طمحت إسرائيل عقب نكبة عام 1948، إلى استبدال شعب بآخر عبر تغيير ديمغرافي مبني على مبادئ الاستعمار والاحتلال.
ورغم كل الجرائم الصهيونية، بقي 160 ألف عربي في فلسطين بعد النكبة، ما دفع الرئيس الثاني لإسرائيل إسحق بن تسيجي للقول: "ثمة عرب أكثر مما يجب هنا".
ويقول مهندسو وثائق سرية لاجتماعات لجنة البيرور الإسرائيلية: "سنطرد العرب عند أول حرب مقبلة، وإن فرضت علينا عودتهم يومًا لن نترك لهم ما يمكن أن يعودوا إليه".
وكانت البداية من القدس، عندما سرق الصهاينة كل ما يمكن أن يوضع في كيس أو يُحمل في يد، لإلغاء تاريخ شعب بأكمله.
في هذا السياق، يوضح المحاضر والباحث الفلسطيني أحمد سعدي أنه كان باحثًا في جامعة تل أبيب، وذهب إلى رئيس الأرشيف وطلب الاطلاع على هذه الوثائق المتعلقة بالقرى الفلسطينية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
ويقول سعدي في حديث إلى "العربي": "كان في كل مرة يغرقني بالوثائق الدعائية، فذهبت إلى الأرشيف في أحد الأيام، وطلبت من إحدى الموظفات إزاحة بعض الصناديق التي تحتوي على وثائق اجتماعات لجنة "البيرور" الإسرائيلية، وصوّرتها رغم وجود عبارة "سري للغاية" على بعضها".
تهميش العرب وعزلهم بانتظار "طردهم"
كان موشيه شاريت ثاني رئيس وزراء لإسرائيل، ووزيرًا للخارجية خلال فترة النكبة. هو أوكراني من خيرسون ويتكلّم العربية بطلاقة.
لم يحصل شاريت على لقبه "المخادع" من فراغ، فقد استطاع الإمساك بعصا مصالح إسرائيل من المنتصف.
فمن ناحية، كان يجاهد لحفظ ماء وجه الدولة الوليدة أمام المجتمع الدولي، ومن جهة أخرى، فعل المستحيل لإرضاء الصقور فيها، الذين دكّوا مدماك دولة اليهود الأولى، ومنحوها عباءتها الأيديولوجية.
ومنذ عام 1949 ولمدة ثلاث سنوات، هندس موشيه شاريت برئاسته سلسلة اجتماعات البيرور أو "التوضيح" في حزب ماباي الذي سيتحوّل لاحقًا لحزب العمل الحاكم.
وتنقل الوثائق السرية التي كشفت جلسات هذه اللجنة عن مرحلة جديدة في التفكير الإسرائيلي تجاه ما تسميه "الأزمات العربية" والتي تنصّ على إسناد حكم العرب إلى الجيش باعتبارهم مصدر خطر دائم.
لكن أبرز ما أتت به لجنة "البيرور" هو القواعد العامة التي رسمت السياسة الإسرائيلية لعقود تالية تجاه الفلسطينيين، والتي تضمّنت تهجير من بقي من الفلسطينيين عند أول اضطراب أو حرب ممكنة.
وتضمّنت كذلك تهميش العرب وعزلهم عن الأغلبية اليهودية التي تعيش بسلام ورخاء، وبالتالي إلغاء هويتهم الوطنية، وجعل بقائهم هشًا ومؤقتًا مهما طال، وذلك عبر سلاح تصاريح التنقل.
الحكم العسكري والتبعية الاقتصادية
ويتحدث سعدي في كتابه "الرقابة الشاملة" مطولًا عن هذه اللجنة، حيث يلفت إلى أن فكرة التهجير بقيت الفكرة الرئيسية حتى سنوات الستينات. ويقول: "بغياب إمكانية التهجير، بدأت تتبلور ملامح لاستراتيجيات للتعامل مع هؤلاء السكان، وربطهم بالدولة ومحو أيّ إمكانية للفلسطينيين لبناء مجتمع قادر على الحياة بدون مساعدة الدولة".
ويلفت إلى أنّ السياسات الإسرائيلية كانت تريد دولة يهودية، كما بريطانيا هي إنكليزية، وكان الهدف هو طرد الفلسطينيين، ولكن ما حدث نتيجة ظروف الحرب، أنّ أقلية فلسطينية بقيت في إسرائيل، فكان السؤال: كيف نتعامل مع هذه الأقلية حتى المعركة المقبلة حين سيتمّ طردهم؟".
ويشير إلى أنّ الحكم العسكري انتهى في الكيان حديث الولادة عام 1953، وكان أداة لتطبيق السياسات الإسرائيلية، وله عدة وظائف منها مصادرة الأراضي وعدم إتاحة المجال للفلسطينيين لدخول سوق العمل وترك الوظائف لليهود الذين تم جلبهم من الدول العربية.
وبحسب سعدي، كانت التبعية الاقتصادية سلاحًا إسرائيليًا، فمن يريد اتباع سياسات الاحتلال من الفلسطينيين يحصل على مزايا اقتصادية ومن لا يريد يُحرم منها.
خطة التعامل مع الأقلية الفلسطينية
بعد عشرة أعوام من تأسيس الدولة، شُكلت لجنة من أعضاء رئيسيين في أجهزة الرقابة والضبط من أجل دراسة إستراتيجية الدولة وأهدافها تجاه من بقي من أقلية عربية فلسطينية وتقديم خطة شاملة للتعامل معهم.
وكانت الخطة جاهزة مطلع عام 1958، وقامت على فرضيات ثلاث، الأولى هي أن التهجير غير ممكن في الأوضاع العادية، لكن لا يجوز إسقاطه من الحساب في ظل بعض الشروط كقيام الحرب مثلاً.
أمّا الفرضية الثانية فتجزم بأن دمج الفلسطينيين كمواطنين متساوين أمر غير ممكن، ولا يجوز الركون إلّا إلى تعاون جزئي من جانبهم، في حين تفضي الفرضية الثالثة إلى إعطاء الأولوية إلى الاعتبارات الأمنية دائمًا.
ويلفت سعدي إلى عدّة سياسات اعتمدتها إسرائيل إزاء الفلسطينيين، منها "الطرد الناعم"، وتشجيعهم على الهجرة بوسائل مختلفة، ولكن أيضًا بأساليب حديثة.
ويتحدّث في هذا السياق، عن استنتاج توصلوا إليه بأنّ تعليم النساء يؤدي إلى انخفاض نسبة الولادة، فلذلك ظهرت سياسات لتعزيز مكانة المرأة، كان الهدف منها خفض الولادات، كجزء من خطة لمحاصرة الفلسطينيين.
ويكشف أنّ تعليم النساء لم يترجم خلال هذه السنوات، إلى مكاسب اقتصادية، لأنّ غالبية النساء اللواتي تعلمن في تلك الفترة، لم يدخلن إلى سوق العمل.
"بلقنة" فلسطين والعزل المكاني
ولم تتوقف هذه الخطة عند مسألة الضغط والتضييق على الفلسطينيين فقط، حيث يتحدّث سعدي في دراسته عن آلية تجزئة الفلسطينيين عبر العزل المكاني، وأيضًا ما يُعرَف بـ"بلقنة" فلسطين.
ويشرح أنّ إسرائيل ترجمت ذلك من خلال خلق هويات جديدة للفلسطينيين ووضع أسافين بين الأقليات المختلفة من الناحيتين الاجتماعية والجغرافية عبر عدم معاملتهم كمجموعة قومية واحدة.
ويوضح أنّها تعاملت مع العرب كعدة أقليات هي المسيحيين والمسلمين والدروز، وجرى تقسيمهم بحسب الانتماءات الملية، ووضع هرمية لهذه المجموعات، حيث جاء دروز في أعلى هذه الهرمية كونهم كانوا مرتبطين من خلال التجنيد العسكري.
ويلفت سعدي إلى أنه جرت محاولة لتجنيد المسيحيين لكنها فشلت بسبب المقاومة التي أبدوها، في حين نُظِر للمسلمين بوصفهم "الأعداء"، ووُضِعوا بأسفل الهرم.
"سياسة التهجير الهادئ"
كانت "سياسة التهجير الهادئ" عنوان المرحلة التالية للنكبة. وصار المتطرفون اليهود الذين قادوا المجازر وعمليات التطهير العرقي بحق الفلسطينيين بذريعة الحرب دبلوماسيين وساسة وقادة، فارتدوا بدلات أنيقة وتمت دعوتهم إلى دوائر الدبلوماسية كممثلين لدولتهم الجديدة.
وصاروا أكثر التفاتًا للرأي العام الدولي بعد أن أدركوا قواعد اللعبة "قل علنًا شيئًا وافعل في الخفاء ما تشاء".
ولذلك لجأوا في الأعوام التالية إلى مخططات تهجير أقل صخبًا وأكثر سرية، بعضها نجح وكثير منها لم يُكتب له النجاح.
وكان منها العملية الليبية التي كانت تنص على شراء 100 ألف دنم في منطقة الرأس الأخضر في ليبيا من أجل توطين العرب فيها. وقد سُرّبت هذه الخطة إلى الإعلام وطويت جانبًا بسرعة.
عملية "يوحنان"
كما فشلت خطة أخرى وعرفت بعملية "يوحنان" التي قادها يوسف فايتس والتي كانت تستهدف نقل العرب إلى الأرجنتين والبرازيل وهي استمرار لنشاط لجنته الأخيرة، لجنة الترانسفير.
وأودعت وثائق هذه العملية بسرية بالغة في عهدة رئيس الحكومة ووزير خارجيته عام 1952، وذلك خوفًا من غضب الكنيسة الأوروبية إن اكتشفت أن الفلسطينيين المهجرين هم من المسيحيين.
ويذكر فايتس في الوثيقة أن الأرجنتين أبدت اهتمامًا بهجرة المزارعين إليها وأن تمويل العملية سيتم عبر شركة خاصة تعود لأشخاص غير يهود، ليتمّ الإعلان عن الخطة بوصفها مبادرة عربية شبيهة بهجرة الموارنة من لبنان، مع الحفاظ على سريتها ونفي أيّ علاقة للحكومة الإسرائيلية بها.
وبحسب سعدي، فإن تكوّن الوعي لدى الفلسطينيين لأبعاد المخططات الصهيونية وأهدافها بعيدة المدى حال دون نجاح هذه الخطة، حيث كان الرأي الذي توافق عليه وجهاء العائلات أنّه "ربما تكون الحياة في البرازيل والأرجنتين جميلة، لكن لا يوجد أجمل من بلادنا".
ويلفت إلى أنّ "يوحنان" هي واحدة من عدّة خطط قامت على أساس "الترنسفير الناعم" بعدما اقتنع الفكر الإسرائيلي بصعوبة طرد جماعي للفلسطينيين من دون حرب، ملمّحًا إلى إمكانية وجود خطط لم يطّلع عليها الباحثون، لأنّها لم تصل إلى حيّز الصقل، أو لأنّ المؤرخين لم يعثروا عليها بعد.