مع سقوط العاصمة الأفغانية، كابول، يوم 15 آب/ أغسطس 2021، تعود حركة طالبان إلى حكم البلاد بعد عشرين عامًا من إطاحة الولايات المتحدة الأميركية لها في تشرين الثاني/ نوفمبر 2001 بسبب استضافتها تنظيم القاعدة الذي تبنى هجمات 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، ورفض الحركة إغلاق معسكراته وتسليم قادته. وتتعرض إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لانتقادات شديدة؛ بسبب طريقة إدارتها عملية الانسحاب من أفغانستان (التي تقررت بموجب اتفاقية الانسحاب الموقعة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب) في ظل مخاوف من تداعيات عودة طالبان إلى الحكم وإمكانية تحولها، مرة أخرى، إلى بؤرة استقطاب لتيارات متشددة تستهدف الولايات المتحدة ودولًا أخرى في المنطقة. وخلافًا لما يروّج بعضهم، لم يكن قرار الانسحاب الأميركي نتيجة هزيمة عسكرية، بل تمثل بفشل سياسي. وهذا لا يعني أن الاحتلال الأميركي نجح عسكريًا، فقد فشل في القضاء على القدرات العسكرية لطالبان التي صمدت وقاتلت طوال عشرين عامًا، وأظهرها الانسحاب الأميركي بمظهر المنتصر عسكريًا. وكانت نتائج الفشل السياسي وخيمة، فقد كانت واشنطن قادرة على الحفاظ على حكومة الرئيس أشرف غني بعدد قليل نسبيًا من الجنود الأميركيين وحلفائهم في حلف شمال الأطلسي "الناتو". كان هذا قرارًا سياسيًا - اقتصاديًا بوقف التورط في أفغانستان. وقد جسد هذا القرار اعترافًا بفشل سياسي آخر في سياسات ما سُمّي "بناء الأمة" أو "بناء الدولة" بواسطة قوة احتلال.
خلفيات عودة طالبان
في عام 2018، خلص تقييم استخباراتي أميركي سري، تم تسريبه في وقت سابق من عام 2021، إلى أن انسحابًا سريعًا قد يؤدي إلى حرب أهلية، وعودة طالبان إلى السلطة، إلا أن إدارة الرئيس ترامب أصرت على التفاوض مع طالبان والانسحاب على نحو تحصل فيه الولايات المتحدة على بعض الضمانات بعدم استضافة أفغانستان أي "تنظيم إرهابي" مستقبلًا. أما إدارة بايدن فقد رأت أن ثمة تحديات أكبر تواجه الولايات المتحدة، فضلًا عن تقديرها أن قوات الجيش الأفغاني قادرة على التصدي لطالبان، لفترة قد تصل إلى عامين، ما يسمح بالوصول إلى تسوية مع طالبان. ولم تتوقف التحذيرات الاستخبارية عند حدود تكرار سيناريو سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" على أجزاء واسعة من العراق وسورية، صيف عام 2014، بعد أن كانت الولايات المتحدة قد انسحبت من العراق عام 2011، بل تجاوزتها إلى احتمال تكرار سيناريو سقوط سايغون، عاصمة فيتنام الجنوبية، عام 1975، أمام زحف قوات فيتنام الشمالية بعد أن تخلت الولايات المتحدة عن الحرب وعن حلفائها الجنوبيين وانسحبت منها، مع الفرق أن الولايات المتحدة لم تتكبد هذا النوع من الخسائر في أفغانستان، وقد بدا مؤخرًا أن طالبان قررت عدم مواجهة القوات الأميركية، والاكتفاء بمحاربة قوات الحكومة.
رفض الرئيس بايدن في مقابلة صحافية في تموز/ يوليو 2021 عقد مقارنة بين سايغون وما قد يحدث في كابل في حال انسحاب القوات الأميركية، مشددًا على أن "طالبان ليست جيش فيتنام الشمالية". وذهب أبعد من ذلك حينما قال إنه "لا يرجح سقوط كابول بيد طالبان". لكن التطورات أظهرت عكس توقعاته تمامًا، لمّا اضطر إلى إرسال 3000 جندي أميركي لإجلاء موظفي السفارة الأميركية، اعتبارًا من 12 آب/ أغسطس 2021، حين بدأت قوات طالبان تضيق الخناق على العاصمة، وارتفع العدد بعد يومين فقط إلى 5000 جندي. وقد أعاد مشهد طائرات الهليكوبتر الأميركية وهي تنقل موظفي سفارتها إلى المطار في كابل بالفعل ذكريات سايغون، ما اعتبر فشلًا كبيرًا.
لكن إدارة بايدن لا تتحمل وحدها المسؤولية عن الفشل في أفغانستان، والذي لم يكن إلا تعبيرًا متأخرًا عن حتمية كان الجميع يعلم أنها آتية. ووفق وثائق حكومية أميركية سرية كشفت عنها صحيفة واشنطن بوست، عام 2019، بعنوان "الأوراق الأفغانية"، كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة، منذ جورج بوش الابن، مرورًا بإدارتَي باراك أوباما وترامب، توصلت إلى استنتاج أنه من غير الممكن القضاء على تنظيم طالبان. وكانت القيادتان السياسية والعسكرية الأميركيتان تدركان علاوة على ذلك فداحة الفساد والضعف الذي تعانيه الحكومة في كابول. ومع ذلك تجاهلت إدارة ترامب هذه المعطيات؛ تفاديًا للاعتراف بالفشل في ما يسمى بناء الدولة. لقد نمت في ظل الوصاية الأميركية نخب سياسية أفغانية وفئات طفيلية تعتمد على الدعم العسكري والاقتصادي الأميركي، ومتنازعة فيما بينها، ولم تكن قادرة على أن تضرب جذورًا لها أو لمؤسسات الدولة في المجتمع الأفغاني، ولا سيما في الأطراف.
ومنذ عام 2006، كان واضحًا لإدارة الرئيس جورج بوش الابن أن الأمور لا تسير في الاتجاه الصحيح، لكنها قررت مع ذلك تجاهل التحذيرات والاستمرار في إشاعة أجواء إيجابية عن تطورات المعارك على الأرض. وحينما جاء أوباما حوّل تركيزه بعد سحب قواته من العراق نحو أفغانستان، في محاولة جديدة لإلحاق هزيمة بطالبان، فرفع عدد القوات الأميركية هناك من 36 ألف جندي إلى 83 ألف جندي، إضافة إلى 32 ألفًا آخرين من قوات الناتو، فضلًا عن آلاف المتعاقدين المدنيين الذين يقدمون استشارات وخدمات عسكرية. ومع ذلك، فإن الزيادة الكبيرة في عدد القوات القتالية لم تغير المعطيات على الأرض، وهو ما اضطر أوباما إلى الإعلان، نهاية عام 2014، عن تخفيض عدد القوات الأميركية إلى حوالى تسعة آلاف وبقائها، نظريًا، في مهمات "غير قتالية". وكان وجود هذا العدد (أقل منه في الواقع) كافيًا للحفاظ على الحكومة وجيشها في مواجهة طالبان طوال عهد ترامب. ولم تتقدم الأخيرة إلا بعد انسحاب هذه الآلاف التسعة من الأميركيين. وفي العديد من الولايات، بما في ذلك العاصمة، انهارت القوات النظامية من دون قتال، نتيجة انسحاب القوات الأميركية.
ورغم أن ترامب جاء بوعود لإنهاء أكثر الحروب الأميركية تكلفة وأطولها زمنًا، فإنه قام، عام 2017، بتخويل القيادة العسكرية الأميركية في أفغانستان بزيادة عدد القوات، إذا رأت حاجة إلى ذلك، فضلًا عن إعطاء إدارته الضوء الأخضر لشن حملة قصف جوي مكثف بأقوى قنابل غير نووية موجودة في الترسانة الأميركية، ولا سيما بعد ظهور قوى تنسب نفسها إلى تنظيم داعش في أفغانستان. لكن الجهود العسكرية الأميركية فشلت مرة أخرى في إحداث تغيير جوهري على الأرض، ما دفعه عام 2018 إلى البحث عن سلام مع طالبان. وبالفعل بدأت إدارته التفاوض مع طالبان في العاصمة القطرية، الدوحة، وانتهت بتوقيع اتفاقية سلام معها نصت على انسحاب أميركي كامل ينتهي مطلع أيار/ مايو 2021، مقابل أن تقطع الحركة علاقاتها مع القاعدة و"الجماعات الإرهابية الأخرى". وكانت طالبان تسيطر عند توقيع اتفاق الدوحة على ما يقرب من نصف مساحة البلاد.
ومع تولي بايدن الرئاسة مطلع عام 2021، أشار إلى التزامه باتفاق إدارة سلفه مع طالبان. وفي نيسان/ أبريل 2021، أعلن أن القوات الأميركية البالغ عددها حينها 3500 جندي، وقوات الناتو، والتي كانت تعدّ 7000 جندي، ستبدأ بالانسحاب من أفغانستان مطلع شهر أيار/ مايو 2021، بدل أن ينتهي الانسحاب في ذلك التاريخ، بحسب الاتفاق الأصلي، على أن تتم انسحابها قبل 11 أيلول/ سبتمبر 2021. وفي 8 تموز/ يوليو قرّب بايدن موعد انسحاب القوات الأميركية إلى نهاية آب/ أغسطس 2021، وأكد أن إدارته تعكف على وضع خطط لمنع تنظيم القاعدة والتنظيمات الأخرى من تعزيز وجودها في أفغانستان، بما في ذلك قيام القيادة المركزية الوسطى الأميركية، التي تقع أفغانستان ضمن نطاق عملها، بنقل بعض قواتها إلى باكستان أو طاجيكستان لتوفير قدرة على الرد السريع في حال بروز أي تهديد في أفغانستان. لكن التقدم السريع لقوات طالبان وانهيار القوات الأفغانية الحكومية (من دون مقاومة في غالبية الحالات) فاجأ واشنطن، وكشف عن فشل استخباراتي كبير.
فشل استخباراتي وفساد حكومي
استند قرار الانسحاب من أفغانستان إلى اعتقاد إدارة بايدن وأجهزتها الأمنية والعسكرية أن القوات الأفغانية قادرة على صد هجمات طالبان، خصوصًا على العاصمة. وكان مستشارو الرئيس عبروا عن ثقتهم بأن طالبان لن تتمكن من السيطرة على أي عاصمة من عواصم أقاليم أفغانستان الـ 34 قبل خريف 2021 على أقل تقدير. وحتى 13 آب/ أغسطس 2021، أي قبل يوم واحد من محاصرة طالبان لكابول ودخولها، كان الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية، جون كيربي، يؤكد أن العاصمة غير مهددة. من جهة ثانية، لم يكن، كما يبدو، لدى الوكالات الاستخبارية الأميركية معلومات كافية عن قدرات طالبان وعتادها وأعداد مقاتليها وخططها. والأهم من ذلك عدم إدراكها مدى اتكالية النظام النفسية والمادية على الوجود الأميركي، إلى درجة الانهيار المعنوي للجيش مع خروج الأميركيين. كما برز غياب التنسيق الكامل مع قوات الحكومة الأفغانية، ومن الأمثلة على ذلك ما جرى، في تموز/ يوليو 2021، حين غادرت القوات الأميركية قاعدة باغرام، شمالي كابول وقطعت الكهرباء عنها، من دون أن تخطر القائد الأفغاني للقاعدة، والذي لم يكتشف رحيلهم إلا بعد ساعتين من ذلك.
وأدّى الفساد المنتشر في أوساط القوات الحكومية دورًا أيضًا في الوصول إلى هذه النتيجة. نظريًا، كان ميزان القوى يميل بقوة إلى صالح الجيش الأفغاني الذي يفوق عدد أفراده أعداد مقاتلي طالبان بحوالى أربعة أضعاف، كما أنه يمتلك أسلحة أكثر تقدمًا، ولديه قوة جوية، وإن كانت محدودة، فضلًا عن التدريب والتمويل والموارد التي أتاحتها له واشنطن. وهذا ما كان يعوّل عليه الرئيس بايدن، وأشار إليه في خطابه في تموز/ يوليو 2021 لمّا برر قراره الانسحاب من أفغانستان، من أن الولايات المتحدة وحلفاءها دربوا وسلحوا مئات الآلاف من الأفغان، منهم أكثر من 300 ألف جندي ورجل أمن في مواجهة 75 ألف مقاتل من طالبان. والواقع أن عددًا كبيرًا من هؤلاء الجنود لم يكن موجودًا إلا على الورق؛ ما أدى إلى انتشار ما يسمى ظاهرة "الجنود الأشباح" أو "الفضائيين"، إذ يميل بعض المسؤولين الفاسدين إلى المبالغة في أرقام المنتسبين إلى قطعاتهم العسكرية للسطو على رواتبهم ومخصصاتهم. ورغم أن الولايات المتحدة انفقت نحو 83 مليار دولار على تدريب الجيش الأفغاني وتسليحه، فإنها لم تستطع أن تزرع إرادة القتال بين أفراده؛ إذ ظلت المعنويات منخفضة بسبب الفساد وسوء الإدارة في أوساط الحكومة الأفغانية وقياداتها العسكرية. فالآلاف من أفراد الشرطة الأفغانية مثلًا لم يتقاضوا رواتبهم منذ شهور، وكذلك الأمر بالنسبة إلى عناصر الجيش. وينسحب الأمر ذاته على نقص الطعام والمخصصات الأخرى. وساهم نشر قوات الجيش والشرطة في مناطق بعيدة عن المناطق التي ينحدرون منها في خلق شعور بعدم الارتياح وضعف الانتماء لديهم. ومع خروج الأميركيين وتقدم طالبان، هرب كثيرون منهم إلى مناطق سكناهم للدفاع عن عوائلهم. ولم يكن كثيرون منهم متحمسين للدفاع عن حكومة أشرف غني التي يرونها ضعيفة وفاسدة؛ فراحوا يتركون أسلحتهم ويفرون بمجرد ظهور طلائع قوات طالبان. عانت القوات الحكومية أيضًا مشكلات مرتبطة بقدرتها على تشغيل الأسلحة التي تمتلكها. وقد ظهر ذلك بوضوح أكبر في سلاح الجو. إذ لم تستطع القوات الأفغانية تشغيل الطائرات التي تمتلكها بعد سحب المتعاقدين المدنيين. في المقابل، تبين أن لدى طالبان قدرات عسكرية أكبر مما قدرها الأميركيون، وقد تعززت هذه القدرات بسبب ما غنمته الحركة من الأسلحة الأميركية المتطوّرة.
تداعيات عودة طالبان
سيكون لانسحاب القوات الأميركية من أفغانستان وسقوط حكومة كابول وعودة طالبان تداعيات محلية وإقليمية ودولية كبيرة، أهمها:
- تراجع الثقة بالولايات المتحدة وصدقيتها بين حلفائها في المنطقة والعالم؛ فالطريقة التي تخلت بها واشنطن عن حلفائها في أفغانستان توحي بأنها باتت تميل إلى التخفف من أي التزام يمكن أن يمثل عائقًا لتوجهها نحو التركيز على التحديات والتهديدات الاستراتيجية التي تواجهها، مثل صعود الصين.
- احتمال أن تؤدي عودة طالبان إلى حكم أفغانستان إلى بث الروح في التنظيمات الجهادية المتشددة التي تلقت ضربة كبيرة بعد هزيمة تنظيم داعش في العراق وسورية، باعتبار أن ما حصل يُعدّ نصرًا كبيرًا للحركة ومناصريها.
- احتمال تراجع المكتسبات التي حققتها المرأة الأفغانية خلال العقدين الماضيين، بما في ذلك حق الفتيات الصغيرات في التعليم، وفرض نظام حكم متشدد.
- نشوء فراغ في أفغانستان يذكي روح التنافس بين القوى الإقليمية والدولية؛ ما قد يحول أفغانستان إلى ساحة صراع جديد. ولا يستبعد حصول صراعات على خلفية إثنية وغيرها بعد الصدمة الأخيرة.
خلاصة
مع عودة حركة طالبان إلى الحكم، تقف أفغانستان أمام مرحلة جديدة عنوانها الرئيس عدم اليقين. ورغم أن الحركة تبدو مهتمة بتهدئة المخاوف المحلية والدولية حيال إمكانية تبنيها نهجًا متشددًا في الحكم، والحصول على اعتراف دولي، فإن الكثير سوف يعتمد على ما تفعله بعد استعادتها السلطة. ومن الواضح أن تركيز الحركة منصب في هذه المرحلة على تجنب تكرار ما حصل معها خلال فترة حكمها الأولى بين عامي 1996-2001 عندما أدى خطابها وسياساتها المتشددة إلى عزلها وعدم الاعتراف بها. وتتبنى طالبان منذ سيطرتها على كابول خطابًا سياسيًا معتدلا تأمل أن تنجح من خلاله في إقناع المجتمع الدولي بقبولها، وربما حتى تقديم مساعدات اقتصادية لتحقيق الاستقرار في بلاد دمرتها الحرب. ولم يكن اعتراف باكستان بحكم طالبان مفاجئًا بالطبع، ولكن الصين التي تحارب ما تسميه "التطرف الإسلامي"، وفتحت معسكرات اعتقال للإيغور من مواطنيها، تتجه هي الأخرى، على ما يبدو، للاعتراف بطالبان؛ فهي ترى أمرًا واحدًا وهو التراجع الأميركي. وهذا هو أيضًا حال روسيا التي لا تخفي سعادتها، ولكنها تفضل الانتظار ومتابعة سياسات طالبان؛ إذ لديها نفوذها في الجمهوريات الآسيوية. أما الولايات المتحدة، وحلفاؤها في الاتحاد الأوروبي والناتو، فما زال في إمكانهم عزل الحركة ومنع حصول قبول واسع لها على الساحة الدولية. وربما هذا ما دعا طالبان إلى تبني خطاب "معتدل" حتى الآن، يشمل احترام التعددية السياسية والحريات الأساسية للأفغان، وهذا ما سيكون محل اختبار ومراقبة خلال الفترة المقبلة لتبيان كيفية التعامل الدولي مع الواقع الجديد في أفغانستان.