على مدى عشرات السنوات، جرت أحداث كثيرة في العالم العربي ساهمت في رسم الخارطة السياسية للشرق الأوسط، من حروب ونزاعات إقليمية واتفاقيات، كانت القوى الدولية المختلفة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي، جزءًا أساسيًا منها.
في تلك المرحلة برز على الساحة عرّاب السياسة الخارجية الروسية يفغيني بريماكوف، والذي عمل على مدى 50 عامًا في كواليس صناعة القرار السوفيتي، وخصوصًا في الشرق الأوسط، استطاع من خلالها بناء صداقات مع عدة قادة من الدول العربية.
حياة بريماكوف
بدأ بريماكوف حياته المهنية مراسلًا لصحيفة "برافدا" في القاهرة، ليتعرف من خلال عمله على الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، ويكتب عنه كتابًا باسم "عهد الرئيس جمال عبد الناصر".
بعد ذلك، أصبح مديرًا لمعهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية، ثم رئيسًا للاستخبارات الخارجية فوزيرًا للخارجية، ثم رئيسًا للوزراء ليضع من خلال خبرته العميقة في العلاقات الدولية، أسس السياسة الخارجية الروسية والتي طوّرها بعد ذلك الرئيس الحالي فلاديمير بوتين.
وقد كتب بريماكوف من خلال تجربته السياسية الواسعة العديد من الكتب التي تتحدث عن المنطقة العربية؛ منها الكواليس السرية للشرق الأوسط، ويوميات بريماكوف في حرب الخليج، وكتاب الشرق الأوسط المعلوم والمخفي، والتي يظهر من خلالها مدى تأثير كلمته في رسم مصالح الاتحاد السوفيتي مع حلفائه العرب.
العلاقات السوفيتية الإسرائيلية
في أواخر أغسطس/ آب من عام 1971، حطت طائرة الخطوط الإسرائيلية القادمة من موسكو في تل أبيب، حيث كان على متنها بريماكوف في مهمة سرية لإعادة العلاقات السوفيتية الإسرائيلية بعد انقطاعها مدة 5 سنوات، بسبب احتلال إسرائيل للأراضي العربية عام 1967.
حينها لم يكن بريماكوف قد تقلد أي منصب رسمي في الاتحاد السوفيتي، لكن معرفته الواسعة في الشرق الأوسط دفعت القيادة السوفيتية إلى اختياره لهذه المهمة.
ويقول رئيس تحرير مجلة العلوم السياسية الروسية أندري جوروخوف: إن "بريماكوف لعب دورًا رئيسيًا في العلاقة بين الاتحاد السوفيتي وإسرائيل، حيث طلب منه إعداد مذكرة تحليلية كتب فيها أنه من الضروري اتخاذ بعض الخطوات التمهيدية تجاه إسرائيل"، مضيفًا أنه فعل ذلك بمساعدة لجنة أمنية بواسطة "الكي جي بي".
وتابع أنه في تلك الفترة، لم يكن لبريماكوف علاقة بالقيادة السياسية في الاتحاد السوفيتي، حيث كان ممثلًا للمجتمع الأكاديمي، وكانت تلك الفكرة الأساسية من اختياره حينذاك، فحتى لو تم اكتشافه فسيظهر حينها بأنه شخص لا علاقة له بقيادة الاتحاد السوفيتي، وأن الاتصالات مع إسرائيل مقتصرة على مستوى العلاقات الأكاديمية، وهذا لن يؤثر على علاقتهم السياسية مع حلفائهم العرب.
لقاء بريماكوف مع غولدا مائير
وفي صباح اليوم التالي، قابل بريماكوف غولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل. وكان حينذاك يحمل في جعبته الكثير من القضايا العالقة، والتي يجب عليه مناقشتها معها.
وبعد هذا اللقاء، تقول المحاضرة الأكاديمية الدبلوماسية في وزارة الخارجية الروسية زيراسا إليفا: إن بريماكوف عقد اجتماعات منتظمة في العاصمة النمساوية مع ممثلين عن إسرائيل، وهذه المحادثات فشلت في النهاية، والحقيقة أن الاتحاد السوفيتي كان قد قطع علاقاته الدبلوماسية مع إسرائيل بسبب قيامها باحتلال أراض عربية، ومثّل ذلك مشكلة كبيرة للاتحاد.
وتضيف أنه مع ذلك كان مستعدًا للحوار مع إسرائيل، ولكن بشرط احترام حقوق الفلسطينيين وإعادة الأراضي التي تم احتلالها.
وتتابع: "أعتقد أن هذا كان الموقف الرسمي للاتحاد السوفيتي، وكذلك وجهة نظر بريماكوف الشخصية التي كتب عنها مرارًا وتكرارًا".
مبادرة السادات للسلام
في تلك الفترة، كان الرئيس المصري الراحل أنور السادات قد طرح مبادرته الأولى للسلام، والتي تقوم على أن تنسحب إسرائيل من شرق قناة السويس، وتكون منطقة منزوعة السلاح على أن تخفّف مصر من تواجد قواتها غرب القناة، وتقوم خلال فترة ستة أشهر بافتتاح قناة السويس للملاحة البحرية.
وفي إسرائيل كان هناك ترحيب بالعرض المصري، لكن مع استبعاد مشاركة الاتحاد السوفيتي في هذه التسوية الجزئية.
وكان بريماكوف يدرك أن هذه التسوية المصرية الإسرائيلية لن يكتب لها النجاح، وأن استئناف العلاقات الدبلوماسية السوفيتية الإسرائيلية سيكون ممكنًا فقط بعد القضاء على الأسباب التي أدت إلى قرار قطعها عام 1967.
ويقول جوروخوف: "كانت إسرائيل حريصة على الحفاظ على العلاقات مع الاتحاد السوفيتي، لأنها كانت مهتمة بالمهاجرين اليهود من الاتحاد، وهذه المسألة لا يمكن حلها إلا بالتعاون بين الجهتين".
لقاء بريماكوف مع ياسر عرفات
في دمشق، وبعد خروج فصائل منظمة التحرير من الأردن إثر أحداث أيلول الأسود، التقى بريماكوف بالرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، والذي بدأ حينها في التفكير بإمكانية إنشاء دولة فلسطينية.
ويشير جوروخوف إلى أن بريماكوف كان يعتقد أنه من الضروري إيجاد حل لهذا الصراع دون تأجيل، كما حاول الحفاظ على الوضع الراهن كما هو.
ويضيف: كان الأهم بالنسبة له ضمان أمن جميع أطراف الصراع، أي أنه كان على جميع الأطراف أولًا وقبل كل شيء، ضمان مصالح روسيا في المنطقة، وثانيًا إقامة الدولة الفلسطينية، مع أنه لم يستبعد إمكانية إنشاء اتحاد كونفدرالي بين الأردن وفلسطين، وتم التعبير عن ذلك بصراحة تامة في بعض كتاباته.
ويلفت إلى أن هذه هي القرارات التي اعتقد أنها ستساهم في حل الصراع وفض النزاع الدائر في الشرق الأوسط.
حرب أكتوبر
في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، بدأت القوات المصرية والسورية بهجوم شامل ومفاجئ على قوات الاحتلال الإسرائيلي في سيناء وهضبة الجولان بهدف تحريرهما.
حينها لم يطلع أنور السادات وحافظ الأسد موسكو بساعة الصفر لبدء العمليات العسكرية ضد إسرائيل، خوفًا من أن يمنع الاتحاد السوفيتي هذا الهجوم.
بعد انتهاء حرب أكتوبر، شعر الاتحاد السوفيتي أن ثمة تحولًا في سياسة مصر تجاه تفعيل تسوية سياسية مع الاحتلال الإسرائيلي والتقرب أكثر إلى الولايات المتحدة.
وفي مثل هذه الظروف، سيبدو الدور الروسي أقل تفضيلًا لدى السادات، وخصوصًا مع استمرار جمود العلاقات بين موسكو وتل أبيب.
وكانت ذروة التحول السياسي عند السادات حين هبطت طائرته في مطار بن غوريون في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1973، في خطوة حملت في طياتها هزيمة جديدة للإجماع العربي حول تسوية شاملة للصراع العربي مع الاحتلال الإسرائيلي.
"غزو الكويت"
في مطلع الثمانينيات كان الاتحاد السوفيتي يعيش تحت وطأة مشاكل اقتصادية وسياسية داخلية عميقة، أثرت على قدرته بأن يكون لاعبًا فاعلًا في الساحة الدولية، وخصوصًا بعد تعاظم دور الولايات المتحدة في المنطقة ومرور الشرق الأوسط بأزمات عدة منها الحرب الأهلية في لبنان واحتلال إسرائيل لجنوبه.
لكن رغم تراجع دوره، بقي بريماكوف محافظًا على علاقاته مع عدد من قادة الدول العربية مثل حافظ الأسد وصدام حسين وقادة فصائل منظمة التحرير، والتي كان رئيسها ياسر عرفات يتعرّض حينها لمحاولة الإطاحة به من قبل النظام السوري.
وفي عام 1990، كان هدير الدبابات العراقية أثناء اجتياحها الكويت قد صم آذان العالم عن أي شيء آخر، تبعها إعلان صدام حسين ضم الكويت لأراضي العراق، ما أدى إلى إثارة غضب دول عديدة وعلى رأسها الولايات المتحدة، والتي طالبت العراق بالانسحاب الفوري والشامل من الكويت دون أي شروط.
في المقابل، بذل السوفييت حينها بقيادة ميخائيل غورباتشوف جهودًا كبيرة لحل الأزمة كوسيط بين الأطراف، وخصوصًا من خلال الضغط على صدام حسين للتراجع عن احتلاله للعراق تفاديًا لحرب أوسع تدخل فيها الولايات المتحدة.
وعلى إثر ذلك، قرر غورباتشوف أن ينقل الاختصاص في الأزمة من وزارة الخارجية إلى مكتبه مباشرة وإرسال مبعوث خاص يمثله لمقابلة الرئيس صدام حسين في بغداد.
وقد وقع اختياره على بريماكوف، الذي كان عضوًا احتياطيًا في المكتب السياسي الرئاسي، وصديقا مقربًا من غورباتشوف.
وأثناء عودة بريماكوف إلى موسكو، تلقى مكالمة من غورباتشوف تطالبه بالذهاب إلى لندن لمقابلة رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر.
ولم تنجح المساعي السوفيتية في إقناع صدام بالانسحاب من الكويت يوم 24 فبراير/ شباط عام 1991، حين أعلن رئيس الولايات المتحدة بدء هجوم بري لتحرير الكويت من القوات العراقية، فما كان من صدام حينها إلا أن بدأ في سحب قواته من الكويت سريعًا وقبوله قرارات مجلس الأمن الدولي.
في 25 من أغسطس عام 1991، قدم غورباتشوف استقالته من رئاسة الحزب الشيوعي، وتم إنزال علم دولة الاتحاد السوفيتي من الكرملين في موسكو ورفع بدلًا منه علم روسيا، ليعلن بذلك انتهاء الاتحاد السوفيتي وبدء مرحلة جديدة في روسيا.
وكان لبريماكوف دور كبير في هذه المرحلة حين عيّن في عام 1996، وزيرًا للخارجية الروسية، قبل أن يصبح رئيسًا للحكومة الروسية عام 1998، ليقال بعد عام واحد. ورغم ابتعاده عن المناصب السياسية، ظل بريماكوف يلعب في السنوات الأخيرة من عمره أدوارًا استشارية مهمة في سياسة بلده.
وشكلت ديبلوماسية المستشرق المخضرم بريماكوف وقدرته على وضع روسيا على خارطة العالم السياسية من جديد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، نهجًا محوريًا في سياسة روسيا الخارجية الحديثة، والتي ارتكزت في طريقة تعاملها مع قضايا العالم على أدبيات بريماكوف في علم السياسة.