قلبت رحلة إلى المنطقة العربية حياة شاب نمساوي رأسًا على عقب، إذ فتحت آفاقه على القضايا العربية والإسلام فترك اليهودية واعتنقه، وصار أحد أكثر المسلمين تأثيرًا في أوروبا لنحو نصف قرن.
فعلى مدى عقود صار ليوبولد فايس، الذي اختار لنفسه اسم محمد أسد، واحدًا من أهم المدافعين عن القضايا العربية والإسلامية، ومنها القضية الفلسطينية.
وفيما سرد شهادته عن هموم العرب والمسلمين في مواجهة الأطماع الأوروبية والصهيونية، أثارت مذكراته التي حملت عنوان "الطريق إلى مكة" مواقف مضادة تجاهه من قبل الأوساط الغربية والمنظمات الصهيونية.
جسر بين الإسلام والغرب
وكان فايس، الصحافي النمساوي الشاب الذي ينحدر من عائلة يهودية، وصل إلى فلسطين في ربيع عام 1922، وبدأ في كتابة مقالات حول الأوضاع في البلاد الواقعة آنذاك تحت الانتداب البريطاني، فتحدث في كتاباته عن القلق العربي المبكر من مشروع تأسيس دولة يهودية.
وبينما انخرط في سجالات مع قادة الحركة الصهيونية، اتخذ موقفًا معارضًا لخططهم. إذ يقول في إحدى اللقاءات التي أجريت معه إن "الغرض من وراء الاستعمار اليهودي لفلسطين ومن ورائه الإساءة للعرب أمر لا أخلاقي"، مشيرًا إلى أنه "عارض فكرة الصهيونية منذ اللحظة الأولى لسماعه عنها".
وفي خضم مهمته الصحافية، بدأ الرجل رحلة بحث ودراسة معمقة للإسلام لم تتوقف طوال سنوات لاحقة، جال فيها على العديد من بلدان المنطقة.
وفي عام 1926، قرر اعتناق الإسلام والانخراط في البيئة الإسلامية حتى صار جزءًا منها، فارتدى الزي العربي وتحدث بالعربية بدلًا من الألمانية وذهب إلى مكة لأداء فريضة الحج.
والعربية كان محمد أسد تعلمها في الأزهر، حيث حاور أيضًا شيخه مصطفى المراغي. أما في السعودية، فقد جال في قلب الجزيرة العربية قبل توحيدها على يد الملك عبد العزيز آل سعود.
وفي الهند، شارك في تأسيس دولة باكستان الإسلامية مع صديقه الشاعر والفيلسوف المسلم محمد إقبال، وأصبح ممثلها لدى الأمم المتحدة.
ثم مع منتصف القرن العشرين، استقال من عمله في وزارة الخارجية الباكستانية وتفرّغ للكتابة عن الإسلام والدفاع عنه.
وقد سجل في "الطريق إلى مكة"، المذكرات التي نشرها في أغسطس/ آب 1954، شهادته عن السنوات المثيرة التي قضاها مرتحلًا بين أوروبا والشرق الإسلامي، حتى بات جسرًا بين الإسلام والغرب.
ويذكر فيها أن "حكايته ببساطة هي حكاية اكتشاف رجل أوروبي للإسلام كدين متكامل في أي مجتمع إسلامي".
خلفية محمد أسد
وُلد محمد أسد في الثاني من يوليو/ تموز 1900 لعائلة يهودية مهاجرة خرج منها عدد من حاخامات أوروبا الشرقية. وفيما واظب منذ سن مبكرة على تلقي التعليم الديني الذي يؤهله ليكون حاخامًا، إلا أنه كان يتطلع كباقي أبناء جيله إلى خوض مغامرات مثيرة.
هكذا قرر ترك الدراسة ليسافر إلى برلين، حيث خاض سلسلة من المغامرات، فصار محررًا ثقافيًا في واحدة من أعرق الصحف في ألمانيا.
والعمل الصحفي قاد فايس إلى المنطقة العربية مراسلًا للصحيفة الألمانية. وقال في مذكراته إن الفراغ الذي شهدته أوروبا عقب الحرب العالمية الأولى جعله يتعمق في الفلسفة بعدما عانى من أزمة روحية.
وروى كيف أن تعرفه على الإسلام كان بداية الشعور بأن ذلك الطريق هو السبيل الوحيد لسد ذلك الفراغ الروحي الذي عاناه.
وفي هذا الصدد، يتحدث الباحث ولي رزمان عن عنصرين أساسيين أثرا في مسار حياة محمد أسد؛ الأول أنه ولد في بيئة يهودية كانت متأثرة بمحيطها الأوروبي الذي شهد إخفاقًا في الجانب الروحي.
فيلفت إلى أن "محمد أسد رأى أن ما وجده في المنطقة العربية يعطيه أجوبة لم يجدها في دينه اليهودي وبيئته اليهودية".
وعن العنصر الثاني، يقول إن المجتمعات في أوروبا ارتدّت بعد الحرب العالمية الأولى عن الدين والجوانب الروحية، وركزت كل اهتماماتها على الجوانب المادية البحتة، مما جعل أسد يقتنع بأن الموجود في الشرق يعطيه نظرة متكاملة للإنسان ينسجم فيه الجانبان الروحي والمادي".
شاب نمساوي في القدس
كانت القدس المحطة الأولى للصحافي الشاب. وأشار في مذكراته إلى أنه وفد إليها مشبعًا بالتصورات الغربية، التي لا تكنّ الاحترام لبلاد العرب، وبفكر ضبابي غائم ضد كل ما هو إسلامي، لكنه سرعان ما اكتشف وقائع الأمور، وبدأ ينظر بارتياب إلى أهداف الحركة الصهيونية.
وروى كيف انبهر بالقدس التي رآها بعينه، إذ كان مذهلًا بالنسبة له أن يعايش عبق التاريخ الذي ينضح من كل زاوية وحجر بالمدينة الإسلامية العتيقة، حيث الأرض التي شهدت نبؤات يشعيا وسار على ترابها السيد المسيح.
وقال إنه قبل أن يأتي إلى القدس لم يكن قد قرأ عنها سوى ما كتبه صهاينة يحاولون تسويق قضيتهم بالادعاءات، التي لا تثبت أمام مجهر الحقيقة الكاشف.
لكنه مع تلاحمه بالأرض العربية على الواقع، تكوّن لديه الانطباع اليقيني بأن المقدسيين هم أصحاب الأرض الحقيقيون.
وكتب: "وجدت لدى الفلسطينيين ما كنت أبحث عنه. وجدت إحساسًا ساميًا مشتركًا وسهولة معنوية وفكرية في التعامل مع كل مشاكل الوجود، وتلاحمًا عضويًا بين الفكر والحواس الذي فقدناه نحن في أوروبا".
وأردف: "الحقيقة أنني تعجبت كيف لأمة وقعت عليها مظالم عديدة، أن توقع الظلم الذي عانت منه على أمة أخرى بريئة من الآلام والفظائع التي تعرّض لها اليهود في أرجاء العالم".
وذكر أنه حين صرّح بآرائه تلك لرئيس جمعية رواد المجتمع الصهيوني بدا له أن الصهاينة لا يميلون لإعطاء أي أهمية لحقوق الأغلبية العربية ومعارضتها للظاهرة الصهيونية.
وأوضح أن رئيس الجمعية "كان كثير الازدراء للعرب، ناقلًا عنه قوله: "كل ما تراه وتظنّه مقاومة ليس إلا صراخًا وصياحًا من بعض الساخطين، وسينهارون خلال بضعة أشهر أو بضعة أعوام".
وفي هذا الصدد، يلفت الباحث محمد عبد العزيز إلى أن محمد أسد "شعر بارتباط روحي ونفسي مع الشخصية العربية، وبأن هؤلاء العرب هم أحفاد ابراهيم وداود الذين قرأ عنهم في العهد القديم".
ويوضح أن الرجل "بدأ في تلك الفترة القيام بتحقيقات صحافية لصالح بعض الجرائد في ألمانيا، وتجول في العالم العربي وتعرف على الشخصية العربية من خلال معايشتها في بلاد الشام ومصر والجزيرة العربية..".
وبناء على ما رآه وعايشه، بنى محمد أسد قناعات خاصة حول الصراع العربي الصهيوني وخالف بها ما عليه جمهور اليهود من أبناء دينه.
وأفاد بأنه رغم كونه يهوديًا لم يملك سوى معارضة التوجهات الصهيونية، وإدانة فكرة إقامة مستعمرات يهودية من شأنها تهديد الوجود العربي، ونقل كل تعقيدات اليهود ومشاكلهم المستعصية على الحل في أوروبا إلى البقاع العربية، ليؤيد وفق ذلك حقوق العرب المشروعة في المقاومة والنضال.
كما أبدى إدنته الشديدة للموقف الأخلاقي للقوى العظمى، وعلى رأسها بريطانيا، التي تدفع بالمهاجرين اليهود من كل أنحاء العالم ليصبحوا أغلبية وينتزعوا الأرض والبلاد من أصحابها الحقيقيين.
وقد كان من شأن تلك الآراء أن جرّت على أسد عواقب غير حميدة، إذ قال إنه كان من الصعب تقبّل موقفه من قبل إخوته اليهود، الذين لم تكن نظرتهم للعرب ترقى عن النظرة العنصرية للأوروبيين تجاه الأفارقة.
ولفت إلى أن إخوته اليهود تقبّلوا دون أي قدر من الشك أن فلسطين حق لهم وأنها إرثهم التوراتي، وسرعان ما وجهوا إليه سهام الشك والارتياب وتم اتهامه بأن العرب قد اشتروه.
سياحة استطلاعية للأقطار العربية
إلى ذلك، وجراء التأثر الكبير والإعجاب الهائل الذي خلفته القدس في نفسه، اندفع محمد أسد لسياحة استطلاعية في الأقطار العربية والإسلامية المختلفة.
استغرقت تلك الرحلة نحو عامين وانخرط خلالها في إعداد تقارير صحافية في بعض المدن الإسلامية، كالقاهرة والقدس وبغداد وحلب واسطنبول لصالح عدة صحف أوروبية مشهورة.
وتم تتويج هذه التقارير في عام 1924 بنشر كتاب صغير تحت عنوان "الشرق اللا رومانسي".
وبحلول عام 1926 كانت عقيدته الجديدة تسيطر على كل أفكاره. ففي ذلك الوقت، كان احتكاكه بالمسلمين في المدن الإسلامية التي زارها كمراسل أول معرفة مباشرة له بالإسلام، والتي أصبحت نقطة تحول كبير في حياته.
وروى في مذكراته قصة اعتناقه للإسلام وكيف أصابته الحيرة في أيامه الأولى بالقدس، عندما رأى مجموعة من الناس يصلّون جماعة.
وذكر أنه طلب من الإمام أن يفسر له حركات الصلاة، وأنه أيقن بعد سنوات أن ذلك الشرح البسيط قد فتح له أول باب للإسلام.
وبعد إسلامه انتقل محمد أسد إلى السعودية عام 1927، ومكث هناك نحو 6 سنوات. وقد أفرد في مذكراته حديثًا مطولًا عن الملك عبد العزيز آل سعود، مؤسس المملكة، والذي دعاه إلى مجلسه في الرياض فنشأت بينهم علاقة وثيقة.