روّجت الصهيونية طويلًا لادعاء أن العرب في حرب النكبة فرّوا من بيوتهم وأراضيهم وبلداتهم العامرة دون أدنى مقاومة، ويعيد ويكرر ساستهم أن العرب لم يرفعوا في وجههم سلاحًا، وأنهم تركوا الأرض كلها لهم فدخلوها دون قتال.
لكن وثائق يوميات حامية يافا تعيد ترتيب أحداث التاريخ، حيث تحكي عن مقاومة المحاربين الشرسة خلال حرب النكبة؛ التكتيكات والمدافع والقناصة والكمائن، والأحداث التي لن يتم العثور على صدى كثير لها في وثائق الصهاينة وأدبياتهم.
وثائق منهوبة في الأرشيف الصهيوني
في تلك الأيام، تقلّبت موازين القوى كثيرًا ومعها صروف الدهر على عروس البحر وأهلها. ومن يافا تبدأ الحكاية.
ففي العام 2016، قررت إحدى الأرشيفات الصهيونية المركزية إتاحة مواد رقمية، كان من أبرزها تلك التي نهبت خلال الحرب، وفق ما يقول الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بلال شلش.
وشلش يضيف أن من المواد المنهوبة ما يتعلق بالهيئات العربية العليا، وكانت قد نُهبت من القدس. وأنه خلال تصفحها وقع على ملف متعلق بحامية يافا، ليقود الملف بعد ذلك إلى ملفات، ثم إلى سلسلة متتالية من الملفات.
ويردف بأن هذه الأخيرة تبرز، عبر ما يقارب 3000 وثيقة، صوت مقاتل فلسطيني ظل مغيبًا لسنوات طويلة.
ويتوقع الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وجود ملفات أخرى مخفاة في الأرشيف الإسرائيلي حول مناطق أخرى غير يافا.
وكانت حرب النكبة انطلقت نهاية عام 1947. وشملت نقاط المواجهة والاشتباك فيها قطاعات واسعة من فلسطين تركزت غالبيتها وسط البلاد، بالإضافة إلى عمليات التهجير في صفد وطبريا وصولًا إلى حيفا ويافا وحتى غرب القدس.
وبينما لا تشكل التفاصيل السابقة خطًا زمنيًا ناظمًا، إلا أنها تعطي إشارة عن صعوبة المعارك في حرب النكبة، على نقيض السردية الإسرائيلية السائدة حول تهجير حصل سريعًا ودون مقاومة.
فقد تمكنت المقاومة الفاعلة على مدار أشهر الحرب من تحقيق إنجازات كثيرة، وتقدمت عسكريًا في عدد من المناطق.
ومدينة يافا شهدت قتالًا طويلًا منذ الشهر الأخير من عام 1947، وحتى انسحاب مقاتلي حاميتها في شهر مايو/ أيار من عام 1948.
وتظهر معاركها ومعارك المناطق الأخرى مقاومة أهل البلاد والعون العربي أيضًا، الذي شكل إضافة نتج عنها حفظ ما تبقى من فلسطين آنذاك.
ومع اقتراب الخطر الصهيوني المتوقع في ظل الحديث عن جلاء بريطانيا عن البلاد، قررت الهيئة العربية العليا تأليف لجان قومية تدير شؤون المدن الفلسطينية.
فقد كانت سنوات الحرب العالمية الثانية سنوات قمع في فلسطين، لا سيما وأنها تزامنت مع ثورة البلاد الكبرى.
وفي الوقت الذي كانت فيه الثورة فرصة لإعداد الكوادر العسكرية، ساهم العنف الذي رافقها في نفي وقتل مئات الكوادر النضالية.
لكن ذلك لم يلغ مساعي تأسيس تنظيمات مقاومة سرية في يافا، كانت بمثابة الجهود الأولى لظهور تشكيلات عُرفت باسم الجهاد المقدس أو جيش حماة الأقصى، وانتشرت لاحقًا في عموم فلسطين.
كانت قوات الهاغاناه الصهيونية بدأت بالفعل عمليات تهجير السكان، وتصاعدت بالمحصلة الاعتداءات على سكان يافا.
كما كانت القوات البريطانية تتدخل في كل مرة لصالح الصهاينة، الذين تم تدريبهم خلال سنوات الحرب العالمية الثانية على الاستعداد للحظة الحرب هذه.
السكين في خاصرة الحركة الصهيونية
الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بلال شلش، كان عمل بعد الوقوع على المواد التي عرف عبر التصفح الأولي لها أن فهرستها لم تكن سليمة ما منع المؤرشف الصهيوني من معرفة محتوياتها، على تتبع الوثائق المختلفة ومحاولة استخراج ما توفر منها.
وتم التمكن من الحصول على معظم الوثائق التي توثّق سجلات الحملة من فبراير/ شباط إلى أبريل/ نيسان 1948، والعمل على تحليل المادة الأولية ومقارنتها بمادة صهيونية للخروج بالنص الذي كتبه.
ويتوقف عند وثيقة قام بدراستها ويعود تاريخها إلى 10 فبراير 1948، وتتحدث عن شراء الصهاينة للأسلحة، حيث يؤكد أنهم قاموا بتحضيرات مسبقة لا سيما خلال الفترة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية.
وبينما يقول: إن ديفيد بن غوريون بدأ هذا المسار بالتحضير لحرب مقبلة على مستويات كبرى، يشير إلى تحضيرات عربية كانت تجري بالتوازي، ويمكن أن تظهر في وثيقة أخرى لبن غوريون يتحدث فيها مطلع فبراير 1948 عن رغبة سورية في شراء أسلحة تشيكوسلوفاكية.
ويعتبر أن ما توفر من وثائق، سواء أكانت تلك التي تتحدث عن نشاط الجهاد المقدس أم نشاط اللجنة العسكرية العربية خلال الأيام والأسابيع الأولى للحرب، يبرز مسارًا طويلًا من الإعداد والاستعداد وجمع السلاح لإدخاله إلى فلسطين.
وإذ تسلط تلك الوثائق أيضًا الضوء على حجم الهجوم الذي تعرّضت له يافا من مختلف المنظمات الصهيونية، يتطرق شلش إلى أهمية يافا بالنسبة لتلك المنظمات.
فيقول: إن المدينة ذات مكانة رمزية، مذكرًا بأن "تل أبيب، رمز المشروع الاستعماري الصهيوني، هي المدينة التي بُنيت على أرض يافا، ومن ثم توسعت على حساب جوار يافا وحاصرتها".
ويبيّن أن "الرمزية الأخرى للمدينة ترتبط بخشية جزء أساسي من الحركة الصهيونية من أن تتحول يافا إلى سكين في خاصرة الحركة ومشروعها".
ويلفت إلى أن عدد المقاتلين الصهاينة الذين حُشدوا لحصار مدينة يافا وجوارها، وعددهم نحو 5000 مقاتل تقريبًا من أصل 23000 كانوا مجندين لكل معارك الحركة الصهيونية في المناطق المختلفة، يُعد مؤشرًا على إدراك هذه الحركة لخطورة يافا وقيمتها وأهميتها.
تعبئة واشتباكات وعمليات قنص
في الأيام الأولى من شهر يناير/ كانون الثاني من عام 1948، بدأت اللجنة القومية العربية مشروع التعبئة. وبدأت معها ملامح الجبهات الرئيسة في يافا بالتشكل مع أول أيام الإضراب.
فقد بدأ أهالي الأحياء والمجموعات الأولى من المدافعين إنشاء استحكامات في المناطق الحدودية. ومن خلف تلك الاستحكامات كانت تتم معظم المواجهات بين المقاتلين العرب والصهاينة.
وبسرعة تحوّلت حامية يافا في تلك المرحلة إلى قوة عسكرية منظمة، ذات هيكل قيادي وقدرات قتال نوعية.
وتنوعت مظاهر المواجهة بين العرب والصهاينة من اشتباكات مسلحة متقطعة كانت تحدث بشكل شبه يومي إلى عمليات القنص، التي كانت الحدث الأبرز خلال أسابيع المعارك الأولى.
ويتحدث عن هذا الأمر أحد محاضر اجتماع قيادات الهاغاناه في تل أبيب، الذي شكا من مهارة القناصة العرب وتأثير عملياتهم في شوارع تل أبيب وأحياء يافا.
وآنذاك، لم تفلح هجمات المنظمات الصهيونية في تحقيق أي تقدم على الأرض خلال الشهور الأولى، رغم عنف عملياتها.
كما كان لدخول العرب على خط المقاومة العربية القائمة بالفعل في فلسطين دور كبير في عدد من الجبهات.
ومع مرور الوقت، تعزز دور اللجنة العربية العسكرية وأحدث نقلة في تعزيز تنظيم حامية يافا على صعيدَي التسليح والتدريب.
ويعرض شلش لتقرير ظهر في وثائق منظمة "إيتسل" يتحدث عن نتائج عمليات القنص في مدينة يافا، ويعكس رسمه البياني مجرياتها وتصاعدها وآثارها. ويقول إن وثائق الحامية اليومية تبرز وتسجل عمليات القنص؛ من نفذها وكيف وأين.
وشلش الذي يرى أن حامية يافا كانت تسعى لتعزيز تسليحها، يقول إن هذا الأمر يعني، في ظل عدم توفر مصادر خارجية والوجود البريطاني في فلسطين، الاعتماد على الذات ومحاولة الاستفادة من الخبرات المحلية في التصنيع، بالإضافة إلى خبرات بعض المتطوعين".
ويضيف أن مدفع يافا، بنسخه المتعددة، استخدم في غير موضع على ما تظهر تقارير الحامية، وبعضها انفجر أثناء عمليات التجريب التي كانت تنفذ مباشرة على مستوطنة بات يام على سبيل المثال.
ويلفت إلى أن صناعة هذه الصواريخ أشرف عليها - كما يتضح - عدة أشخاص، قائلًا إن بعضهم استشهد خلال عمليات التصنيع.
يافا لم تقاتل دفاعًا عن نفسها فقط
وبالإضافة إلى العرب يقول شلش: إن آذاريين وأتراكًا وألمانيين ويوغوسلافيين شاركوا في المعارك بيافا.
ويوضح أن أدوار هؤلاء اختلفت وكذلك رتبهم العسكرية، لافتًا إلى أن جزءًا أساسيًا منهم اكتسب خبرته في الحرب العالمية الثانية.
وبشأن دوافعهم يؤكد أنها تتباين قائلًا: إن بعضهم أتى إلى يافا لنصرة القضية الإسلامية العامة التي كان الحاج أمين الحسيني أحد رموزها، وآخرين هم من الخبراء الذين استقطبتهم الهيئة العربية العليا أو اللجنة العسكرية العليا لتقديم خبرتهم الاستشارية في العمليات العسكرية. ويتحدث أيضًا عن أناس ناصروا القضية الفلسطينية باختلاف دينهم.
إلى ذلك، وفي شهر أبريل/ نيسان من عام 1948، شهدت فلسطين سلسلة حوادث أدت إلى التأثير في مسار المعارك.
ففي ذلك الوقت انطلقت مرحلة جديدة من الهجمات الصهيونية مع قرب الانسحاب البريطاني. وانطلقت عملية نحشون الصهيونية كأولى مراحل الخطة "دالت"، والتي أدت إلى سقوط قرى عربية على الطريق الواصل بين المناطق الساحلية والقدس.
وقد تلت سقوط القرى عملية الإيتسل في المنشية، وهجوم الهاغاناه على جوار يافا وفرض حصار عليها من خلال السيطرة على محيطها، ومعركة تل الريش التي استرجع خلالها العرب هذا التل رغم القوة العسكرية التي دفع بها الصهاينة إلى تلك المنطقة.
لكن ضغط العمليات العسكرية المتصاعد، لا سيما قذائف الهاون العشوائي، ومسار العمليات في عموم فلسطين أدى إلى نزوح السكان عن يافا بكثافة، وهو ما مهد لاحقًا لتفكيك حاميتها.
ويشدد شلش، الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، على أن يافا لم تقاتل دفاعًا عن نفسها فقط، وإنما قاتلت باعتبارها جزءًا من معركة كاملة كانت تجري في كل فلسطين.
ويشير إلى أن تأخر سقوط يافا وصمودها كل هذه المدة أثمر في النهاية حفظًا لبعض بقية فلسطين، الذي استمر حتى العام 1967.
ويضيف: "صحيح أن هذه المناطق سقطت في العام 1967، لكننا نرى اليوم أن أهل فلسطين ما زالوا على أرض فلسطين، وما زال القتال مستمرًا حتى اللحظة".
المزيد في الحلقة المرفقة من وثائقي "أرشيف النكبة" التي تسلط الضوء على الأداء العربي في حرب عام 1948 من خلال وثائق يوميّات حامية يافا التي نُهبت من أرشيف الهيئة العربية العليا في القدس ولم يكشف عنها إلا عام 2016.