في عام 2007، أُغلق قطاع غزة بإحكام وتحوّل إلى ما يشبه "معسكر اعتقال جماعي". جاء ذلك ضمن سياسة إسرائيلية هدفت إلى جعل القطاع بيئة طاردة للفلسطينيين؛ تُضعف من خلالها الزيادة الديمغرافية في عموم بلدهم المحتل.
وتعود بدايات هذا الحصار إلى عام 2005، حينما قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرئيل شارون الخروج من قطاع غزة مع فرض سياسة الحصار والتجويع. حينها، منع فتح مطار غزة الدولي، كما منع الصيادين من الوصول إلى مسافة 15 ميلًا، وحافظ على السيطرة على الحدود والمعابر.
وعُدت بداية سياسة التجويع والانتقام تعبيرًا حقيقيًا عما نُسب إلى دوف وايسغلاس -مدير مكتب شارون عام 2005- أثناء الانسحاب من القطاع، من حيث القول: إنّ "الفلسطينيين سيظلون ملتزمين بحمية غذائية، ولكن من دون دفعهم للموت جوعًا".
وراحت سياسة الحصار تشتد مع فوز حركة "حماس" في الانتخابات التشريعية، وما لحقه من انقسام واقتتال فلسطيني عام 2007 بين حركتَي فتح وحماس. فانتقلت سياسة التجويع إلى أقصى درجاتها، حيث أُغلقت كل المنافذ والمعابر وتحوّل القطاع إلى ما يشبه معسكر للاعتقال الجماعي.
بعد عقد ونصف، أودى الحصار على قطاع غزة بحتمية انهيار النسيج الاقتصادي فيه وانعدام توفير الاحتياجات الأساسية لسكانه.
وتبحث هذه الحلقة من برنامج "عين المكان" في تفاصيل السياسة الإسرائيلية المتبعة، لا سيّما في قطاع غزة وانعكاساتها على الشباب في القطاع المحاصر.
الفقر في قطاع غزة
يفيد بيان للجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء، بأن نحو 56.6% من السكان في قطاع غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، فيما يعيش نحو 80% من السكان تحت خط الفقر.
وتوضح أستاذة الديمغرافيا والدراسات السكانية حلا نوفل لـ"العربي"، نقلًا عن جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني أن نحو 66% من السكان في قطاع غزة هم من المهجرين من أراضي عام 1948، متحدثة عن الزيادة السكانية الكثيفة في القطاع، والتي يترتب عليها "نتائج" كثيرة.
وتقول: "نحن اليوم نتحدث عن حوالي مليوني نسمة في غزة، أي زيادة سكانية مستمرة وفقًا لمعدلات نمو مرتفعة". وبينما تشير إلى الحاجة إلى تأمين ما هو ضروري من حاجات تعليمية وصحية، تلفت إلى صعوبة الأمر نتيجة الحصار.
بدوره، يذكّر نائب رئيس مركز الميزان لحقوق الإنسان سمير زقوت، بتصريحات لمسؤولين عسكريين إسرائيليين قالوا إنّهم سيعيدون قطاع غزة عشرات السنوات إلى الوراء، وهم بحسب رأيه "نجحوا في ذلك".
ويؤكد أنّ "إسرائيل عملت على استكمال ما بدأته بالجرافة والطائرة والصواريخ في قطاع غزة عن طريق الحصار".
إلى ذلك، يلفت زقوت إلى أن حوالي 50% ممن هم في سن العمل وقادرون على العمل في غزة هم عاطلون عن العمل، متحدثًا عن انتشار الفقر بشكل مخيف وغير مسبوق.
ويشرح أن الأمر ليس فقط على مستوى زيادة عدد الفقراء، بل في نوعية الفقر نفسه، مذكرًا بأن الأخير لم يكن يومًا يعني الجوع في غزة، في حين أصبح الحديث اليوم عن الفقر يصل إلى حد الجوع.
ويقول زقوت: "إن إسرائيل تضع الفلسطيني في هذا الظرف لكي يُصاب باليأس من إمكانية أن يتحرّر ويحظى بدولة، ولكي تجعل بقاءه في هذه الأرض لا يعدو كونه معاناة مستمرة، وأن الخلاص يكون بالتالي إما بمغادرة هذا المكان أو بمغادرة الحياة".
كفاءات ومواهب إلى خارج القطاع
رغم الأزمات التي يشهدها قطاع غزة، إلا أن المنظومة التعليمية الجامعية فيه تخرج سنويًا ما يُقدر بـ100 ألف خريج، لا يجد 80 ألفًا منهم فرصة عمل واحدة.
وتُعد عائلة أبو صفية أحد الأمثلة على العائلات الغزية، التي هاجر ثلاثة من أبنائها إلى خارج القطاع، وينتظر من تبقى منهم على مقاعد الدراسة فرصتهم للحاق بركب المهاجرين.
تقول رضا أبو صفية، وهي من سكان قطاع غزة: إن الاستعمار دائمًا ما يحارب الكفاءات لتصبح خارج الوطن.
وتمر على الظروف السيئة وشح فرص العمل، وهو الأمر الذي دفع أبناءها إلى الهجرة، بالرغم من رغبتهم في إثبات ذاتهم في الوطن.
وتعدد أماكن توزع فلذات أكبادها في المهجر، فتقول إن البكر في بريطانيا والثاني في ألمانيا أما ابنتها ففي بلجيكا.
وتستطرد بأن ابنها البكر الذي درس الصحافة والإعلام في بريطانيا عاد عقب تخرجه إلى غزة، لكن الواقع الذي اصطدم به دفعه إلى الهجرة.
وتشرح أن ابنها الذي درس الطب في موسكو عاد بدوره إلى غزة، وعمل لمدة عام واحد في القطاع، لكن أمام ضعف الرواتب قال لوالديه: "بعدما صرفتم عليّ خلال سنوات دراستي السبع، هل أعود الآن لتصرفوا علي مرة أخرى؟".
بدوره، يتحدث حمزة شعلان، من سكان قطاع غزة، عن تجربته مع الهجرة بعدما غادر إلى ماليزيا لممارسة رياضة "الباركور"، ثم أجبرته ظروفه العائلية على العودة للعناية بوالديه.
يشير إلى أنه صُدم بالواقع مجددًا فور عودته، متحدثًا في هذا الصدد عن تأثير الحرب عليه.
وبينما يلفت إلى صعوبة ممارسة رياضة الباركور في القطاع على غرار ممارسته لها في الخارج، يوضح أنه يعمل الآن "أونلاين" بسبب شح فرص العمل محليًا.
لكنه يمر على الصعوبات التي يواجهها في عمله؛ ومن بينها انقطاع التيار الكهربائي الذي يزيد أحيانًا عن 12 ساعة ويصعب عليه إنجاز مهامه. وفيما يكشف أنه يفكر بالسفر، يقول إن ظروفه الحالية تمنعه من ذلك.
ماذا عن أرقام المهاجرين من غزة؟
دفع الحصار المشدد والتجويع للغزيين بمعظم الشباب الفلسطيني للبحث عن لقمة العيش. وتتحدث عشرات التقارير الصحافية وأوراق العمل عن وجود ظاهرة هجرة في القطاع، وسط بيانات متباينة في تقديرات أرقام المهاجرين.
هذا الأمر دفع "العربي" للبحث أكثر في أعداد المهاجرين. وفي هذا الصدد، تواصل فريق "عين المكان" مع مسؤولين في هيئة المعابر الفلسطينية للحصول على أرقام، لكن تمت مواجهته بالرفض.
فحمل السؤال إلى الجهات الرسمية في القطاع لبيان أسباب صعوبة الحصول على معلومات فيما يتعلق بالهجرة لأبناء غزة.
وفي هذا الصدد، لفت رئيس المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة سلامة معروف، إلى أن "كل من خرج من قطاع غزة خرج بطريقة رسمية عبر معبر رفح أو حاجز بيت حانون إيريز"، لافتًا إلى أن "مسألة الوجهة أو الهدف من هذا الخروج هي ما يصعب تحديده".
وفي سعي فريق "عين المكان" للحصول على معلومات دقيقة حول أعداد المهاجرين من القطاع، ولعدم تجاوب الجهات الرسمية الفلسطينية مع طلبه، قرر التواصل مع مسؤولين في التنسيق المدني الإسرائيلي للحصول على معلومات عن أية أرقام لديهم، لكن كان ردهم عدم امتلاك أي معلومات.
ومع تكثيف المحاولات، استطاع الوصول لمصدر خاص كشف لـ"العربي" معلومات عن أعداد المهاجرين من قطاع غزة.
وبيّن المصدر أن المهاجرين من قطاع غزة يُقسمون إلى قسمين، قسم يسافر عبر التنسيقات المصرية والقسم الآخر هم المغادرون بحسب نظام وزارة الداخلية.
وبتحليل الأرقام الصادرة عن وزارة الداخلية، من عدم عودة 56 شخصًا فقط عام 2007، ليرتفع الرقم إلى 9634 عام 2019، ليصل المجموع الإجمالي من عام 2007 وحتى نهاية عام 2021 إلى 68832 شخصًا قد غادروا القطاع ولم يعودوا إليه.
وبشأن المغادرين عبر التنسيقات الخاصة من شركات السفر وتنسيق المخابرات المصرية، والتي لا تدخل ضمن بيانات وزارة الداخلية الفلسطينية، وجد فريق "عين المكان" أن حالات السفر من يونيو/ حزيران 2013 وحتى أبريل/ نيسان 2022 بلغت 388526 مسافرًا، وهم غير مدرجين على موقع مكتب الأمم المتحدة الذي يرصد حركة السفر من القطاع بشكل منتظم.
إلى ذلك، بلغت من مجمل المغادرين عبر التنسيقات نسبة مغادري القطاع بلا عودة بين 30 و35%، مما يعني أن مجموع عدد المهاجرين من القطاع هو بين 116 ألف إلى 135 ألف شخص خلال هذه المدة.
ومع إضافة مجموع المهاجرين حسب نظام وزارة الداخلية، وهو 68832 يتم التوصل إلى أن المجموع الكلي المتوقع للمهاجرين من قطاع غزة عبر معبر رفح خلال 15 عامًا، هو ما بين 185 ألفًا و205 آلاف، أي ما يقارب 10% من سكان قطاع غزة.
نفي رسمي لضخامة الأعداد
تنفي الجهات الرسمية ضخامة هذه الأعداد حول عدد المهاجرين من قطاع غزة. ويعزو رئيس المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة سلامة معروف، اعتبار الأرقام عند الحديث عن خروج الشباب من قطاع غزة تحت عنوان "الهجرة" مبالغًا فيها إلى سببين.
يقول بالحديث عن السبب الأول: "إننا لا نستطيع البت فيما يتعلق بالأعداد التي خرجت فعلًا لعملية الهجرة؛ فهناك طلبة ومن خرج لعمل أو لتحويلات طبية وأسباب أخرى".
وبالحديث عن السبب الثاني، يستبعد أن تكون أي جهة فلسطينية كان لها تواصل مع الدول التي استقبلت مهاجرين يتواجدون في المعسكرات الخاصة باللجوء، أو حصلت على إحصائيات توفرها مؤسسات دولية تعمل على تنظيم عملية الهجرة.
وفي هذا الصدد، تشير أستاذة الديمغرافيا والدراسات السكانية حلا نوفل، إلى أن ظاهرة الهجرة هي من أكثر الظواهر صعوبة من حيث الوصول إلى معطيات، لا سيما في غزة، في ظل الحصار والسياسات التي يتبعها المحتل.
وتضيف: "من الجائز وجود غض نظر عمّا يسمى بالهجرة غير الشرعية، ومحاولة الخروج من غزة عبر مصر أو تركيا للوصول إلى دول أوروبية، لكن هذه حالات لا يمكن الاعتماد عليها، حيث نحتاج إلى معطيات للحديث عن وجود هجرة ذات دلالة من غزة".
شباب مجهولو المصير
أضحى كثير من شباب غزة مجهولي المصير بعدما لجأوا إلى الأنفاق أو عبر البحر أو مروا في الأساس بشكل رسمي عبر معبر رفح بحجة العلاج أو التعليم أو السياحة، ثم حاولوا الوصول إلى وجهاتهم النهائية عبر المهربين.
عبدالرحيم أمين، الذي كان قد توجه برفقة زمرته من المغامرين إلى اليونان برًا عبر الحدود التركية، تحدث لـ"العربي" عن الرحلة الشاقة بما شهدته من اجتياز لمسافات طويلة سيرًا على الأقدام، فضلًا عن ظروف عبور مجرى أحد الأنهار. لكنه يروي كيف وصلت الشرطة اليونانية إليهم بعد كل ما بذلوه من تعب.
ما الذي يقوله الشاعر الفلسطيني سامح المدهون بدوره عن أسباب سعيه للبحث عن حياة بديلة خارج قطاع غزة؟
الإجابة ومعلومات أخرى عن الهجرة من القطاع وأثرها في المعادلة الديمغرافية، التي تُفرض على غزة والوجود الفلسطيني ككل، في الحلقة المرفقة من برنامج "عين المكان".