لا يزال الهجوم الإيراني غير المسبوق على العمق الإسرائيلي، يستقطب اهتمام الرأي العام، حتى بعد ما وُصِف بالردّ الإسرائيلي المضاد، والذي بقي من دون تبنٍّ رسميّ وواضح، ووصفه بعض المسؤولين الإسرائيليين قبل غيرهم بالضعيف.
ومع أنّ القراءات لتبعات الهجوم الإيراني تختلف، فإنّ ما يتّفق عليه الجميع أنّه شكّل مفاجأة للعديد من الأطراف الإقليمية والدولية، إذ كانت أول مرّة يتحوّل فيها الصراع بين الطرفين من تهديدات وهجمات بالوكالة، إلى مواجهة مباشرة بينهما.
انطلاقًا من ذلك، ترصد وحدة التحقق عبر المصادر المفتوحة في "العربي"، من خلال هذا التقرير، كلّ ما تكشف عنه صور الأقمار الصناعية، والمعلومات عن استراتيجية الهجوم الإيراني، وكيف طُوّعت منظومات الدفاع الجوي في الولايات المتحدة وإسرائيل للرد عليه، وكذلك الخسائر التي لحقت بدولة الاحتلال.
وإذا كان هذا التحقيق الخاص يرصد بالتفصيل حقائق ما حدث على الأرض، فإنّ هذه الحقائق قد تحمل في طيّاته الإجابة على السؤال المركزي الذي لا يزال مطروحًا: من كان الرابح في أول مواجهة مباشرة بين طهران وتل أبيب؟
كيف بدأ الهجوم الإيراني؟
ينطلق تحقيق "العربي" هذا من نقطة انطلاق الصواريخ الإيرانية على إسرائيل، وتحديدًا مع إعلان طهران استعدادها لشنّ الهجوم قبل وقوعه في تحدّ أمني وعسكري يغيّر من قواعد الاشتباك بين الطرفين.
وبعد ساعات من الهجوم في يوم السبت الثالث عشر من أبريل/ نيسان، وثّقت وسائل الإعلام الإيرانية في مقطع فيديو إطلاق صواريخ بالستية من مدينة شيراز الإيرانية التي تبعد عن الأراضي الفلسطينية المحتلة بأكثر من 1700 كيلومتر.
من جهتها، نشرت وكالة تسنيم الإيرانية لحظة إصدار قائد الحرس الثوري حسين سلامي لأمره بانطلاق عملية "الوعد الصادق"، كما سمّاها، وذلك من قاعدة النبي الأكرم، والتي تبعد بنحو 1568 كيلومتر عن الأراضي المحتلّة.
أميركيًا، قال البيت الأبيض إنّ إيران شنّت هذه الهجمات بالتعاون مع وكلائها في اليمن وسوريا والعراق، وهي المعلومات نفسها التي ردّدها الجانب الإسرائيلي مع نشر خريطةٍ تُظهِر انطلاق هذه الصواريخ من الدول المذكورة.
وفي محاولة للتثبّت من تلك المعلومات، بحثت وحدة التحقق عبر المصادر المفتوحة في "العربي" عن مقاطع فيديو توثّق بقايا الصواريخ بعد صدّها خارج الأراضي المحتلة.
وقد تبيّن سقوطها في ثلاث دول عربية هي سوريا، والعراق، والأردن، وهو الأمر الذي يعزّز فرضيّة انطلاق الهجمات من أكثر من دولةٍ بالفعل.
ولكن، ما نوع هذه الصواريخ التي استخدمتها إيران وكم عددها؟
وفقًا للرواية الإسرائيلية، فإنّ طهران استخدمت نحو 170 طائرة بدون طيّار، و30 صاروخ كروز، و120 صاروخًا بالستيًا، بينما اعتمدت على نفس الاستراتيجية الروسية في حرب الأخيرة ضد أوكرانيا، حيث أطلقت مجموعة من المسيّرات أولاً، ثمّ عشرات الصواريخ من نوع كروز، وأخيرًا الصواريخ البالستية بهدف وصولها إلى الأراضي المحتلة في الوقت نفسه، وتجاوز أنظمة الردع الإسرائيلية.
لمعرفة نوع الأسلحة الإيرانية، دقّق فريق "العربي" في المشاهد التي تظهر فيها، منها مقطع لمسيّرة إيرانية فوق أجواء العراق، اتّضح بعد مقارنتها أنّها طائرات من نوع شاهد 136، وهي نفس المسيّرة التي ظهرت في فيديو للجيش الإسرائيلي، وفي مشاهد للحظة إطلاقها من إيران.
أما بالنسبة للصواريخ المستخدمة، فقد تمكّنت وحدة التحقق في "العربي" من تحديدها من خلال صور حطامها، بينها على سبيل المثال صورة من جنوب الأراضي المحتلة، تتطابق مع صورة محرّك صاروخ شهاب 3 الإيراني، الذي يبلغ وزنه طنًا تقريبًا، ويصل مداه إلى 2000 كيلومتر، ويُعَدّ من الصواريخ بعيدة المدى.
ومن الصور المتداولة أيضًا، رصدت الوحدة صورة من البحر الميت تعود إلى حطام صاروخ عماد البالستي دقيق التوجيه، والذي يصل مداه إلى 1700 كيلومتر، وهو قادر على حمل 750 كيلوغرامًا.
وفي هجومها على إسرائيل، استخدمت إيران أيضًا صاروخ خيبر شكن الذي يظهر في لقطات إطلاقه، وهو أحد أنواع الجيل الثالث للصواريخ بعيدة المدى التابعة للحرس الثوري، ويعمل بالوقود الصلب، ويصل مداه إلى 1450 كيلومتر، كما يتمتّع بقدرة هائلة على المناورة لاختراق أنظمة الردع المختلفة.
كما يرجّح أيضًا، بحسب ما رصده فريق "العربي" من مشاهد، استخدام طهران لصاروخ غدر المطوَّر عن شهاب 3، حيث يتراوح مداه ما بين 1600 إلى 1950 كيلومتر، ووزن حمولته ما بين 750 إلى 800 كيلوغرام.
أين سقطت الصواريخ؟
انطلقت هذه الصواريخ جميعها ليلة الثالث عشر من أبريل باتجاه إسرائيل. وبالتدقيق في معالم المشاهد التي تُظهِر سقوط بعض الصواريخ الإيرانية على الأراضي المحتلة، تمكن فريق "العربي" من تحديد موقعها، إذ يرجّح أنّها سقطت ضمن النطاق الجغرافي لقاعدة نيفاتيم الجوية الإسرائيلية، وهي القاعدة التي تضمّ أسطول طائرات أف 35 التي قصفت القنصلية الإيرانية في دمشق قبلها بأسبوعين.
وقد وثّقت صور الأقمار الصناعية تضرّر أحد المباني في قاعدة نيفاتيم وإن صعب تحديد حجم الضرر من الصور. كما نشر جيش الاحتلال مشاهد إصلاح الأضرار في مدرج القاعدة الجوية.
وبمقارنة المعالم الظاهرة، تمكنت وحدة التحقق من خلال المصادر المفتوحة في "العربي"، من تحديد نقطة سقوط الصاروخ في موقع لا يبعد سوى 190 مترًا فقط عن مدرج مأهول بالطائرات بحسب قياسات خرائط غوغل. كما وقع صاروخٌ آخر في نقطة لا تبعد بدورها أكثر من 120 مترًا عن مربض الطائرات. وبالتالي، فإنّ الحفرتين تبعدان عن بعضهما البعض نحو 2.1 كيلومتر فقط.
وبمقارنة صور الأقمار الصناعية الملتقَطة عبر القمر الصناعي الأوروبي يوم الرابع عشر من أبريل والرابع منه، لاحظت الوحدة تغيّراتٍ طفيفة تشبه الحفر التي ظهرت في فيديو جيش الاحتلال، وهو ما أكّده مسؤول أميركي في تصريحات لشبكة "ABC"، إذ قال إنّ خمسة صواريخ بالستية أصابت قاعدة نفاتيم، بينما أصيبت قاعدتان جويتان في النقب بتسعة صواريخ إيرانية.
ولكن كيف تمّ صدّ هذه الهجمات ومن أين؟
حدّد تحقيق "العربي" أنظمة الدفاع الجوي المستخدَمة لصدّ الهجوم الإيراني من قبل دولٍ عدّة.
من الجانب الأميركي، ذكرت القيادة المركزية في بيان لها إسقاط 80 طائرة بدون طيّار، بالإضافة إلى عدد من الصواريخ البالستية.
وبحسب تقارير صحفية أميركية، استخدمت الولايات المتحدة نوعًا جديدًا من الصواريخ لأول مرّة، وهو الصاروخ القياسي SM-3 الذي أطلِق من على متن مدمّرة الصواريخ الموجّهة من طراز Arleigh Burke-class لصدّ الصواريخ الإيرانية.
ووفقًا للتقارير نفسها، فقد أطلقت كلٌ من المدمرتين USS Arleigh Burke وUSS Carney اللتان تمّ نشرهما في شرق البحر الأبيض المتوسط قبالة سواحل الأراضي المحتلة، ما بين أربعة إلى سبعة صواريخ SM-3 لاعتراض ما يزيد عن خمسة صواريخ إيرانية بالستية بعيدة المدى كانت تحاول استهداف عدد من القواعد الجوية في جنوب إسرائيل.
ومع أّنّ دولة الاحتلال لم تعلن بشكل رسميّ عن أنظمتها المُستخدَمة، إلا أنّ وحدة التحقق في "العربي" رصدت عددًا من اللقطات لصحفيين وثّقوا لحظة اعتراض الصواريخ الإيرانية. وعند مقارنة هذه المشاهد مع فيديو توضيحي لاستخدام صواريخ الردع في أنظمة الدفاع الجوي طويلة المدى Arrow، وجدنا تطابقًا واضحًا في طريقة الاعتراض والتي تتمّ خارج الغلاف الجوية.
ويعزّز هذه النتيجة فيديو يشرح طبيعة عمل تلك المنظومة بشكل دقيق، ليتأكّد لدينا أن هذه الأنظمة Arrow كانت من بين أنظمة الدفاع المستخدمة إسرائيليًا في صدّ الهجوم الإيراني، إذ تعمل هذه الأنظمة باستخدام رأس حربي قابل للفصل، يصطدم بالهدف، وتُعَدّ شركة الصناعات الفضائية الإسرائيلية المملوكة للاحتلال المنتج الرئيسيّ لها.
وإلى جانب أميركا وإسرائيل، شاركت فرنسا وبريطانيا والأردن في صدّ الصواريخ الإيرانية، لكنّها اكتفت بالإعلان عن مشاركة مقاتلاتٍ تابعة لأسلحة الجو لديها، من دون الكشف عن أنواع تلك المقاتلات أو عددها أو حتى حجم الصواريخ الإيرانية التي تصدّت لها.
ما حجم الخسائر؟
بحسب صحيفة يديعوت أحرونوت، قُدّر حجم الخسائر الإسرائيلية نتيجة الهجوم الإيراني بأكثر من مليار دولار، بينما تكبّدت طهران نحو عشرة بالمئة من خسائر تل أبيب.
كما تسبّب الهجوم في شلّ حركة الطيران المدني في إسرائيل وعدد من الدول العربية المجاورة، واضطرت ما لا يقلّ عن 12 شركة طيران إلى إلغاء أو إعادة توجيه رحلاتها على مدار يومين، بينما بدت أجواء المنطقة خالية تمامًا بحسب موقع flight radar المختصّ بمراقبة حركة الملاحة الجوية.
وبحسب ما رصدناه، يكون هذا الهجوم غير المسبوق في الصراع بين طهران وتل أبيب، قد تسبّب أيضًا في أكبر اضطراب للسفر الجوّي منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 في الولايات المتحدة.