط رومانسي حالم يستلهم الثورة وخطابات كاسترو وتشيه غيفارا وأدبيات اليسار التقليدي، حيث بدا أن هذا النموذج لم يعد "صالحًا" لمسايرة النموذج العالمي الجديد.

أما الخط الثاني وفق الباحث في الشؤون الإسبانية والأميركية اللاتينية، فهو اليسار الواقعي ممثلاً بدا سيلفا في البرازيل ونماذج تحاول أن توائم بين الثقافة اليسارية القريبة من المجتمع وإشكالاته وأيضًا ثقافة السوق وعصره اليوم.

ويخلص إلى أنّ أميركا لن تنظر بعين الارتياح إلى هذه التحولات وإن كانت ترى أيضًا أن تقليم أظافر اليسار بين قوسين أو هدوء النبرة قد يعطي انطباعًا بأنه يمكن مدّ جسور جديدة مع أميركا اللاتينية في ظل حكم اليسار الواقعي الذي يهدف إلى تحسين الظروف دون العودة إلى أدبيات الصراع التقليدي مع أميركا والإمبريالية.

تابع القراءة
المصادر:
العربي
Close