مع تعثّر الحرب الروسية على أوكرانيا وتزايد عزلة موسكو، أصبحت الدول الأوروبية حذرة من أن الكرملين قد يستغلّ مجتمعاتها المفتوحة لتعميق محاولات التجسّس والتخريب والتسلّل، في حال تطوّر الصراع ليشمل دولًا غربية.
وذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية أن السلطات النرويجية أوقفت 7 مواطنين روس بعد اتهامهم بتطيير طائرات مسيّرة بصورة غير مشروعة لتصوير مناطق إستراتيجية في شمالي البلاد، وكان من بينهم أندري ياكونين، نجل رئيس سكك الحديد الروسية المقرّب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وأضافت أن السلطات الألمانية عثرت على طائرات بدون طيار تحلق فوق مواقع عسكرية يتم فيها تدريب القوات الأوكرانية، ويشتبه المسؤولون الألمان في كون هذه الطائرة تابعة للمخابرات الروسية. كما أثار قطع الكابلات البحرية في فرنسا، واختراق شبكات توزيع الوقود في بلجيكا وألمانيا قبل أيام من الحرب الروسية، حالة من القلق داخل المجتمعات الأوروبية.
النرويج ودعوة للاستيقاظ
وبينما لا يمكن تتبّع جميع الحوادث إلى الكرملين، إلا أن الصحيفة الأميركية توضح أنه قد تكون لدى النرويج أسباب للقلق من الجواسيس أكثر من معظم الدول الأوروبية الأخرى.
فبعد أن أدت العقوبات الغربية إلى قطع الوقود الأحفوري الروسي عن أوروبا، أصبحت النرويج أكبر مورد للنفط والغاز للقارة العجوز، كما أنه قبالة ساحل القطب الشمالي، توجد الكابلات تحت الماء التي تعتبر بالغة الأهمية لخدمة الإنترنت للمركز المالي في لندن، ولتمرير صور الأقمار الصناعية من أقصى الشمال، حيث تقع النرويج على حدود روسيا لمسافة 123 ميلًا، عبر المحيط الأطلسي إلى الولايات المتحدة.
وقد أصبح هذا الدور الحيوي أكثر عرضة للخطر منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، عندما استهدفت انفجارات خطوط أنابيب نورد ستريم بين روسيا وألمانيا، والتي تبادلت موسكو وواشنطن الاتهامات بشأنها.
وفي هذا الإطار، رأى توم نورث، الأستاذ في كلية جامعة الدفاع النرويجية، أن محاولات التجسّس الروسية تمثّل "دعوة للاستيقاظ بأن الحرب ليست في أوكرانيا فقط، بل أنها يمكن أن تؤثر علينا أيضًا".
وأوضح الباحث النرويجي أن "السلطات الأوروبية ألقت القبض على عدد من الجواسيس الروس التقليديين وطردتهم من البلاد في السنوات الأخيرة، مما قد يجعل موسكو أكثر اعتمادًا على الخلايا النائمة، خاصة مع تعثّر الحرب في أوكرانيا".
واعتبر أن الزيادة الأخيرة في عدد حالات كشف الجواسيس تعكس حاجة روسيا الماسة للوصول إلى خلاياها النائمة.
وقال: "في هذه المرحلة الزمنية في أوروبا، ومع الضغوط التي تعيشها موسكو، فإن أنشطة التجسّس الروسية السابقة، أصبحت تنطوي على مخاطر أكبر الآن".
وبدأ القلق يتصاعد في النرويج، بعد رصد طائرة بدون طيار من الدرجة العسكرية في سبتمبر فوق منصة نفطية في بحر الشمال. وسرعان ما تمّ رصد المزيد من الطائرات بدون طيار فوق منشآت النفط والغاز ومحطة توليد الكهرباء.
وفي أكتوبر، تم إغلاق مطار بيرغن الواقع بالقرب من أكبر قاعدة بحرية في البلاد، لمدة ساعتين بعد ملاحظة وجود طائرات بدون طيار في المنطقة.
ودفعت هذه الأحداث النرويجيين إلى التساؤل عن حوادث أخرى وقعت في وقت سابق من العام، وما إذا كانت ناجمة عن أعمال تجسس وتخريب أقدمت عليها روسيا، على غرار إتلاف كابل تحت الماء في يناير، والذي كان يرسل صور الأقمار الصناعية لوكالات الفضاء الغربية، بالإضافة إلى تضرر مخزون مائي كبير بالقرب من عدة مواقع عسكرية ليست بعيدة عن مدينة ترومسو.
وقال مفتش الشرطة الإقليمي أولي جوهان سكوجمو، إن "مثل هذه الهجمات كانت مفيدة لناحية زيادة المراقبة على منصات استخراج النفط"، مشيرًا إلى أن "تلك الهجمات لا تزال مجهولة المصدر".
مزاح وبكاء
بالعودة إلى قضية ياكونين الابن، وهو رجل أعمال يعيش في المملكة المتحدة ويحمل الجنسية البريطانية، فقد نأى بنفسه عن الحرب الروسية على أوكرانيا رغم صلة والده الوثيقة مع بوتين.
وألقت السلطات النرويجية القبض على ياكونين، بعد أن أوقفت يخته "فاير بيرد" (Firebird)، وجرى التحقيق معه فيما إذا كان يمتلك طائرات مسيرة. فأكد ياكونين امتلاكه لواحدة كان يستخدمها في التقاط صور له ولطاقم اليخت وهم يتزلجون ويصطادون الأسماك، مستمتعين بالمناظر الطبيعية الجليدية في القطب الشمالي في النرويج.
وبدأت محاكمة ياكونين في 3 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، حيث يُطالب المدعون العامّون في النرويج بسجنه 120 يومًا.
وقال ياكونين مازحًا في مقابلة: "بالتأكيد لست جاسوسًا، وذلك على الرغم من أنني أمتلك مجموعة كاملة من أفلام جيمس بوند".
في حديثه لصحيفة "نيويورك تايمز"، رفض ياكونين التعليق على ما إذا كان اعتقاله بدوافع سياسية، لكنه استغرب اعتقاله وثلاثة رجال آخرين خلال فترة قصيرة في أكتوبر.
وفي قاعة محكمة صغيرة بعيدًا عن الكاميرات، دافع المهندس الروسي أليكسي ريزنيشنكو عن نفسه، بعد أن جرى اعتقاله عقب التقاطه صورًا لأسوار مطار ترومسو وموقف السيارات الخارجي. كما عُثر معه على صور لطائرة هليكوبتر عسكرية ومطار كيركينيس القريب.
وفي المحكمة، انفجر ريزنيشنكو بالبكاء، وهو يتحدث من خلال مترجم باللغة الروسية، قائلًا إنه يخشى على أسرته، مؤكدًا أنه المعيل الوحيد لها، مشيرًا إلى أن التقاط صور الطائرات والمطارات هي مجرد هواية قديمة بالنسبة له.
ورغم عدم وجود أي مخالفات قانونية في الصور التي التقطها، وُجّهت للمهندس الروسي تهمة تسيير طائرات مسيّرة على غرار ما حدث مع ياكونين.
وجادل ياكونين والعديد من محامي الدفاع عن المتهمين الآخرين بأن معاقبة الروس على أساس الجنسية هو تمييز، وربما انتهاك لحقوق الإنسان.
وقال جون كريستيان إلدن، محامي ياكونين: "إذا كان القانون يُغطي هذا، فإن القانون يمثّل مشكلة".
ورغم تبرئة ياكونين وزيرنشنكو لاحقًا، إلا أن المدعين قرّروا استئناف القضية، وسيمثل ياكونين أمام محكمة ترومسو في يناير المقبل.
وفي هذا الإطار، قالت محامية زيرنشنكو أولا لارسن: "السياسة تلعب دورًا في هذه القضايا".