ربما تلخّص جملة "حضر المقاتلون وغاب التوثيق" واقع مشاركة العرب في الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي فتح المجال أمام سرديات مختلفة تناول بعضها الحرب من وجهة سياسية غير تأريخية.
ويفرق المؤرخ المصري صلاح العقاد في كتابه "العرب والحرب العالمية الثانية" بين 4 مجموعات من الأقطار العربية في وقت اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939.
تشمل المجموعة الأولى العراق ومصر، والثانية فلسطين وشرق الأردن وسوريا ولبنان، والثالثة شبه الجزيرة العربية، والرابعة دول المغرب العربي.
ويرى العقاد أن أسبابًا سياسية مختلفة دفعت دول المجموعات الأولى والثانية والرابعة للحرب في صفوف القوات البريطانية والفرنسية.
يذكر من بين هذه الأسباب معاهدات التحالف بين دول المجموعة الأولى وبريطانيا، واستفادة الحركة الوطنية في سوريا ولبنان من الصراع بين بريطانيا وحكومة فيشي ثم بين حكومة فرنسا الحرة وبريطانيا، ورهانات الجزائر والمغرب وتونس على استقلالهم مقابل الحرب مع الفرنسيين.
أما شبه الجزيرة العربية، فقد كانت بعيدة عن ميادين القتال رغم النفوذ الإيطالي في اليمن والبريطاني في السعودية.
وقد استمرت هذه السردية في تشكيل صورة العرب في الحرب العالمية الثانية، إلى أن واجهت نقدًا صارمًا في الألفية الجديدة، وما زالت الدراسات التاريخية الحديثة تكشف عن المزيد من وجوه هذه الحرب ودور العرب فيها.
فإلى أي مدى كانت مشاركة العرب في الحرب العالمية الثانية فاعلة في تحقيق النصر وتحرير أوروبا من النازية، ولماذا أخرج العرب من تاريخ النصر وأُدخلوا تاريخ الهزيمة، فركزت كثير من الروايات على مشاركتهم إلى جانب ألمانيا النازية؟
"مشاركة حقيقة وفعالة ومميزة"
تلفت الباحثة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عائشة البصري، إلى أن الأرقام تفيد بكل وضوح أن مشاركة العرب في الحرب العالمية الثانية كانت حقيقة وفعالة ومميزة.
وتتحدث في إطلالتها من إستديوهات "العربي" في لوسيل، عن عدة أسباب وراء التجنيد للحرب العالمية الثانية، مشيرة إلى أن من الجنود من فضلوا الانضمام إلى الجيش بسبب الظروف الاقتصادية والمعيشية القاهرة في ظل الاستعمار، حيث عدوا الالتحاق بالجيش فرصة ترقية اجتماعية.
وتبيّن أنه على مستوى الدول كانت الحالة العراقية استثناء، شارحة أن حالة ثورة الكيلاني ضد البريطانيين كانت استثناء ولم تدم إلا شهرًا واحدًا. وذكرت بأنه تم القضاء عليها من طرف كل من البريطانيين والقوات العراقية والهاشمية.
وترى أن المشاركة العربية في تلك الفترة كانت قراءة صائبة لعلاقة القوة، وقراءة متأنية لمن يمكن أن ينتصر.
إلى ذلك، تتوقف عند التقليل من شأن هذه المشاركة العربية بدعوى أنها كانت مجبرة، مبينة أن جل الجيوش التي شاركت في الحرب كان التجنيد فيها إجباريًا؛ سواء أتعلق الأمر ببريطانيا أو الولايات المتحدة أو ألمانيا أو الاتحاد السوفيتي، حيث كانت هذه الشعوب مجندة تجنيدًا إجباريًا.
وتشير إلى أن أكبر مشاركة طوعية كانت من الجيش الهندي، الذي شكل المسلمون فيه الثلث تقريبًا.
والبصري التي تقول إن تأريخ الحرب العالمية الثانية كان تأريخًا كولونياليًا، تلفت إلى أن من كتبه هم الأميركيون والبريطانيون بشكل أول.
وتوضح أن هذه الدول قالت إن الحرب تم خوضها من طرف الإمبراطوريات، وقدّمت الشعوب في هذه الإمبراطوريات الخاضعة للاستعمار على أنها شعوب مستعمرة وتابعة، ونسبت بالتالي إلى نفسها كل الإنجازات.
وتشرح أن هذا الموقف تم تبنيه من طرف النخب العربية والمؤرخين، الذين نظروا أيضًا إلى الدور العربي بشكل تحقيري نوعًا ما، فاعتبروا هذه الحرب غربية غريبة وأقحمنا فيها، وأننا كنا مستعمرين ولم يكن لدينا خيار، وهذا أمر غير صحيح.
وكذلك تشير إلى الاهتمام في تلك الفترة بحروب التحرير ضد الاستعمار، حيث تم إيلاء الأهمية لهذه الحروب، وتم تهميش الحرب العالمية الثانية.
وتتحدث عن العامل الإيديولوجي الصهيوني، الذي سخّر آلة لتهميش الدول العربية لشيطنة العرب والفلسطينيين، وجعلهم في دور العربي الشرير الذي تحالف مع النازية ضد اليهود.
"معظم القيادات الفلسطينية هبّت منذ بداية الحرب"
بدوره، يوضح المحاضر في قسم التاريخ في أكاديمية تل حاي مصطفى العباسي، أن الدافع لمشاركة العرب في الحرب العالمية الثانية كان من خلال القناعات العربية والقيادات العربية في ذلك الوقت، والتي رفضت الفكر النازي الفاشي، الذي صنف العرب أيضًا في خانة الشعوب السامية غير المتطورة.
ويقول في حديثه إلى "العربي" من الناصرة، "في بلادنا تطوّع عشرات آلاف الشباب دون إكراه أو إجبار في الجيش البريطاني.
ويلفت إلى أن معظم القيادات الفلسطينية من رؤساء بلديات وأعيان ونخب سياسية وقادة وتجار هبّوا منذ بداية الحرب، وانضموا في الأسبوع الثاني لإعلان الحرب بعشرات الآلاف إلى الجيش البريطاني.
ويذكر أنه تم تجنيد هؤلاء وتدريبهم في مصر، وانتقلوا من هناك إلى جبهات القتال في فرنسا وأوروبا، وأبلوا بلاء حسنًا وكان لهم دور فاعل ومؤثر في انتصار الحلفاء على دول المحور.
وبينما يشير إلى أن بريطانيا كانت قد وعدت العرب أيضًا خلال الحرب العالمية الأولى بكثير من الوعود من خلال مراسلات الحسين مكماهون، يقول: إن الشعوب العربية - مع وعود من دون وعود – أسهمت مساهمة فاعلة وقوية في هزيمة النازيين وحلفائهم.
ويؤكد أنه لا يمكن إغفال هذا الدور، معتبرًا أنه من المؤسف جدًا أنه عند الاحتفال بالنصر على النازية، لا يذكر دور الشعوب العربية تقريبًا.
كما يقول إنه رغم التضحيات وأعداد المتطوعين الكبيرة جدًا من أنحاء العالم العربي، سواء من المشرق أو من المغرب، لم يتم توثيق دور هؤلاء بشكل واضح.
ويشدد على دور الباحثين في توثيق ما حدث ونشر الأبحاث عن هذا الدور العربي، ولا سيما وأن الوثائق موجودة ومتوفرة، وكذلك في التصدي للرواية التي أخرجت العرب من الصورة وإظهار الدور الحقيقي الذي قاموا به.
ويؤكد ضرورة "المفاخرة بدور أجدادنا في هزيمة النازية والفكر النازي الشيطاني، الذي يعادي البشرية جمعاء".