ضاعت خلال أيام قليلة كل الجهود التي بُذلت على مدى السنوات السابقة لترميم العلاقة المتوترة أصلًا بين ألبان وصرب كوسوفو.
وقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن علاقات الطرفين أسيرة لإرث من العداء والاقتتال يتمثل في وجوه مختلفة؛ الأمر الذي دفع قوات حفظ السلام التابعة لحلف الناتو في كوسوفو إلى أن تصف الموقف بالخطير جدًا.
وتشهد شوارع البلديات الشمالية في الأثناء مظاهر احتجاج متواصل من قبل الصرب، مبدين اعتراضهم على تسلّم رؤساء بلديات ألبان مناصبهم.
يأتي ذلك فيما تنتشر روايات على ألسنة مواطنين حول ما يصفونه بعنف العصابات الصربية ضد الشرطة وقوات حفظ السلام، على حد سواء.
وحتى اللحظة، ترفض حكومة كوسوفو التراجع عن موقفها وتغيير مزاجها تجاه الصرب في مناطق الشمال، لا سيما ما يرتبط بالعلاقة مع صربيا من منطلق معارضتها عدم التدحرج نحو تحويل الشمال إلى ما يشبه قطعة تحكمها قوة ثنائية بين بريشتينا وبلغراد.
ويبرر ما تقدم عناد حكومة كوسوفو ورفضها تنظيم أي استحقاق انتخابي صربي في أراضي الشمال، لتزداد في المقابل حدة العنف لدى الصرب وتصبح عادة العصيان المدني مزمنة.
وهذه الأخيرة تتشكل بصورة مظاهر العداء والكراهية، مع تأكيد على الاستمرار في عدم الالتفات إلى أي تعليمات من سلطات حكومة كوسوفو في المناطق الشمالية.
"لا بد من الحوار"
لكن مهندسي مشروع تطبيع العلاقات بين الجارين يقولون إنه لا بد من الحوار.
الأوروبيون، الذين يفترض أن يكونوا في المشهد حلفاء لكوسوفو، غيروا لهجتهم أخيرًا، وإن كانت التقارير الرسمية وصفتها بمعاتبة حلفاء، لا سيما بعدما ألقى عدد من القادة الأوروبيين باللائمة على كوسوفو في ما حصل أواخر مايو/ أيار الماضي.
ارتفاع مستوى التوتر بين #كوسوفو و #صربيا وسط تحذيرات من صدام وشيك#للخبر_بقية pic.twitter.com/4FODL3Aesi
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) June 2, 2023
غير أن ذلك لا يغيّر من حقيقة أن الأوروبيين مطالبون في هذه المرحلة بإثبات قدرتهم على الإقناع وتمرير خطتهم للتطبيع لاستبقاء أي مواجهة عسكرية محتملة والخضوع ربما للدخول في حسابات كبرى، تبدأ هناك في شمال كوسوفو وتنتهي في شرق أوكرانيا، حيث الروس المؤيدون لصربيا المتعطشة بلا شك لنصر روسي والانقضاض على خصومهم في البلقان.
"عصابات أُدخلت لإحداث الفساد"
تشير الصحافية والباحثة السياسية إيلير زجمي، إلى أن التوترات تفاقمت في الأسبوع الماضي لأن السكان في شمال كوسوفو لم يوافقوا على نتائج الانتخابات التي أُجريت بشكل شفاف جدًا من قبل كوسوفو، فيما تمت مقاطعتها من بعض المجموعات الصربية.
وتقول في حديثها إلى "العربي" من بريشتينا، إن العنف تصاعد نهار الجمعة حين تم جرح جنود تابعين لحلف شمال الأطلسي.
وتضيف: "ربما كانت كل تلك التوترات بسبب بعض المجموعات من العصابات التي أُدخلت إلى أراضي كوسوفو لإحداث الفساد".
وتذكر بأن العلاقة مع صربيا لم تكن جيدة منذ أكثر من 24 عامًا، لأنها لا تودّ أن تعترف باستقلال كوسوفو.
وفيما تؤكد أن كوسوفو تتمتع بحلف قوي مع الولايات المتحدة والدول الغربية، تقول إن واشنطن لن تترك كوسوفو من منطلق إستراتيجي لكي تُستغل من قبل روسيا.
"إمكانيات واسعة لتهدئة هذا النزاع"
ويرى الأكاديمي والباحث في العلاقات الدولية جان بيار ميليلي، أن أوروبا لديها إمكانيات واسعة لتهدئة هذا النزاع.
لكنه يذكر في حديثه إلى "العربي" من باريس، بالجانب المحلي حيث الأقلية الصربية ضمن كوسوفو والمجاورة لصربيا، وكذلك برغبة هذه الأخيرة في الدخول إلى الاتحاد الأوروبي منذ 9 سنوات تقريبًا، وبنزاع روسيا والغرب على أوكرانيا والتحالف التقليدي لروسيا مع الصرب.
ويلفت إلى أن الحرب العالمية الأولى اندلعت بسبب قتل الوطنيين الصربيين ولي عهد النمسا، حيث دخلت روسيا على الأثر الحرب إلى جانب إنكلترا وفرنسا ضد ألمانيا والنمسا، مؤكدًا أن التضامن الروسي الصربي عريق.
ويذكر بأن "منطقة كوسوفو بالنسبة للصرب تُعد منطقة عزيزة لأسباب تاريخية وعاطفية، وبأن الدستور الصربي يعتقد أن كوسوفو جزء من صربيا".
كما يشير إلى أن كوسوفو استقلت منذ مدة طويلة بعد أحداث دامية في نهاية القرن الماضي، مع قمع صربيا من قبل قوات الناتو.
ويعتبر أن رغبة صربيا في الدخول إلى الاتحاد الأوروبي هي مفتاح الحل لدى الأوروبيين.
"محاولات الظهور بالموقف المحايد"
من جانبه، يلفت الباحث في العلاقات الدولية والخبير في شؤون القوقاز باسل الحاج جاسم، إلى أن الحدث ما كان ليأخذ كل هذا البعد الإعلامي أو السياسي لولا وجود عوامل منها داخلية وأخرى خارجية.
ويقول في حديثه إلى "العربي" من لاهاي: إن صربيا لا تعترف حتى اليوم بكوسوفو على الرغم من إعلان استقلالها عام 2008 واعتراف قرابة 117 دولة بها.
ويرى أن عدم الاعتراف هذا يجعل كوسوفو في حالة من عدم الاستقرار ويهدد بتآكلها، مشيرًا إلى الشرط الذي وضعه الاتحاد الأوروبي على كوسوفو لتسوية الأزمة المتعلقة باتحاد جمعية البلديات، والخشية من أن يتحول إلى بداية للمطالبة بحكم ذاتي.
ويتطرق إلى الإرث الدموي الثقيل الذي يلقي بظلاله على أي حدث، ويقول: إن صربيا تدرك أن أي تطبيق لآليات الدولة في كوسوفو على صربها، يعني فقدان تأثيرها ونفوذها عليهم، ويدفعها أكثر فأكثر إلى الاعتراف باستقلال كوسوفو.
وبالحديث عن المستوى الخارجي، يرى أن الأمر متعلق بانعكاس للصراع الدولي الذي يمر من موسكو حتى بكين مرورًا ببروكسل وصولًا إلى واشنطن.
ويتوقف عند محاولات الاتحاد الأوروبي وواشنطن الظهور بموقف المحايد، فيقول إن هناك لومًا على بريشتينا واستبعادًا لها من مناورات.
ويضيف أن واشنطن كما يتضح تدرك أنها ليست في وضع التسعينيات حيث كانت قادرة على السيطرة على كامل منطقة البلقان، فاليوم أي فوضى صغيرة لا يمكن لأحد التكهن إلى أين يمكن أن تتجه الأمور.