مرّ نحو ربع قرن على أحداث البصرة، التي مثّلت تهديدًا وجوديًا لنظام الرئيس الراحل صدام حسين، بعد مقتل المرجع الشيعي محمد صادق الصدر.
في تلك الأثناء كان العراق قد شهد بعد حرب الخليج الثانية ترديًا في الأوضاع الاقتصادية نتيجة الحصار الخانق، واعترف النظام بالصدر ممثلًا عن الشيعة، بعدما شغل منصب آية الله العظمى وتصدّر المشهد آنذاك.
واغتيل الصدر وولداه برصاص مجهولين في 19 فبراير/ شباط 1999، ما أشعل الاحتجاجات ضد النظام في عموم البصرة.
سبقت الاحتجاجات مرحلة لتجميع السلاح والتدرّب عليه، وحُددت ساعة الصفر للانطلاق في ما عُرف لاحقًا بـ"انتفاضة البصرة"، التي بقيت طي النسيان حتى سقوط النظام عام 2003.
ففي 17 مارس/ آذار 1999، شن آلاف المحتجين المسلحين هجومًا على مسؤولين ومقرات حكومية في المدينة.
وفي حين استمرت المواجهات عدة أيام بين المحتجين المسلحين والقوات العراقية، أحكمت القوات العراقية سيطرتها على المدينة، ونفذت إعدامات واعتقالات بحق المشتبه بهم.
بعد سقوط نظام صدام حسين، تمت محاكمة عدد من المسؤولين العراقيين، وصدرت بحقهم أحكام بالإعدام.
فكيف بدا المشهد في تسعينيات القرن الماضي؟
تلقى الصدر مباركة النظام عند تنصيبه أوائل التسعينيات، قبل توتر العلاقة بين الطرفين وقيام الصدر بارتداء الكفن وأداء صلاة الجمعة ومطالبته بإخراج المعتقلين.
ويشير صالح الجيزاني، وهو أحد قياديي المتظاهرين، إلى ما أُشيع من حيث أن صدام حسين جاء عام 1993 برجل حوزة من قِبله، واضعًا مرجعية عراقية تتبع له.
وفيما يُذكّر بأن الشعب العراقي كان رافضًا للنظام البعثي والسياسي، يتحدث عن نية في ذلك الحين لضرب السيد الصدر عبر هذه الشائعات، ووأد حركته في بداياته.
ويلفت إلى أن الصدر راح في أواخر مرجعيته يتكلم مع النظام بالمباشر، بينما يوضح أنه لم يكن يجوز لأحد أن يشاهد في المنام أنه يعترض على صدام.
ويستذكر كيف بلغت المواجهة ذروتها، فقال الصدر في الاجتماع الأخير مع أئمة الجمعة: "نحن في منطقة الحرام، فلا تفكروا بالتراجع"، كاشفًا أن الصدر أذن له بأن يستخدم خُمس زكاة الفطرة في شراء السلاح.
وعقب اغتيال الصدر، يشير إلى أنه تم تهدئة الشباب بانتظار الحكم الشرعي، ثم بمجيء الفتوى من كاظم الحائري في إيران بأن "قاتلوهم، لاحقوهم لا تبقوا لهم باقية"، بدأ التخطيط لساعة الصفر.
انطلقت الاحتجاجات حينها، وتشير أم جعفر، وهي شقيقة لثلاثة ممن سقطوا خلال الاحتجاجات، إلى أن أخاها عاد إلى المنزل مرهقًا وشاحب الوجه. وتردف بأنها سألته أين كان، فأعلمها بأنه كان في الانتفاضة.
وتشرح أنه بمضي دقائق دُق الباب، وبالخروج إلى الشارع، "وجدنا أنه كان ممتلئًا بأعضاء حزب البعث وقوات الأمن"، لافتة إلى أن "أزلام صدام قبالتهم كانوا قد أبلغوا عنه".
وبينما تتحدث عن اعتقال أخيها وابنها في الوقت عينه، وانهيارها بالبكاء، تستذكر كيف علمت بمصيره.
وكانت قوات النظام قد ردّت حينها باعتقال كل المشتبه بمشاركتهم في الأحداث، وفرضت عقابًا جماعيًا يقضي بتدمير بيوتهم وتشريد عائلاتهم.
وفيما استطاعت إخماد الاحتجاجات بعد نفاد الذخيرة وعدم وصول إمدادات الأسلحة للمشاركين، أشارت تقارير صحافية إلى أن عدد قتلى النظام قُدر بأربعين شخصًا.
اعتقالات وهدم بيوت
ويلفت محمد الموسوي، أحد المشاركين في الاحتجاجات، إلى أن الأجهزة الأمنية الصدامية والأجهزة الحزبية تمكنت من السيطرة على المدينة من جديد بسبب التفوّق العددي والتسلح، مستذكرًا إلقاء القبض على الكثير من الشباب من جانب الفرق المكلفة باعتقال الثائرين.
وبينما يشير في حديثه إلى "العربي"، إلى أن عمليات الاعتقال استمرت لأيام ورافقها هدم بيوت المعتقلين، يقول إنه تم هدم 166 بيتًا في البصرة في غضون أسبوع واحد.
ويمر على تجربة الاعتقال، فيشرح أن أساليب التعذيب كانت مختلفة، وكان من بينها التجويع واستخدام الكهرباء.
ويستذكر يومه الأخير في الاعتقال، فيكشف أن تلك الليلة كانت الأسوأ، حيث تم تركه وآخرين إلى جانب سجن النساء.
كما يكشف أنه شاهد يومها أطفالًا وسمع أصوات النساء. وبينما يروي أنه تم استدعاء إحداهن للتحقيق، يؤكد أن صوت استغاثتها ما زال يرن في أذنه ويؤرقه.
"بعيدة كل البعد عن الاستهداف"
عندما سقط نظام صدام حسين عام 2003، أكد الرئيس العراقي الراحل خلال محاكمته عدم صلته بمقتل الصدر.
وفي حين وجدت عائلات الضحايا مقابر جماعية لإعدامات نفذت بعد الانتفاضة قُدر عددها بأكثر من 120، وفق تقرير صادر عن "هيومن رايتس ووتش"، حُكم بإعدام سبعة مسؤولين بينهم علي حسن المجيد.
إلى ذلك، يؤكد الكاتب والمحلل السياسي عبد الأمير طارق، أن القيادة العراقية بعيدة كل البعد عن استهداف السيد الصدر.
وفيما يذكر في حديث إلى "العربي"، أن "خروج أي شخص على أي نظام هو خيانة للبلد، ولا سيما عندما يكون هذا الشخص مدعومًا من جهة خارجية"، يقول: "عندنا قرار، هذه خيانة، وحكمها الإعدام".
ويضيف: "ثم أنت تأتي إلى مكاني لمواجهتي، فهل تريد أن أرمي عليك وردًا؟ بل أرد عليك بالتأكيد بالطريقة التي تتعامل بها. وهذا حق طبيعي لأي نظام".
مزيد من الشهادات عن انتفاضة البصرة عام 1999، وماذا قيل عن دور إيران فيها، تجدونها في الحلقة المرفقة من برنامج "كنت هناك" على شاشة "العربي أخبار".