عام 1948 عصفت النكبة بفلسطين وشعبها فسُلبت الأرض واقتُلع الشعب وتحول المواطن لاجئًا.
ومع غروب شمس يوم 24 نيسان/ أبريل 1948 كانت يافا قد غابت تمامًا عن ناظر الشاب شفيق الحوت الذي وصل إلى شواطئ لبنان بعدما أجبرته النكبة على مغادرة فلسطين.
ويشكل شفيق الحوت واحدًا من مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية وأحد أبرز وجوهها حتى استقالته عام 1993 اعتراضًا على اتفاقات أوسلو.
في مذكراته التي صدرت تحت عنوان "عشرون عامًا في منظمة التحرير الفلسطينية - أحاديث الذكريات" و"بين الوطن والمنفى - من يافا بدأ المشوار" سجل شفيق الحوت ذكرياته على الرغم من المرارة التي كان يشعر بها بسبب ما جرى لفلسطين.
وصل شفيق الحوت إلى لبنان في سن الـ16 عامًا محملًا بكثير من المشاهد الصعبة، ويعاني من صدمة فقد يافا وشقيقه جمال الذي مات دفاعًا عنها.
تجربة جديدة في لبنان
في لبنان، بدأ الحوت حياة جديدة حيث التحق بالجامعة الأميركية طالبًا بكلية الطب، وداخل أسوارها بدأ بالتعرف على الحركات السياسية الموجودة.
وبعد تخرجه عام 1956، بدأ شفيق الحوت تجربة جديدة حيث بدأ العمل في مجلة الحوادث اللبنانية بجانب سليم اللوزي حاملًا هموم فلسطين وأحوال أبنائها ومعاناتهم في المخيمات وتضييق الشعبة الثانية عليهم.
كانت فترة الخمسينيات قد شهدت نهوضًا قوميًا وصل لذروته مع إعلان الجمهورية العربية المتحدة، لكن هذه الوحدة لم تكتمل بعد الانفصال بين مصر وسوريا عام 1961.
لكن هذه الفترة شهدت أيضًا تحركًا من فلسطينيي الشتات هدفه إعادة الروح للشخصية الوطنية الفلسطينية وهو ما أدى في النهاية إلى إنشاء جبهة التحرير الفلسطينية التي دعت إلى وحدة الفصائل الفلسطينية في كيان واحد وإلى قومية قرار الحرب والسلم من خلال التنسيق مع الدول العربية ضمن إستراتيجية موحدة.
خلافات مع فتح
إلا أن تلك الرؤية تسببت في خلافات مع حركة فتح من دون أن تمنع لقاء شفيق الحوت في بيروت مع خليل الوزير وياسر عرفات سعيًا لتخفيف حدة الاحتقان.
عام 1963 صدر العدد الأول من الدورية السرية "طريق العودة" بإشراف شفق الحوت التي تعبر عن مواقف جبهة التحرير الفلسطينية، لكن الخلافات العربية وصلت إلى ذروتها بعد انهيار الوحدة المصرية السورية.
حاول جمال عبد الناصر تجاوز تلك الخلافات، فدعا في 23 ديسمبر/ كانون الأول 1963 إلى قمة عربية لكسر الجليد بين الأشقاء.
وعقدت القمة في 13 يناير/ كانون الثاني 1964 حيث أعلنت في بيانها عن إقامة قواعد سلمية لتنظيم الشعب الفلسطيني بهدف تمكينه من تحرير وطنه وتقرير مصيره وتوكيل أحمد الشقيري أمر تنظيم الشعب الفلسطيني.
شكلت القمة إيذانًا ببث روح جديدة في العمل التنظيمي للفلسطينيين. وفي 28 مايو/ أيار 1964 أعلن المجلس الوطني الفلسطيني في القدس قيام منظمة التحرير الفلسطينية وأصبح شفيق الحوت ممثلًا للمنظمة في لبنان.
وكانت قيادة الشقيري للمنظمة محل انتقادات فلسطينية، وكان عليه مواجهة مطالب التنظيمات الصاعدة خاصة حركة فتح ومجابهة هموم الساحة العربية وضغوطها، إذ كان لكل دولة رؤيتها في المنظمة.
كما أن قيادات عربية اعترضت على شخصية الشقيري نفسها، ولم تبد الأردن ارتياحًا لتأسيس المنظمة، وكان على الشقيري أن يتجاوز كل هذه المطبات.
نقاط التقاء بين شفيق الحوت وعبد الناصر
ويتحدث شفيق الحوت في مذكراته عن لقاءات عديدة جمعته مع عبد الناصر، خصوصًا وأنه كان من الداعين لعدم التورط بحرب عربية إسرائيلية قبل اكتمال الاستعداد وهي واحدة من نقاط خلافه مع حركة فتح في تلك المرحلة، وهو ما تلاقى به مع عبد الناصر.
وبعد شهور قليلة من هذا اللقاء اندلعت الحرب. ففي 5 يونيو/ حزيران 1967 بدأت حرب الأيام الستة التي هُزمت فيها الجيوش العربية أمام إسرائيل. هذه الهزيمة جعلت شفيق الحوت يتذكر لقاءاته مع عبد الناصر.
هزيمة يونيو 1967 شكلت فرصة حقيقية أمام منظمة التحرير الفلسطيني لملء الفراغ الذي حصل بعد النكسة، حيث سقط الرهان الفلسطيني على الجيوش العربية وصار لزامًا على الفلسطينيين قيادة معركة التحرير.
في مؤتمر الخرطوم في 29 أغسطس/ آب 1967 كانت أولى المهام الدبلوماسية لشفيق الحوت كأحد ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية في القمة. وفي هذه الاجتماعات فقد الحوت براءته السياسية بعدما رصد الأحقاد السياسية المتبادلة بين الدول العربية.
لاءات قمة الخرطوم
وتحكي مذكراته كواليس القمة ورغبة الدول باستبعاد حضور الشقيري وتهديد الحوت بإلقاء خطبة في المسجد الكبير في الخرطوم ومطالبة السودانيين بالضغط حتى تشارك منظمة التحرير.
وفي القمة، تقدم الوفد الفلسطيني بأربعة لاءات: لا صلح، لا تعايش، لا تفاوض، ولا انفراد لأي دولة عربية بقبول أي حل لقضية فلسطين، لكن القمة اعتمدت 3 لاءات وتجاهلت الرابعة.
وفي القمة ذاتها، أعلن الملك حسين معارضته للعمل الفدائي في الضفة، وأمام هذا الموقف أعلن الشقيري انسحابه مع الوفد الفلسطيني.
وأمام تلك الصراعات والأزمات، لم يجد الشقيري أمامه سوى إعلان استقالته من قيادة منظمة التحرير في 25 ديسمبر/ كانون الأول 1967.
كان شفيق الحوت يرغب بتوحيد النضال الفلسطيني، فقام ورفاقه عام 1968 بحل تنظيم جبهة التحرير. ورغم انتقادات الحوت للشقيري، إلا أنه يقول: "من واجبي الأخلاقي أن أكرر ما سبق وقلته مرارًا وفي مناسبات عدة. إنه لولا الشقيري لما وجدت منظمة التحرير الفلسطينية الوطنية أهم إنجاز وطني حتى الآن".
انتقال العمل الفدائي من الأردن إلى لبنان
وفي 21 مارس/ آذار 1968 بددت معركة الكرامة شعور الإحباط الذي ولدته هزيمة يونيو. كان هذا التطور ينذر بقرب الصدام بين المنظمات الفلسطينية والجيش الأردني، لتقع الكارثة في سبتمبر/ أيلول عام 1970 حيث انتقل بعدها العمل الفدائي إلى لبنان.
ومع انتقال الفصائل الفلسطينية من الأردن إلى لبنان تراجعت أهمية مكتب منظمة التحرير الذي يرأسه شفيق الحوت في بيروت. وكانت الحقبة اللبنانية من عام 1970 حتى خروج المقاومة عام 1982 من أبهى فترات العمل الفدائي الفلسطيني والنشاط السياسي والدبلوماسي.
وبحسب مذكرات الحوت، فقد سعت إسرائيل لتوجيه ضربة قاسمة لمنظمة التحرير وإخراجها من لبنان وتشجيع الأطراف اللبنانية على الاقتتال الداخلي. وتحكي المذكرات عن الجانب الشخصي للحوت أثناء تخفيه داخل أحياء بيروت وبيوتها وعن أخبار عائلته وتفتيش بيته والتحقيق مع زوجته أثناء اجتياح بيروت بهدف الحصول على معلومات عن زوجها.
عاش شفيق الحوت فترة عصيبة بين سقوط بيروت وخروج الفلسطينيين منها. فقد كان خروج منظمة التحرير ضربة قاسية لكنها لم تكن قاتلة أو قاضية.
وفي هذه الفترة كثرت الانشقاقات في الساحة الفلسطينية التي يرجعها الحوت إلى أن الفصائل نظرت لمنظمة التحرير الفلسطينية على أنها شكل، أما المضمون فكان للتنظيمات.
لكن الأخطر برأيه هو أن بعض التنظيمات الفلسطينية غالت في خدمتها لأنظمة عربية. تلك العوامل دفعت شفيق الحوت للاعتذار عام 1984 عن تولي أي منصب قيادي في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.
واللافت في مذكرات شفيق الحوت الربط الزمني بين الأزمة المالية المفاجئة لمنظمة التحرير والتمهيد لاتفاق أوسلو، حيث أصيبت مؤسسات المنظمة بالشلل إضافة إلى عجز مباغت للصندوق القومي عن الوفاء بالتزاماته المالية، بالإضافة إلى ازدياد الفساد داخل المنظمة.
استقالة شفيق الحوت اعتراضًا على اتفاق أوسلو
ووصل هذا الفساد إلى بعض الشخصيات التي كانت قريبة من ياسر عرفات.
في سبتمبر/ أيلول 1991 عاد الحوت مجددًا إلى اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير لكنه سرعان ما استقال من المنظمة عام 1993 احتجاجًا على اتفاقات أوسلو بعدما كان أحد 8 شخصيات عارضت الاتفاق في المجلس المركزي الفلسطيني في تونس مقابل موافقة 120 عضوًا.
تلك الاتفاقات كانت تدور في سرية تامة ولم يعلم بها غالبية أعضاء اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير.
في مذكراته، يوجه شفيق الحوت سهام نقده إلى ياسر عرفات، معتبرًا موافقة الأخير على اتفاق أوسلو خطأ كبيرًا أضر بالحقوق الفلسطينية بعدما أصبح الاتفاق المرجعية النهائية بدلًا من الأمم المتحدة. كما أن هذا الاتفاق منع المجلس الوطني الفلسطيني من تقرير مصير الشعب الذي يمثله.
ورغم خلاف شفيق الحوت مع عرفات حول أوسلو، ظلت لغة المذكرات هادئة عنه. وبرغم هزيمة 1967، بقي شفيق الحوت وفيًا لإرث عبد الناصر.
ولعل أقرب ما يمكن أن يصف شخصية الحوت ما كتبه المفكر العربي عزمي بشارة حينما قال: "شفيق الحوت يكتب بمهنية وبأسلوب ممتع عن سيرته متحدة مع سيرة حركة التحرر الفلسطينية بعد النكبة، لكن الشخصية القوية الواثقة وروح الدعابة الدائمة تخفي رومانسية وطنية تجعله يرى الإيجابي في ياسر عرفات رغم خلافه معه واختلافه المتطرف عنه، ولا ينطق بكلمة عن سلبيات وإخفاقات جمال عبد الناصر.
ورغم الرومانسية فإن التنور والعقلانية النقدية ورفض الإشاعة أو الاعتقاد السائد أو الأفكاء المسبقة تسري في قلمه. سيرته سيرة فلسطين الشتات وبناء الحركة الوطنية وسيرة لبنان أيضًا".