تتعدّد القصص والمعاناة واحدة في قرية نهران عمر جنوبي العراق. فهناك، حيث يخطف مرض السرطان الكبار والصغار، يترك "الخبيث" عوائل منتحبة وخائفة من مصير مماثل.
بسبب السرطان وحده فقد رمضان الساعدي نجله، وخسر جميل أمه وزوجته، وتعاني فخرية مالح الأمَرّين من أوجاعها وضيق أحوالها معًا.
وتشير تقارير طبية منها شهادات وفاة إلى ارتفاع ملحوظ بالاصابات بمرض السرطان، في قرية تُعد 4000 نسمة وتحيط بها نيران حقول نفطية تحميها نقاط أمنية.
مختار القرية بشير الجابري، الذي أُصيبت شقيقته أيضًا بالسرطان، تحدث عن بيتين يجاوران الحقل فيهما مصابون بالسرطان قضى بعضهم نحبه.
وشرح أن هؤلاء يتعايشون مع الدخان والأبخرة والغازات السامة المتصاعدة من الحقول، وأن مزروعاتهم هي الأخرى ضمرت وحالهم مأساوية.
موت سرطاني
تكشف تقارير كثيرة عن موت سرطاني يغزو مدينة البصرة، إلا ان وزارة الصحة العراقية عادة ما تخفف من هالة الخطر. إذ تقول إن أعداد الاصابات بالسرطان لا تتجاوز 2000 حالة سنويًا، لكن جهات رسمية أخرى تؤكد أن الرقم أعلى بكثير.
ويعرب مدير مركز الأورام في البصرة الدكتور رافد عادل عبود عن اعتقاده بأن نسبة الاصابة بالسرطان في البصرة تتراوح بين 78 و82 حالة لكل 100 ألف شخص، لافتًا إلى أن هذه الاحصائية تشمل الكبار والصغار.
ويرى أن النسبة هذه هي إما أعلى بقليل أو مقاربة لبقية المحافظات في العراق.
بدوره، ينبّه أخصائي الأورام السرطانية الدكتور ماهر جبار إلى أن نسبة الاصابة بالسرطان في أماكن محددة من البصرة تختلف عمّا هي عليه في مراكز البصرة.
ويؤكد ضرورة القيام بدراسات احصائية أخرى للزيادة الحقيقية في نسبة السرطان في تلك المناطق تحديدًا، وليس في البصرة بصورة عامة.
وأضاف: "سنرى حينها أن نسبة الاصابة بالسرطان في شمال البصرة، أي في تلك الأماكن الموبوءة والملوثة بيئيًا، أعلى بكثير من نسبة الاصابة في مراكز البصرة".
من جانبه، يشدد عضو مفوضية حقوق الانسان في العراق علي البياتي على أن "نسب السرطان في محافظة البصرة في تزايد".
ويقول: "لعل امتناع المؤسسة الصحية عن التصريح بأي معلومات، وخصوصًا في هذا الملف بإشارة من الوزارة، لم يمكّننا من الحصول على آخر تحديث. ويضيف أن "نسبة الإصابة لغاية العام 2019 لا تقل عن 800 إصابة شهريًا. أما معلوماتنا غير الرسمية فتشير إلى ارتفاع النسبة إلى أكثر من 1000 في العام 2020".
ذروة التلوث
في البصرة، وبحسب تقارير صادرة عن الجهات البيئية، ملوثات أصابت المدينة لأسباب عدة، كان أهمها النفط وتتبعه ملوثات أخرى كالمخلفات الحربية والصناعية والصحية.
وجعلت هذه الأمور مجتمعة البصرة تتصدر قائمة المدن الأكثر عرضة للأمراض والأوبئة.
ويقول مدير عام دائرة بيئة جنوب العراق الدكتور وليد حميد الموسوي إن البصرة هي المحافظة الأكثر استخراجًا للنفط ولهذا الأمر آثاره السلبية على الواقع البيئي، لا سيما مع عدم التزام الشركات المُستخرجة للنفط بالمعايير البيئية.
ويتحدث مساعد محافظ البصرة معين الحسن عن شركات كبرى عملاقة تعمل في المحافظة، لافتًا إلى أنها تقوم بعمليات استخراج كبيرة جدًا تصل إلى 4000 برميل في اليوم الواحد.
وبحسب الحسن، احتوى العقد المنظم بين وزارة النفط العراقية وتلك الشركات على نص يتناول منافع اجتماعية للمحافظات كتنفيذ المشاريع ومعالجة التلوث.
وينص قانون حماية وتحسين البيئة في العراق على وجوب اتخاذ الاجراءات الكفيلة للحد من الأضرار والمخاطر التي تترتب على عمليات الاستكشاف والتنقيب عن النفط لحماية الهواء والمياه.
لكن مع ذلك، يؤكد مسؤول في وزارة النفط العراقي أن الشركات النفطية الأجنبية العاملة في حقول البصرة لا تلتزم بمعايير الحفاظ على البيئة من التلوث، لأن الالتزام سيجعلها تدفع مبالغ مالية طائلة ولا يمكن لأحد إجبارها على الالتزام بذلك.
توثيق إصابات
بالعودة إلى حقل نهران عمر، وهو من ضمن 15 حقلًا نفطيًا تحيط بمدينة البصرة من كل جوانبها، فإن المحطة شُيدت في سبعينيات القرن الماضي، ولم تكن تعمل بكامل طاقتها بسبب الحرب العراقية ـ الايرانية ودخول العراق في آتون الحصار الاقتصادي في التسعينيات.
لكن ما إن دخل الاحتلال الأميركي العراق في 2003 حتى بدأت المحطة تعمل بكامل طاقتها.
وتحدث استبيان أجرته دائرة البيئة في البصرة عن أنواع السرطانات التي يتعرض لها سكان قرية نهران عمر، ووثق 150 حالة. في قرية لا يتجاوز عدد سكانها الـ 4000 نسمة.
ويشرح أخصائي الأورام السرطانية الدكتور ماهر جبار أن كثرة الغازات تؤدي إلى التهاب القصبات الهوائية وتاليًا إلى سرطان الرئة في المستقبل. ونبّه إلى أنها تتسبب أيضًا بسرطانات أخرى في الجهاز الهضمي والمجاري البولية.
وكانت دراسة لخمسة طلاب في الجامعة التقنية للتحليلات المرضية بالبصرة، تتبعت التوزيع الجغرافي للاصابة بأمراض السرطان في المحافظة. ووجدت أن الاقتراب من الحقول النفطية يعني ارتفاعًا في أعداد المصابين بسرطان الرئة.
وخلُصت دراسة قُدمت في كلية العلوم في جامعة البصرة إلى تحديد نشاط عالٍ في اليروانيوم 238 في عينات المصابين بسرطان الدم.