يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي إصدار أوامر الإخلاء للسكان في قطاع غزة، حيث ارتفعت وتيرة تلك التحذيرات بشكل كبير منذ بدء العملية البرية في رفح في مايو/ أيار الماضي.
ويحرص الاحتلال في كل أمرِ إخلاءٍ على دفع النازحين نحو ما يسميه بـ"المنطقة الإنسانية الآمنة"، الممتدة من دير البلح شمالًا وحتى المواصي جنوبًا.
لكن أوامر الإخلاء تنطوي على مخطط أكبر لإجبار سكان غزة على النزوح في أضيق منطقة ممكنة باتجاه البحر.
وعليه، قام التلفزيون العربي بتتبع أوامر الإخلاء منذ بداية مايو وحتى الآن، وحلل خرائط ومقاطع فيديو توثق موجات النزوح في شمالي وجنوبي القطاع.
التدقيق بأوامر الإخلاء
وفي التفاصيل، فمنذ بدء العملية البرية في رفح ازدادت وتيرة النزوح وأوامر إخلاء السكان وتوجيههم نحو ما يسمّيه الاحتلال المنطقة الإنسانية الآمنة.
وتتبعت وحدة التحقق من خلال المصادر المفتوحة في التلفزيون العربي أوامر الإخلاء منذ بداية مايو/ الماضي وكشفت عن طبيعة هذه المنطقة إنسانيًا وبيئيًا وأمنيًا، لتوثّق مخطط الاحتلال من وراء عملية النزوح.
وبدأ الفريق في شمال القطاع وتحديدًا بين 11 مايو/ أيار الماضي وحتى 7 أغسطس/ آب الحالي، حيث رصد أوامر من جيش الاحتلال لدفع المواطنين باتجاه المنطقة الآمنة المزعومة.
ومن خلال مطابقة هذه المناطق التي أمر الاحتلال بإخلائها مع خريطة القطاع عن طريق برنامج QGIS المتخصّص في تحليل المعلومات الجغرافية، يتّضح أنّ المنطقة المعنيّة بالإخلاء تبلغ 33 كيلومترًا مربعًا وهو ما يمثل 9% من مساحة القطاع.
أما جنوبًا وفي الفترة الزمنية نفسها تقريبًا، نشر الناطق الرسمي باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي أيضًا توجيهات للمواطنين بالإخلاء نحو الساحل الغربي، الذي أطلق عليه مجدّدًا صفة "المنطقة الآمنة".
هذه المناطق التي تمّ إخلاؤها جنوبًا تبلغ 129.8 كيلومتر مربع، وهو ما يمثّل 35% من مساحة القطاع.
وبالتالي فإن المساحات التي أمر الاحتلال بإخلائها جنوبًا وشمالاً تشكّل مجتمعة حوالي 163 كيلومترًا مربعًا، وهو ما يمثل 44.65% من مساحة القطاع.
ولكن هل يلجأ الفلسطينيون فعلاً إلى ما يسمّى بالمنطقة الآمنة؟
تتبع موجات النزوح
إجابة على هذا السؤال، رصد التلفزيون العربي عددًا من المقاطع التي نشرتها وسائل الإعلام والنشطاء المحليون، والتي توثّق بدورها موجات النزوح من خانيونس، ومن بينها مقطع نُشر في بداية شهر يوليو/ تموز الماضي عبر قناة فرانس برس العربية.
ومن خلال التدقيق في المعالم، تمكن فريق التحقيق في "العربي" من تحديد الموقع الجغرافي للمقطع الذي يعود إلى محيط المستشفى الأوروبي، وتحديدًا عند الإحداثيات التي تظهر في الصورة أدناه.
كما يظهر في المقطع المصور مجموعة من الأهالي على طريق شارع صلاح الدين شرق خانيونس، وهم يتوجهون ناحية الغرب بحسب مسار سياراتهم.
وفي حي الشجاعية وثقت كاميرات الإعلام أيضًا موجة النزوح في يوليو الماضي، ومن خلال التدقيق في معالم فيديو نشره الصحافي الفلسطيني الميداني عبد القادر الصباح، تمكن فريقنا من تحديد الموقع عند الطريق المحاذي لملعب اليرموك.
كذلك تظهر مقاطع الفيديو أن اتجاه حركة النزوح من ملعب اليرموك شرقًا وإلى جهة غرب غزة أي باتجاه الساحل، وهو الاتجاه الذي يتناسب مع أوامر جيش الاحتلال بسلوك الممرات الآمنة.
ومن بينها طريق الرشيد الموازي للبحر غرب القطاع ويسلكه السكان من أجل الوصول للمنطقة الآمنة بحسب رواية الاحتلال، وبالتالي فالنازحون توجهوا بالفعل إلى المنطقة الآمنة المذكورة.
حقيقة "المناطق الآمنة"
وتشمل هذه المنطقة أجزاء من مدينة دير البلح ومواصي خانيونس قبالة ساحل البحر، في حين تحدّها من جهة الجنوب مدينة رفح التي جرى اقتحامها من طرف الجيش الإسرائيلي منذ مايو الماضي.
وتبعد المنطقة الآمنة عن محور "نتساريم" 7 كيلومترات فقط، وهو المحور الذي يفصل شمال القطاع عن جنوبه ويضمّ تمركزات للجيش الإسرائيلي، ويشهد مواجهات حادة بين جيش الاحتلال وعناصر المقاومة الفلسطينية.
كما تبلغ المساحة الإجمالية لهذه المنطقة بحسب الاحتلال 60 كيلومترًا مربعًا، أي ما يعادل 18% من مساحة القطاع.
وهذه المساحة تقلصت مجددًا مع إعلان أدرعي في 22 يوليو الماضي عن اعتبار الأجزاء الشرقية من المنطقة، أي تلك التي تشمل أغلب مدينة خانيونس، منطقة عسكرية يجب على سكانها إخلاؤها.
هذه المساحة تبلغ بحسب صور الأقمار الصناعية حوالي 10 كيلومتر مربع، لتصبح بالتالي المساحة الإجمالية للمنطقة الآمنة 50 كيلومترًا مربعًا فقط.
وعليه، تكون هذه المنطقة محاصرة شمالًا من محور "نتساريم" وجنوبًا من قوات الاحتلال على طول محور فيلادلفيا وشرقًا من المنطقة التي اعتبرها الاحتلال منطقة عمليات عسكرية، إلى جانب البحر من ناحية الغرب.
كما أنها لم تسلم من استهدافات الاحتلال بحسب ما وثّقه التلفزيون العربي في تحقيقاته السابقة، وبالتالي فإنّها لا تُعتبَر منطقة آمنة كما يروّج لها الاحتلال.
توثيق ظروف النزوح
وبحسب تقرير لصحيفة "تايمز أوف إسرائيل" يرتكن إلى تقديرات جيش الاحتلال، فإنّ عدد النازحين إلى المنطقة التي حدد التحقيق مساحتها بـ50 كيلومترًا مربعًا بلغ 1.9 مليون نازح، وهو نفس العدد الإجمالي الذي قدرته الأمم المتحدة للنازحين داخل القطاع منذ السابع من أكتوبر.
وإذا اعتمدنا على هذا الرقم فيمكن الاستنتاج أنّ الكثافة السكانية في تلك المنطقة تصل إلى 38 ألف نسمة لكلّ 1 كيلومتر مربع، وهو المعدل الذي يتجاوز بنسبة كبيرة أعلى معدل كثافة في العالم في سنة 2024، والمسجّل في ماكو وهو بلد صغير بجوار الصين.
أما الحالة التي أصبحت عليها منطقة النزوح في غزة، ينطبق عليها مصطلح الإفراط أو الاكتظاظ السكاني، وهو مصطلح تستخدمه لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "الإسكوا".
يضاف إلى ذلك، الظروف الإنسانية القاسية التي يعيشها النازحون هناك مثل انعدام المياه في منطقة مواصي خانيونس وارتفاع درجات الحرارة وتفاقم مشاكل غياب البنية التحتية المتعلقة بالصرف الصحي والمخلّفات، ممّا دفع الأمم المتحدة ووكالة "الأونروا" إلى التحذير من أزمة بيئية وصحية ووضع إنساني كارثي.
هذا ورصدت كاميرات التلفزيون العربي كيف حاصرت مياه الصرف الصحي بيوت الأهالي وخيام النازحين في مدينة خانيونس، مما ينذر بكارثة بيئية وصحية.
هذه المؤشرات التي قدّمها تقرير "العربي" للوضع الأمني والإنساني للمنطقة الآمنة المزعومة، تشير بشكل واضح إلى أن صورة النزوح الإنساني التي يصدّرها الاحتلال للعالم ما هي إلا تمويه على إبادة بدون رصاص.