ذهب أخيرًا صاحب الضوء محمد أبو الغيط إلى الضوء، كما عاش وكما وعد. كانت رحلة قصيرة لكنها ثرية وعميقة وملهمة بعدما ترك تجربة مهنية ومواقف إنسانية لاتُنسى.
محمد أبو الغيط هو مصري صعيدي من أسيوط، جاء إلى دنيانا في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 1988.
وفي مدرستة، كان الصغار يسمونه "الولد بتاع ميكي" في إشارة إلى المجلة الشهيرة التي تحملها حقيبته مع أخريات، تسعده للغاية رؤية زملائه يستعيرونها لقراءتها بين الحصص.
يكبر الولد قليلًا وتكبر قراءاته معه. يفرغ من الكتب التراثية في مكتبة أبيه وجدّه وتقوده الصدفة إلى مكتبة خاله، حيث روايات رجل المستحيل وما وراء الطبيعة، أحمد خالد توفيق. تسحره هذه العوالم ببساطتها وواقعيتها وخيالها وجديتها. من هنا يتشكل محمد أبو الغيط كما رآه العالم.
الشاب الثائر ونصير الفقراء
يذهب من أسيوط إلى القاهرة مرّات ومرّات باحثا عن الضوء، ويلتقي كتّابه المفضلين وزملاء القراءة والبحث. وصار هؤلاء جيلًا لثورة يناير بعنفوانها وآمالها ثم بانكسارها وغرباتهم.
بعد الثورة، غاب الطريق عن سالكيه. نزاعات وسجالات ولا ضوء. وجاء من أقصى المدينة محمد أبو الغيط وكتب تدوينة تحوّلت إلى مقال حمل صاحبه على أجنحة الذيوع "الفقراء أولًا يا ولاد الكلب"، كانت ثورة في مقال وصوت يناير الحقيقي وسط صخب الادعاء.
بدأ أبو الغيط في جريدة الشروق صحافيًا وغيرها كاتبًا بارزًا. مقالات وتحقيقات وبرامج تلفزيونية وأفلام وثائقية صنعها محمد أبو الغيط أو شارك فيها بجهد ودأب وثقة، وكتابة ممتعة ومعلومات موثقة وانحيازات دائمًا للفقراء والمستضعفين.
تقدير مهني وإنساني
كانت تطارده الجوائز وشهادات التقدير المهني والإنساني طوال حياته، ومنها جائزة مصطفى الحسيني لأفضل مقال صحافي عام 2013 وجائزة سمير قصير لحرية الصحافة عام 2014.
أبو الغيط انتقل من القاهرة إلى لندن وعمل في التلفزيون "العربي" في بواكير تأسيسه معدًا في البرامج ثم معدًا رئيسًا لبرنامج بتوقيت مصر وكتب في صحيفة "العربي الجديد" مقالًا أسبوعيًا.
عمل في التحقيقات والصحافة الاستقصائية مع مؤسسات عربية وعالمية وفي ظروف قاسية تحيط به من كل جانب، تمثلت في اعتقالات وملاحقات أمنية طالت أهله وأصدقاءه وأقرب الناس إليه.
واصل أبو الغيط العمل والناجاحات وحصد الجوائز، حيث نال جائزة فيتيسوف عن تحقيقه المتلفز "المستخدم الأخير". ونال جائزة ريكاردو أورتيغا للصحافة المرئية والمسموعة المرتبطة بالأمم المتحدة وجائزة محمد حسنين هيكل للصحافة العربية.
قاوم الألم بالقلم
وفي العام 2021، هاجمه مرض السرطان حيث أجرى جراحة لاستئصال المعدة في محاولة باسلة للنجاة. لكن المرض الخبيث تجاوز المعدة إلى الجسد كله فجرب أبو الغيط علاجات مختلفة من دون جدوى.
رفض أبو الغيط أن يتحول المرض إلى حاجز عن مواصلة البحث والنضال فحوّل مرضه إلى مادة للمقاومة والتعلم. واصل كتابة مقالاته في "العربي الجديد" حتى أسابيع حياته الأخيره وكتب لقرائه على صفحته الشخصية على "فيسبوك" مقالات مطولة عميقة تمثّل خلاصات تجربته الشخصية والمهنية.
وقبل يومين أعلن صدور كتابه "أنا قادم أيها الضوء" الذي تمنى توقيعه في معرض القاهرة للكتاب.
وفي فجر 5 ديسمبر/ كانون الأول، أعلنت إسراء شهاب، زوجته ورفيقة دربه وأم ابنه الوحيد يحيى، رحيل محمد أبو الغيط في عمر الـ34 تاركًا لزملائه وأصدقائه ومحبيه وأبناء جيله كثيرًا من الضوء المنثور في ما كتب وفعل وفي أثره الإنساني الباقي.
أبو الغيط الكاتب بلسان من عايشوه
وحول تجربة أبو الغيط الكاتب، يلفت الكاتب الصحفي أحمد سمير أن انحياز أبو الغيط للأضعف دومًا للمساجين والفقراء والأقليات الدينية وما يتعرضون له جعله يحظى بالتقدير الواسع.
وقال في حديث إلى "العربي" من القاهرة: "كان يقوم بدوره الصحفي بشكل مهني وأخلاقي". وأشار إلى أن أبو الغيط يكتب بشكل جميل وإنساني قريب من الناس أتاح وصوله لملايين الناس.
ويعتبر سمير أن الارتباط بين القراء وأبو الغيط هو ارتباط بالكتابة لكنه كان وثيقًا. وأضاف: "هو لم يعبر عن نفسه بل عن جيل بأكمله"، حيث استمر في العمل في شهور مرضه الأخيره.
من جهته، تحدّث رئيس قسم الرأي في صحيفة "العربي الجديد" معن البياري عن أبو الغيط "الواعد والطموح والمحتهد والمجد للحق".
ويروي في حديثه إلى "العربي" من لوسيل تفاصيل المكالمة الهاتفية الأولى التي جمعته بأبو الغيط عام 2014 والتي وقع خلالها سوء تفاهم. ويقول: "تكلمنا بعد أيام ونحن أصدقاء منذ ذلك اليوم".
ويصف البياري تجربة أبو الغيط مع "العربي الجديد" حيث كان يكتب زاوية أسبوعية، قائلًا: "لقد أبدع إبداعًا كبيرًا جدًا وأضافت زاويته مذاقًا جيدًا لزوايا الرأي في الصحيفة. وأضاف: "كان لديه حس صحفي كبير"، مشيرًا إلى تنوع المادة التي كان يقدمها.
ومن جهتها، تصف المحررة العربية العالمية للصحافة الاستقصائية مجدولين حسن تجربتها بالعمل مع أبو الغيط، الذي كان متحدثًا رئيسيًا في أحد مؤتمرات الشبكة حيث تحدث فيه عن تحقيقه "المستخدم الأخير".
وقالت في حديث إلى "العربي" من عمان: "هو ليس صحفيًا لامعًا فقط بل إنسان خلوق وذكي جدًا وملم".
وتلفت إلى توطد العلاقة معه حيث كان حريصًا على متابعة كل ما هو جديد في مجال الصحافة الاستقصائية، حتى في ظل صراعه مع المرض. وتضيف: "كان حريصًا على المنفعة وعلى أن يبث الأمل فينا".
أمّا عضو مجلس نقابة الصحفيين المصريين محمد سعد عبد الحفيظ فيتحدث عن انتقال محمد أبو الغيط من مهنة الطب إلى الكتابة والصحافة في عام 2011. وقال في حديث إلى "العربي": "كنت أنصحه أن يعود إلى مهنته وكانت هذه النصيحة محملة بخبرة بأن مهنة الصحافة مهنة صعبة ومردودها ليس سريعًا والتحقق فيها لا يرتبط بالاجتهاد والمتابعة بل بعدة عوامل أخرى ولا سيما في الدول التي تشبه بلادنا".
وقال عبد الحفيظ: "محمد لم يكن متملقًا أو ساعيًا إلى السلطة بل كان مستقيمًا حريصًا على كلمته، وقد أصرّ على أن يستمر برحلته في العمل الصحفي و الكتابة التي أحبها وقد أحب التحقيق الصحفي وأجاده. كما أسهم في جريدة الشروق بتحقيقات ثقيلة، ثم انتقل إلى خانة كاتب الرأي التي لمع بها.