لم يتجاوز عمر الملك فيصل بن الحسين الخمسين عامًا، إلا أنه لعب دورًا مركزيًا في الأحداث والتقلبات التي مرت بها الأمة العربية، وسط القرارات الحساسة والصراعات الكبرى.
وجعل هذا الأمر فيصل شخصية جدلية في حياته وبعد مماته. ففيصل كان مزيجًا بين بدوي أصيل وسياسي معاصر، وشكل مثالًا حيًا لروح الحرية والاستقلال.
ورغم الخلاف الكبير حول فيصل بين التخوين والتبجيل، فإن صراعه مع أقطاب العالم من أجل استقلال وتحرير سوريا ودوره في بناء مؤسسات العراق الحديث، كان الإرث الذي حرص فيصل على تخليده.
وكان الملك فيصل شاهدًا على التحولات الكبرى التي عاشها العالم العربي؛ واجه خصومه في ميادين القتال وفاوضهم في قاعات المؤتمرات.
فمن الدولة العثمانية إلى دول الحلفاء، تطورت علاقته بكل الأطراف الفاعلة، وتبدلت من مرحلة إلى أخرى. فلم يكن له صديق دائم أبدًا.
"غايتي الوحيدة استقلال الأمة العربية"
في أواخر عام 1919، بدأت مرحلة جديدة في علاقة الأمير فيصل بالبريطانيين، حيث تفاجأ السوريون بإعلان بريطانيا بدء انسحاب قواتها من سوريا لتحل مكانها القوات الفرنسية.
اعتبر السوريون ذلك تطبيقًا عمليًا لاتفاقية سايكس بيكو، فثار غضب النخب في بلاد الشام وسارت المظاهرات في شوارعها.
أما فيصل، فقد رأى أن البريطانيين قد غدروا به. وأمام غضب الشارع، دافع عن نفسه رافضًا اتهامه بالاتفاق مع الفرنسيين على ما يجري.
وكتب فيصل حينها: "لقد قمت بثورة في وجه الترك، وغايتي الوحيدة استقلال الأمة العربية. ولكن بعض الناس يتوهمون أنني عقدت اتفاقًا في باريس".
وأضاف: "ليس لهذا الوهم ظل من الصحة، فأنا ابن محمد وابن أولئك الأجداد الكرام، فأنا أسير على خطتهم ولا أرضى ولن أرضى بأي اتفاق كان سوى استقلال البلاد العربية".
ويشير محمد جمال باروت، رئيس دائرة البحوث في المركز العربي، إلى "تغيير حقيقي بدأ في العلاقات بين فيصل والسياسة البريطانية، لتقوم على ضعف الثقة والحذر"، لافتًا إلى قيام فيصل بدعم عمليات الضباط العهديين في شن أعنف الهجمات ضد القوات البريطانية في العراق".
ومع تصاعد الخلافات بين بريطانيا وفيصل، قطعت بريطانيا المعونة الشهرية التي كانت الحكومة العربية تعتمد عليها في تسيير شؤونها، فعانت الحكومة العربية أوضاعًا اقتصادية صعبة.
وأصبحت تلك المعونة وسيلة ضغط على حكومة فيصل للقبول بالمشروع الصهيوني والانتداب الفرنسي.
ويشرح باروت أن ما سمي إعانة لم يكن كذلك في الواقع كما يوحي الاسم "بل حقوق الحكومة العربية عن عائداتها الجمركية نتيجة الواردات على مرفأي بيروت وحيفا".
ويوضح أن الحكومة العربية عاشت عقب قطع المعونة أزمة حقيقية، لا سيما على صعيد تمويل رواتب الجيش العربي والدرك، واضطرت إلى اتباع سياسة تقشفية لتخفيف عجز الموازنة.
"الانتداب كلمة لا معنى لها"
في ذلك الوقت، كانت البرقيات تصل إلى الحكومة الفرنسية من رئيس بعثتها في دمشق الكولونيل تولا، الذي كتب في إحداها: "أنا لم أر في حياتي شيئًا كهذا.. إنه هنا بين شعبه محاطًا بأمته. إنه القائد الحقيقي لهذا الشعب، ويكفي لأي كان أن يرى صور وحجم هذه الحشود ليعرف أنه لا داعي للجنة لتقصي الحقائق في هذا البلد".
ومع ذلك، أصرت الحكومة الفرنسية على تجاهل هذه المعطيات.
وفي 8 مارس/ آذار 1920، توجت اجتماعات المؤتمر العربي السوري العام بإعلان الاستقلال والمناداة بفيصل ملكًا على سوريا، لكن الحلفاء رفضوا الاعتراف بقرارات المؤتمر السوري واستقلال المملكة السورية.
وبمضي أيام على إعلان الاستقلال، انعقد مؤتمر سان ريمو في إيطاليا بحضور ممثل المملكة السورية نوري السعيد.
قرر الحلفاء وضع سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي المباشر، وانتهت بذلك القضية العربية دوليًا وتحتمت المواجهة مع الفرنسيين، فيما أعلن فيصل رفضه الخضوع للانتداب.
وكتب فيصل في هذا الشأن: الانتداب كلمة لا معنى لها في أي قاموس، تفسر تارة على أنها أقسى شكل من أشكال الاحتلال، وتارة على أنها لا تؤثر في استقلال الأمم.
وأضاف: "أيًا كان معناها، فإنها وصمة عار على الأمم التي تريد الحرية. ثقوا أن قائدكم لن يقبل أن تكون مملكته تحت أي ملك أيًا كان..".
ويذكر باروت بأن فيصل استخدم كل أساليبه الدبلوماسية في العلاقة مع الفرنسيين، الأمر الذي تبينه مراسلاته مع الجنرال غورو والدراسات التاريخية ومصادر المعلومات في تلك الفترة، لكن دون أن ينجح في ذلك.
ويشير إلى أن العامل الخارجي كان الأكثر حسمًا، وتمثل في الاتفاق الفرنسي البريطاني على التخلص من فيصل.
"رفضه سيؤدي حتمًا إلى مصيبة"
كان الجنرال هنري غورو قائد قوات الشرق، وأحد أهم مناصري نظرية الحرب حتى الإبادة، قد تفرغ للعرب بعد توقيع الهدنة مع مصطفى كمال في تركيا.
ومع إعلان فرنسا تعزيز قواتها في جيش الشرق بثلاثين ألف مقاتل، أرسل الملك فيصل نوري السعيد إلى بيروت لتلمس نوايا غورو.
وفي 14 يوليو/ تموز 1929، سلمه غورو مذكرة صارت تعرف بـ"إنذار غورو"، وفيها أمر للملك فيصل بتسليم سوريا رسميًا إلى الانتداب الفرنسي وحل الجيش العربي.
وأشار فيصل بشأن المذكرة، إلى أنه "بالرغم من لهجة غورو القاسية في إنذاره غير المشروع فقد بذلت كل جهد لأقنع حكومتي بالموافقة عليه، فقد كنت أعرف أن رفضه سيؤدي حتمًا إلى مصيبة".
ويتحدث خالد زيادة، مدير فرع المركز العربي للأبحاث في بيروت، عن ضغوط إنكليزية من جهة لكي يفاوض فيصل الفرنسيين، وكذلك الضغوط الفرنسية العسكرية.
ويقول إن فيصل أرسل في هذه الأثناء المفاوضين إلى الجنرال غورو لكن كما يقال: سبق السيف العذل، بمعنى أنه لم يكن قادرًا على تحقيق أي جزء من المطالب التي رفعها.
ويشير إلى أن الفرنسيين أعطوا الأمير فيصل مهلة تصل إلى 48 ساعة لكي يرضخ لمطالبهم، ووقعت بعد ذلك معركة ميسلون الشهيرة.
أمل الاستقلال يلفظ أنفاسه الأخيرة
في 24 يوليو 1920، اجتمعت القوات المتبقية من الجيش العربي في وادي ميسلون بقيادة يوسف العظمة لمواجهة الفرنسيين.
ومن مشارف قرية الهامة، وقف الملك فيصل ليشاهد الأمل بالاستقلال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. وبينما كانت القوات الفرنسية تدخل دمشق بطريقة استعراضية، خرج فيصل إلى الكسوة حيث استقبله الناس فاتحًا قبل سنتين.
وبعد يومين من اللقاءات بحثًا عن حل أخير مع الفرنسيين، جاءه الكولونيل تولا ليبلغه برسالة من غورو؛ يطلب إليه فيها مغادرة دمشق مع عائلته ومرافقيه بأسرع وقت ممكن وعبر سكة حديد الحجاز.
غادر الملك فيصل دمشق مع عدد من رفاقه متجهًا إلى درعا، واجتمع بقيادات عشائرية دعته إلى بدء حرب جديدة ضد فرنسا، إلا أن الملك آثر تجنيب البلاد ويلات حرب غير متكافئة مع الفرنسيين، فتوجه إلى حيفا في طريقه للإبحار إلى أوروبا.
وكان آخر ما خاطب به الناس قبل رحيله عن سوريا إلى الأبد: أنا مغادر الآن، ولا أدري أين سأتجه، شرقًا أو غربًا، لقد طلبت الدعم من الناس مرات عديدة ولكنهم قالوا إنني أسعى للمناصب، وأعقد الاتفاقيات السرية. طلبت منهم أن يثقوا بي وأن يطيعوني لكي أجد الطريق الصحيح، ولكن لم أجد أحدًا مهتمًا".
وأردف: "عندما رأيت الخطر بعيني وأشرت إلى أنه يجب علينا أن نبني سياسة من الحكمة والتحديث لم يستمع أحد. وذهبت آرائي كلها أدراج الرياح. وعلى الله الخلف".
ويعتبر زيادة أن "تجربة الحكومة العربية في دمشق خلال أقل من سنتين، هي تجربة أولى وهامة من حيث المستقبل، لافتًا إلى أنها أسست لفكرة وحدة العرب.
ويشير إلى أنها "تختصر ليس فقط الواقع العربي عام 1920، بل أيضًا التاريخ العربي الممتد حتى يومنا هذا".
ثورة 30 يونيو 1920 في العراق
من ناحيته، كان العراق لقرون طويلة مسرحًا للكثير من الصراعات التي مزقت وحدته. فمن حملات المغول المدمرة إلى المد والجزر المتكرر والعنيف بين الصفويين والعثمانيين، فقدت مدنه ازدهارها وساد الصراع بين عشائره وأطيافه.
والعراق كان مع اندلاع الحرب العالمية الأولى ساحة مواجهة عنيفة بين العثمانيين والإنكليز. وسقطت بغداد عام 1917 بيد البريطانيين، ونصبت المشانق فيها.
وبعد انتهاء الحرب فرض الانتداب البريطاني على العراق، فتوالت اجتماعات العشائر الرافضة له وتشكلت الوفود للمطالبة بمنح البلاد استقلالها.
ومع تجاهل البريطانيين لهذه المطالب، اشتعلت الثورة في 30 يونيو/ حزيران عام 1920، فبدأت عمليات اغتيال ضباط الإنكليز، وحوصرت الحاميات العسكرية وعمت الثورة أرجاء العراق.
وكان من نتائج ثورة العشرين أن بحثت إنكلترا عن نمط حكم جديد يكون أكثر قبولًا لدى العراقيين، فرأت في اعتلاء فيصل عرش العراق فرصة للتهدئة وأرادت تقديم سلطة إنكليزية بوجه عربي.
ويلفت إبراهيم خليل العلاف، الكاتب والمؤلف والمؤرخ العراقي، إلى أن الملك فيصل كان يدعم نضال العراقيين من أجل التحرر والتخلص من الاستعمار البريطاني، مشددًا على أن الثورة العراقية الكبرى ثورة وطنية عراقية اشترك فيها العرب والأكراد والتركمان وكل العراقيين.
ويتحدث عن تشكل قوات تسمى قوات الدفاع العربي الوطني، كانت بقيادة جميل المدفعي، الذي أصبح في ما بعد رئيسًا للوزراء بعد تشكيل الدولة العراقية الحديثة.
"أقبل بشرطين: الاستقلال وإلغاء الانتداب"
في مارس 1921، عقد مؤتمر القاهرة بحضور وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل واتفق المشاركون على تنصيب فيصل ابن الحسين ملكًا على العراق بعد إجراء استفتاء شعبي.
وكان البريطانيون يأملون أن يؤدي هذا إلى إنهاء الثورة، إلا أن فيصل صرح قائلًا: إنني لا أقبل أن أكون ملكًا على العراق إلا بشرطين: استقلال البلاد وإلغاء الانتداب.
وعد الإنكليز الملك فيصل بتحقيق مطالبه، لكن ذلك كان بداية مسلسل جديد من المماطلات.
المؤتمن على سر الملك فيصل.. تعرفوا على المفكر العربي #ساطع_الحصري 👇 #مذكرات pic.twitter.com/yzoRW1kV4P
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) May 27, 2022
ويلفت العلاف إلى أن مؤتمر القاهرة، وكان للدبلوماسيين البريطانيين في الشرق الأوسط، التقى مع مصالح العراقيين في أن يكون فيصل ملكًا على العراق، حيث تم اختياره من بين مجموعة من المرشحين لعرش البلاد.
في 23 أغسطس/ آب عام 1921، نصب فيصل ملكًا على العراق بعد استفتاء شعبي، وتزين مجمع السراي الحكومي في بغداد للاحتفال بولادة المملكة العراقية.
وقال فيصل حينها: أتقدم إلى الشعب العراقي الكريم بالشكر الخاص على مبايعته إياي مبايعة حرة دلت على محبته لي وثقته بي. وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا لإعلاء شأن هذا الوطن العزيز، وهذه الأمة النجيبة لتستعيد مجدها الغابر."
أي سياسة انتهجها فيصل مع البريطانيين في العراق، وكيف علق تشيرشل عليها، وكيف حاولت بريطانيا إضعاف الحكومة العراقية؟ الإجابات وتفاصيل أخرى عن تلك الحقبة في الحلقة المرفقة من مذكرات الملك فيصل بن الحسين.