ودّع نصوح بابيل الحياة في مدينة دمشق عام 1986، ولم يتمكن من الكتابة عن أول تجربة وحدوية في تاريخ العرب المعاصر بين سوريا ومصر.
لكن الصحافي السوري الشهير ترك مذكرات خطها بين عامي 1943 و1963، وسجّل فيها صفحات من تاريخ سوريا وصحافتها في القرن العشرين، لتكون سجلًا زاخرًا بالأحداث وشهادة وثقت ما جرى زمن الانتداب الفرنسي وعهد الحكم الوطني وما شابه من انقلابات عسكرية.
من هو نصوح بابيل؟
وُلد عام 1905 في دمشق، وبدأ مشواره الصحافي في أوائل عشرينيات القرن الماضي محررًا في جريدة سوريا الجديدة، كما عمل مكاتبًا لعدد من الصحف اللبنانية، إضافة إلى جريدة المقطم المصرية.
وأصبح خلال سنوات قليلة رئيس تحرير صحيفة "المقتبس" الدمشقية العريقة. واهتم نصوح بابيل بنقل أخبار الثورة السورية الكبرى وهاجم في مقالاته المحتلين وأعوانهم. ولاحقًا أصبح صاحب جريدة الأيام الدمشقية العريقة، وأول نقيب للصحافيين السوريين.
يصف الكاتب والباحث السوري عمر كوش، نصوح بابيل بأنه "من الشخصيات الإعلامية اللامعة، والتي برعت في الصحافة السورية مبكرًا".
ويضيف أن "بابيل بنى اسمًا كبيرًا في عالم الصحافة نتيجة انتشاره الواسع، ثم نتيجة ترؤسه لواحدة من أهم الصحف التي كانت تصدر في سوريا".
بدوره، يرى شمس الدين الكيلاني، الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أن "نصوح بابيل مواطن دمشقي وصحفي معروف تربطه علاقة بالصحفيين في مصر، ودافع دومًا عن حرية الصحافة".
ويشير إلى أن "مذكرات نصوح بابيل هي عبارة عن صورة عن تاريخ الحياة السياسية السورية"، مذكرًا بأن الرجل اتخذ موقفًا وطنيًا، وصحيفته الأيام كانت منبرًا حقيقيًا للتيار الوطني في سوريا.
وفيما يتوقف عند كل من صحيفتي القبس والمقتبس أيضًا، يلفت إلى أن الصحافة السورية كانت ضمن هذه التحولات تنهض وتقوى وتضع بصماتها على مستوى التعبير السياسي.
تأسيس صحيفة "الأيام"
مع انطلاق النضال السياسي لنيل استقلال سوريا، كان نصوح بابيل من أهم الصحافيين المقربين من القيادات السياسية التي عُرفت لاحقًا بالكتلة الوطنية.
والكتلة التي قررت أن تقوم بافتتاح صحيفة تنطق بلسانها وتدافع عن سياساتها، استعانت بنصوح لخبرته في الطباعة والصحافة.
يروي بابيل في مذكراته، كيف "فوجئ بزيارة كل من رياض الصلح وجميل مردم بك إلى مكتبه في مطبعة بابيل إخوان.
ويشير إلى أن الرجلين الكبيرين حدثاه بلسان الإخوة المواطنين المتعاونين على مكافحة الاستعمار عن موضوع طبع جريدة الأيام.
ويوضح أن العدد الأول من الجريدة صدر في 10 مايو/ أيار عام 1931، وذلك بثماني صفحات، لافتًا إلى أن تلك كانت "المرة الأولى التي تصدر فيها جريدة سياسية بهذا الحجم، فأقبل الناس على مطالعتها ولقيت إقبالًا كبيرًا لم تعهده صحيفة سورية من قبل".
إلى ذلك، يفيد بأن الأيام كانت تؤلف جزءًا مهمًا من تاريخ النضال الوطني في سوريا، وكانت مع زميلتها القبس هدفًا رئيسيًا لنقمة السلطات الأجنبية الحاكمة، فقد عُطلت كل واحدة منهما خلال عهد الصراع مع العدو بضع عشرة مرة، وكثيرًا ما أُحيلت الجريدتان إلى المحاكم الأجنبية والمحلية..
إضرابات وحرب شوارع
وبينما يشير نصوح بابيل عبر مذكراته إلى أحداث سياسية مفصلية شهدتها سوريا، لا سيما إبان الانتداب، يتوقف عند إضرابات وحرب شوارع شهدتها البلاد بين عامي 1935 و1936.
وكان قد سبق ذلك مجموعة تطورات، من بينها فرض الاحتلال الفرنسي دستورًا معدلًا على سوريا وإجراء انتخابات برلمانية كانت مقدمة لإعلان الجمهورية السورية الأولى برئاسة محمد علي العابد.
وحينها سعى الفرنسيون إلى عقد اتفاقية مع الجمهورية الوليدة تضمن استمرار هيمنتهم على سياستها الداخلية والخارجية، وتكرس حالة التقسيم الطائفي المفروضة على البلاد، لكن الاتفاقية تم إسقاطها.
وبوفاة إبراهيم هنانو وتعطيل الفرنسيين تأبينه حصلت مشكلات ومواجهات، وصدر بعدها بيان يطالب بالاستقلال أعقبه الإضراب الستيني، وفق ما يوضح الكيلاني.
وفي هذا الشأن، يقول بابيل في مذكراته إن النضال الوطني بلغ في عامي 1935 و1936 ذروته، لافتًا إلى أن الإضرابات عمت المدن السورية، ولم يزد اعتقال ونفي الزعماء، الشعب إلا تأججًا واندفاعًا.
برنامج مذكرات يستعرض حياة نصوح بابيل وصفحات من تاريخ سورية، مشاهدة ممتعة وغدا نقاش حولها في مساحة برنامج تويتر.https://t.co/gTv8Rs1xCR pic.twitter.com/CqLt4bH6Uk
— محمد عبدالعزيز (@Mo_aziz_hagin) August 18, 2022
وبينما يتحدث عن حرب شوارع بين الشعب المناضل وفرنسا المعتدية، يقول إنها استمرت إلى أن انتهت إلى الإضراب الستيني الذي اعتبرته الصحافة العالمية، ومنها الفرنسية، أروع عمل سلبي ضد المحتل الغاضب، لم يعرف تاريخ الشعوب المناضلة له مثيلًا.
ومن الأحداث الهامة أيضًا التي يعرضها بابيل الانقسام الذي شهدته سوريا أمام توقيع المعاهدة الفرنسية السورية في 9 سبتمبر/ أيلول 1936.
بابيل كان قد تقصى على صفحات جريدة "الأيام" وعلى مدى شهرين كاملين مجريات المفاوضات بين وفد الكتلة الوطنية والحكومة الفرنسية، والتي انتهت بتوقيع المعاهدة.
ونصت الاتفاقية على اعتراف الفرنسيين باستقلال سوريا مقابل سماح السوريين ببقاء عدد من القواعد العسكرية الفرنسية داخل البلاد وإعطائها الحق باستخدام الأراضي السورية زمن الحرب، والموافقة على منح لواء إسكندرون وضعًا خاصًا ضمن الإطار السوري.
عقب ذلك، أُجريت انتخابات عامة فازت فيها الكتلة الوطنية بأغلبية مقاعد البرلمان وتشكلت حكومة وطنية برئاسة جميل مردم بك.
وقامت هذه الحكومة بإصدار عفو عن المعتقلين والمنفيين السياسيين، فكان من أبرز العائدين إلى البلاد الزعيم الوطني عبدالرحمن الشهبندر، الذي تزعم معسكر الرافضين للمعاهدة، التي رأى فيها انتقاصًا من سيادة سوريا واستقلالها.
ويشير بابيل في مذكراته إلى أن "جريدة الأيام وقفت في بادئ الأمر موقف العامل بكل قوة على جمع الشمل وتفادي الخلافات، لكن الأمر عندما بلغ الحد الذي يفرض عليها القول صريحًا كل الصراحة إما مع المعاهدة أو ضدها، اتخذت بملء قناعتها الموقف الذي يدعو إلى رفض المعاهدة ما دامت لا تختلف عن الانتداب إن لم تكن أكثر شرًا وسوءًا، وبالتالي الإصرار على جمع الصفوف المبعثرة".
ويلفت إلى أن "حكومة مردم بك التي بقيت في الحكم سنتين ونصف السنة تقريبًا، عطّلت خلالها جريدة الأيام خمس مرات".
"للفرنسيين ضلوع كبير في المؤامرة"
عام 1937 سهلت فرنسا إصدار قرار أممي يقضي بفصل لواء إسكندرون عن سوريا، فقدم أعضاء الحكومة السورية ورئيس الجمهورية استقالتهم. وقامت فرنسا بإلغاء معاهدة الاستقلال، وأعادت فرض حكمها المباشر على البلاد.
وبقيت حالة التوتر في الأوساط السياسية السورية تتصاعد لتصل إلى ذروتها باغتيال عبدالرحمن الشهبندر في 6 يوليو/ تموز عام 1940، وتوجيه الاتهامات إلى شخصيات بارزة في الكتلة الوطنية بالوقوف خلف ذلك.
يشرح كوش أن التحليلات كانت متضاربة في تلك الأيام، حيث كانت التهمة الأولى الموجهة للكتلة الوطنية بأن هناك 3 من قادتها يقفون خلف عملية الاغتيال، لكن العقلاء من الطرفين سواء من حزب الشعب أو الكتلة الوطنية أشاروا بأصابع الاتهام إلى الانتداب.
بدوره، يروي نصوح بابيل في مذكراته تفاصيل لقاء جمع بين كبير موظفي المخابرات الفرنسية من أصول لبنانية جوزيف جميّل وصهر الشهبندر، نزيه المؤيد العضم.
ويشير إلى "قول المؤيد لجميّل بحدة وغضب: كيف ولماذا سهلتم سبل الفرار لعدد من أعضاء الكتلة الوطنية، الذين فروا من العراق وهم مردم والجابري والحفار، منذ عرفوا أن الاتهام بمؤامرة القتل يشملهم؟".
ويضيف بابيل أن "المؤيد فوجئ بجواب من الجميل ما كان يتوقعه، فقد قال له: اقتلوا بالمقابل واحدًا من أعضاء الكتلة ونحن نضمن له حرية الفرار، راويًا أن المؤيد أسرع إلى زيارته بعدما سمع ذلك ونقل له الحديث الذي دار بالحرف.
ويشرح أنه حذّر المؤيد من الإقدام على عمل إجرامي لأن هذا قد يعرض البلد لمذبحة كبيرة، لافتًا إلى أنه بات بعد كلام الجميل يحسب أن للفرنسيين ضلوعًا كبيرًا في المؤامرة، إن لم يكونوا رأسها المدبر.
بابيل يتحدث عن قصف البرلمان
إلى ذلك، وبينما غيّرت الحرب العالمية الثانية وجه العالم السياسي، بقيت السلطات الفرنسية مصرة على عقد اتفاقية تثبت فيها هيمنتها على سوريا. ولم يرض الوطنيون السوريون بديلًا عن الاستقلال الكامل، ما دفع الفرنسيين إلى استهداف رمز الديمقراطية السورية.
وفي هذا الصدد، يسجل نصوح تفاصيل اعتداء القوات الفرنسية على البرلمان السوري.
ومما يورده في مذكراته أنه في الساعة السابعة من مساء الثلاثاء 29 مايو/ أيار 1945، دوت طلقات الرصاص من الحامية الفرنسية والجنود السنغاليين تجاه دار البرلمان السوري، بينما كان مجلس النواب السوري لا يزال منعقدًا.
ويفيد بأن الساحة أمام دار البرلمان كانت تغصّ بالجماهير التي تنتظر نتيجة الجلسة، فتدافع الناس يمشي بعضهم فوق بعض، وخرج النواب من قاعة المجلس مذعورين، فوجدوا سدًا من النيران توجهه المصفحات الفرنسية والجنود السنغال إلى دار البرلمان.
استمر العدوان ثلاثة أيام متواصلة، ولم تتراجع فرنسا إلا بعدما أرسل رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل برقية إلى الجنرال ديغول ليبلغه بإصداره الأوامر إلى القوات البريطانية المرابطة في سوريا بالتدخل لوقف القتال والحيلولة دون إراقة الدماء، ما أجبر القوات الفرنسية على الجلاء عن الأراضي السورية في 17 أبريل/ نيسان 1947.
ومع الجلاء، ودعت سوريا عهود الاحتلال واستقبلت عهدًا استقلاليًا ديمقراطيًا تنافست فيه الأحزاب على الحكم في انتخابات حرة ونزيهة ونعمت فيه الصحافة بأقصى درجات الحرية.
يشير الكيلاني إلى أن 18 جريدة تواجدت حينها في دمشق، التي كان سكانها 200 ألف نسمة، و11 جريدة في حلب التي بلغ عدد سكانها قرابة 200 ألف.
وكانت الصحافة السورية تتابع باهتمام تفاصيل تطورات الأحداث في فلسطين والصراع مع الحركة الصهيونية هناك.
وعقب هزيمة عام 1948 عمّت الاضطرابات والاحتجاجات سوريا، وتراشق السياسيون والعسكريون بالاتهامات بالتقصير في الحرب.
وكتب نصوح بابيل عن عدد من المواقف، التي كان شهد فيها على مدى تدهور العلاقة بين قيادة الجيش ووزارة الدفاع.
إلى ذلك، يفرد بابيل مساحة واسعة من مذكراته لتوثيق جانب من تاريخ سوريا شهد عدة انقلابات عسكرية، فكتب عن مواقف وأحداث ومدها بزاده من الأيام.
تفاصيل تلك المرحلة وشهادة نصوح بابيل في الحلقة المرفقة من مذكرات.