يشهد العراق أزمة سياسية منذ خسارة الأحزاب الموالية لإيران الانتخابات البرلمانية، حيث حاز "التيار الصدري" على 73 مقعدًا من أصل 329 مقعدًا.
ويصرّ زعيم "التيار الصدري" مقتدى الصدر على المضي في تشكيل حكومة أغلبية وطنية وإبعاد قوى "الإطار التنسيقي" التي تطالب بالعودة إلى أسلوب التوافق المتّبع في الدورات السابقة. الأمر الذي أدخل البلاد في فراغ دستوري، وفتح باب الترشيح للرئاسة من جديد.
ومنذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، يتمّ تقاسم السلطة عرفيًا بين مختلف طوائف البلاد في نظام طائفي، حيث تعود رئاسة الجمهورية للأكراد، ورئاسة الوزراء للشيعة الذين يمثّلون الطائفة الأكبر في البلاد، بينما تعود رئاسة البرلمان إلى السنّة.
وتبلور الانسداد مع فشل مجلس النواب في عقد جلسته للتصويت على اختيار رئيس للجمهورية بسبب عدم اكتمال النصاب، بعد مقاطعة العديد من الكتل السياسية البارزة وعلى رأسها الكتلة الصدرية.
وأعلن "الحزب الديمقراطي الكردستاني" ترشيح هوشيار زيباري لمنصب رئيس الجمهورية، بينما قدّم "حزب الاتحاد الوطني الكردستاني" الرئيس الحالي برهم صالح مرشّحه للمنصب لدورة ثانية.
ويرفض نواب "الإطار التنسيقي" الشيعي التصويت لصالح زيباري على خلفية اتهامه بملفات فساد مالي خلال تسلّمه وزارة المالية.
وبعد فشل البرلمان بعقد جلسة لاختيار رئيس جديد للبلاد، طرح "الإطار التنسيقي" في بيان، مبادرة قال إنها تهدف إلى الخروج من الانسداد السياسي في البلاد.
وتتألف المبادرة من ثلاث نقاط، في مقدمتها دعوة القوى السياسية إلى بدء مرحلة جديدة من الحوار، تحقّق شراكة حقيقية في إدارة البلاد. ومن بين نقاط الخلاف الرئيسية، اعتراض مقتدى الصدر على مشاركة "ائتلاف دولة القانون" بزعامة نوري المالكي- وهو جزء من "الإطار التنسيقي"- في الحكومة الجديدة.
وللخلاف هذا جذور تاريخية تبرز في إطار ملفات عديدة منها طريقة التعامل مع الوجود الأميركي، وسحب أسلحة الميليشيات، وإعادة الاعتبار للقوات المسلّحة العراقية، ومكافحة الفساد، وشكل العلاقات الخارجية خصوصًا مع إيران.
لكن هذه الملفات تُخفي تحتها الصراع الحقيقي بين الجهتين، فهو برأي الكثير من المحلّلين، صراع زعامات بين مقتدى الصدر ونوري المالكي.
جذور الخلاف بين الصدر والمالكي
ويعود الرفض المتبادل بين الرجلين إلى مارس/ آذار 2008، حين شنّ المالكي حملة عسكرية كبيرة مدعومة من الجيش الأميركي سُمّيت بـ"صولة الفرسان" ضدّ ميليشيات "جيش المهدي" التابعة للصدر في بغداد ومدن الجنوب العراقي. وأسفرت عن مقتل العشرات واعتقال المئات منهم، وزّجهم في السجون.
واعتبر الصدر يومذاك، هذه العملية محاولة لسحق "التيار الصدري" واجباره على الرضوخ للقوى الشيعية الأخرى وغدرًا من المالكي.
وعلى الرغم من تصريحات الصدر العديدة الرافضة لتولّي المالكي منصب رئيس الوزراء لولاية ثانية، إلا انه تراجع عن موقفه في حينه تحت الضغوط الإيرانية.
وأعلن من إيران، حيث كان يقيم، موافقته على الولاية الثانية للمالكي. لكن هذا الأمر لم يستمرّ طويلًا، فتصاعدت حدة الخلافات بين الطرفين، وهدّد اتباع الصدر بالانتقام من المالكي بعد تصريحاته عام 2013 بأن الصدر "لا يفقه شيئًا في السياسة، وعلى الجميع عدم التعامل معه في هذا الشأن".
هذه التصريحات كان لها تأثير واضح على موقف الصدر في ما بعد، حيث نجح في إقناع القوى السياسية الشيعية بعدم التمديد للمالكي لولاية ثالثة، مستغلًا مخاوف هذه القوى والقوى الكردية والسنيّة منه.
وبالعودة إلى الأزمة الراهنة، فان التأجيل في المسار الحالي، يضع العراق في حالة انسداد سياسي لأن كل التنظيم الذي تُدار به الحياة السياسية قد يتعرّض للاهتزاز. ويُشبه الوضع الحالي بشكل كبير، ما كان عليه العراق سنة 2014، عندما تطلّب الأمر أشهرًا طويلة لتشكيل حكومة بعد رفض المالكي حينها التنحّي عن منصب رئاسة الوزراء.
وساعد انعدام الأمن والظروف غير المستقرّة في ذلك الوقت في توسيع انتشار مقاتلي "تنظيم الدولة".
ويبقى مستقبل الانتخابات، ووجه العراق في المستقبل القريب ضبابيًا في وقت تزداد فيه الأسئلة عن دور أكبر كتلة نيابية في ملء الفراغ السياسي وإزاحة الخصوم التقليديين.
تاريخ التيار الصدري
ويعود تاريخ الصدريين إلى منتصف التسعينيات من القرن الماضي، إلى مرجعية السيد محمد صادق الصدر في النجف، الذي كان يؤمن أن تكون المرجعية عربية مقرّها النجف. واغتيل الصدر الوالد ونجلاه مصطفى ومؤمل في النجف عام 1999. واختفى اتباعه، وابتعد ولده الوحيد مقتدى عن النشاط السياسي حينها.
لكن بعد سقوط النظام العراقي عام 2003، بدأ الشيعة بالتجمّع حول التيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر في مناطق عديدة، في مقدمتها مدينة الصدر التي تضمّ نحو ثلاثة ملايين نسمة.
وفي يونيو/ حزيران 2003، أسّس مقتدى الصدر فصيلًا مسلّحًا أطلق عليه اسم "جيش المهدي"، ومهمته مقاومة الغزو الأميركي ومحاربة تنظيم "القاعدة"، لا سيما بعد تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء عام 2006.
لكن هذا الفصيل اتُّهم بارتكاب أعمال طائفية بلغت ذروتها بين عامي 2006 و2007، ما دفع الصدر إلى حلّه عام 2008 بعد استهدافه من قبل حكومة نوري المالكي في ما عُرف بـ "صولة الفرسان".
وعام 2014، أعلن الصدر تأسيس "سرايا السلام" لحماية المراقد والمقدسات الدينية إبان سيطرة "تنظيم الدولة" على أجزاء واسعة من العراق.
أما لواء "اليوم الموعود" الذي أسّسه الصدر عام 2008، فأُحيط بالسرية والكتمان، ولا تُعرف مهامه. لكن مقتدى الصدر أعلن حلّه نهاية العام الماضي، بعد دعوته الفصائل الشيعية المسلّحة الموالية لإيران إلى حلّ نفسها إن هي أرادت الانضمام للحكومة المقبلة.
"الحكومة المقبلة هي المحك الحقيقي"
وأوضح سعد ناجي جواد، أستاذ العلوم السياسية في جامعة لندن، أن التيار الصدري اكتسب دورًا كبيرًا في الحياة السياسية العراقية منذ تأسيسه على يد والد مقتدى الصدر، الذي استطاع جذب الشباب والفئات الفقيرة والمهمّشة في العراق، نتيجة حرصه على تمثيل معاناة هذه الفئات.
وأضاف جواد، في حديث إلى "العربي"، أن التيار الصدري آنذاك أزعج السلطة العراقية وإيران التي لا تحبّذ ظهور تيار مخالف للحوزة العلمية في النجف، وبالتالي اتهمته بالتبعية للسلطة العراقية آنذاك.
وقال: إن "التيار الصدري" الآن هو "تيار عروبي"، غير عابر للطوائف، لكنّه في الوقت نفسه حريص على الوحدة الوطنية، معادٍ للوجود الأميركي في العراق.
وأوضح أن مقتدى الصدر يريد الابتعاد عن إيران، ولا يُحبّذ التدخّل الإيراني في العراق، لكنه، في الوقت نفسه، كان يذهب إلى إيران بطلب من الطرف الإيراني، في محاولة لإبعاده عن أنصاره، مضيفًا أن هذا الأمر لم يعد يحصل في السنوات الأخيرة حين أدرك مقتدى الصدر أنه أقوى من الأطراف العراقية الشيعية الأخرى.
واعتبر أن هذه الأطراف الشيعية تنظر إلى الصدر بعين "الغيرة والحسد" لأنه لا يستطيعون ان يجاروا الصدر في حجم التأييد الشعبي والانتماء إليه، وبالتالي هي تحاول مجاراة الصدر بعدد ميليشياتهم وفصائلهم المسلّحة.
وحول مستقبل العراق، قال جواد إنه "لا برنامج واضحًا للتيار الصدري حول مستقبل العراق، رغم أنه يتحدّث عن محاربة الفساد، وتحجيم دور الميليشيات، واختيار الأفضل، لكنّ هذه التوجّهات تبقى مجرد تساؤلات إلى حين تشكيل الحكومة".
وأكد أن الحكومة المقبلة هي "المحكّ الحقيقي لمعرفة مدى نجاح التيار الصدري في أهدافه التي يتحدّث عنها من محاربة فساد وغيرها من الأهداف".
وعن قدرة الصدر على مواجهة الضغوط الإيرانية، قال جواد إن الصدر "حتى الآن يواجه هذه الضغوط، ويرفضها".