اتخذت حكومة نتنياهو خيار شنّ حرب جديدة في المنطقة، مسرحها قطاع غزة في فلسطين حتى الآن، ردًا على عملية طوفان الأقصى، محدّدة هدفها بالقضاء على المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها كتائب عز الدين القسام الذراع العسكري لحركة حماس.
ويجمع المراقبون العسكريون والإستراتيجيون، أن هذا الهدف - إن أصرّ عليه الاحتلال الإسرائيلي - لا يمكن أن يتحقق إلا بالتوغل في أراضي القطاع من خلال عملية عسكرية برية، تتسع أو تضيق، بحسب الظروف الدولية والإقليمية وتقديرات صانع القرار الإسرائيلي.
تصور لسير العملية العسكرية البرية
وتتجلى مقدمات هذا السيناريو بحملة القصف المكثفة التي تشنّها الآلة العسكرية على مناطق واسعة من غزة. ففي الأيام العشرة الأولى فقط من الحرب، أسقط جيش الاحتلال الإسرائيلي ما يعادل ربع قنبلة نووية، ما أحدث دمارًا هائلًا في البنية التحية والأحياء السكنية.
وقد تزامن ذلك مع حشد الاحتلال عشرات الآلاف من الجنود والدبابات والمدفعية والجرافات العسكرية، ونشرهم على طول الحدود مع غزة، ودعوة أهالي غزة إلى التوجه نحو جنوب القطاع المحاصر، في محاولة لإفراغ المناطق المستهدفة من السكان اعتقادًا بأن ذلك يمهد مسرح العمليات للعملية البرية.
ومع أن محاور التوغل ونقاط الاقتحام تبقى مرهونة بسرّية الخطط العسكرية، إلا أن الخبراء العسكريين يرسمون تصورًا لسير مثل هذه العملية إن حدثت مركزين على شمال القطاع.
وسيتعيّن على قوات الاحتلال المهاجِمة أن تنقل عناصرها عبر ناقلات جند مدرعة يعتقد أنها ستكون بشكل رئيسي من نوع نامر، وسيرافقها دبابات من طراز "ميركافا 4"، بينما ستتقدّم هذه القوات الجرافات العسكرية من طراز "دي 9 آر" المحصّنة ضد الأعيرة النارية ومضادات الدروع.
ويتوقع أن تزيل هذه الجرافات الألغام المزروعة في طريق الآليات العسكرية والعوائق التي تعترض طريقها، مع الثقوب في جدران المنازل إن استدعى القتال مع المقاومين من المسافة صفر وتمكين جنود الاحتلال الإسرائيلي من التنقل عبرها.
إلى ذلك، تفترض هذه العملية دعمًا جويًا بمقاتلات جيش الاحتلال، ولعل أبرزها طائرات "إف 16"، و"إف 15"، بالإضافة إلى"الهيلوكوبتر"، إذ يرجح أن تشارك في مثل هذه العملية كطائرات دعم للقوات المهاجمة إلى جانب المسيرات.
تحديات أمام الخطط الحربية
مع ذلك، يؤكد الخبراء العسكريون أن الخطط الحربية على الورق قد تعترضها عقبات عديدة تفرضها طبيعة الميدان العسكري وخريطته المتحولة والمتحركة على الدوام، فحساب الحقل يختلف عن حساب البيدر كما يقال في المثل الدارج.
وفي هذا الصدد، وجد معهد الحرب الحديثة في دراسة له حول التحديات التي تواجه جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة، أن تضاريس المدينة الكثيفة تفرض قيودًا على استخدام القدرات العسكرية التقليدية التي تنحصر مهمتها في عمليات التدمير دون حصد نتائج ملموسة على الأرض.
ولعل الأهم من ذلك كله التحديات التي يفرضها الخصم المقابل وما يخبئه للعدو المهاجم، لا سيما وأن المقاومة الفلسطينية كرّست جهودها على مدار أكثر من عقد تحضيرًا لمثل هذا السيناريو، وحضّرت الأرض وما تحتها لمواجهة كانت مؤجلة ومرتقبة في أي وقت.
وكانت إسرائيل اختبرت مقاومة شرسة في آخر توغل لها في القطاع عام 2014، عندما حشدت نحو 75 ألف جندي احتياط لدعم 3 فرق من الجيش، دون أن تحقق أيًا من أهدافها التي أعلنتها في عملية "الجرف الصامد".
ومنذ ذلك الحين، كان أمام حركات المقاومة الفلسطينية الوقت لبناء قدراتها للمواجهات المقبلة والاستعداد لجولات جديدة ليكون لديها خيارات وسيناريوهات تقارع بها أحد أكثر الجيوش تسليحًا وتطورًا على مستوى المنطقة والعالم. وقد كشفت المواجهة الأخيرة امتلاك المقاومة ترسانة كبيرة من الصواريخ تم تصنيع معظمها محليًا.
ففي معركة "الجرف الصامد"، أطلقت حركة حماس ما يُقدر بـ6 آلاف صاروخ نحو إسرائيل، بينما أطلقت في الأيام الثلاثة الأولى من معركة "طوفان الأقصى" نحو 4500 صاروخ بمدَيات مختلفة، وصلت مع "عياش 250" إلى شمال إسرائيل.
كما استطاعت المقاومة تطوير سلاح المسيّرات، التي دخلت بفعالية في المواجهة الجارية مع الإسرائيليين، ولعل هذا سيشكل تحديًا لم يتعامل معه الاحتلال الإسرائيلي سابقًا لما تحمله من قدرات قتالية وهجومية.
وفي المواجهة الجارية، أماطت حماس اللثام عن صواريخ دفاع جوية جديدة قد تشكل قلقًا حقيقيًا لسلاح الطيران الإسرائيلي.
الأنفاق التحدي الإستراتيجي الأكبر
وعلاوة على ما تقدم، يتمثل التحدي الإستراتيجي الأكبر، الذي سيعترض جيش الاحتلال الإسرائيلي في حال توغله بريًا في قطاع غزة، بشبكة الأنفاق التي بنتها المقاومة على مدار السنوات السابقة ولم تنجح معها كل المحاولات العسكرية والاستخباراتية لكشفها أو تدميرها.
فبحسب تقارير استخباراتية، قد تمتد أنفاق غزة لأميال بما يشبه مدينة موازية لغزة تحت الأرض.
ويُتوقع أن تستخدم المقاومة هذه الأنفاق في تكتيكات دفاعية لصد القوات المندفعة فوق الأرض ومشاغلتهم من أماكن مخفية ومحمية في الوقت نفسه، عبر استخدام الأسلحة الفردية كمضادات الدروع والقناصة.
كما تمتلك الأنفاق وظيفة تكتيكية هجومية إذ تؤمن تنقل أفراد المقاومة بين مواقع القتال، وتجنّب القوة النارية المباشرة، وتتيح إجراء مناورات التفافية للانقضاض على القوة المهاجمة إن كان على مستوى المدرعات أو القوات الراجلة.
إلى ذلك، تفرض حرب المدن تحديات أبعد من المستوى العملياتي لساحة المعركة، لا سيما إذا لجأ الاحتلال الإسرائيلي إلى سياسة الأرض المحروقة ذات التكلفة السياسية والأخلاقية العالية على مستوى الرأي العام العالمي، أو تعرّضت قواته البرية إلى خسائر جسيمة لا يمكن تحملها على المستوى المحلي، ما سيشكل ضغطًا على إسرائيل لوقف الحرب.
مع ذلك، يبقى أن الحروب وخططها محكّها الواقع ولا يمكن التكهن بنتائجها على نحو حاسم، نظرًا لكثرة مدخلاتها وتعقيد معادلاتها العملياتية وتأثّرها بالسياقات المحلية والإقليمية التي تدور في فلكها.
"قدرات المقاومة غير معروفة حتى الآن"
وفي حديثه لـ"العربي" من رام الله، يرى الخبير العسكري والاستراتيجي اللواء المتقاعد واصف عريقات، أن قدرات المقاومة غير معروفة حتى الآن.
ويستطرد بالقول: الإمكانيات موجودة في ما يتعلق بالسلاح، فهناك 500 ألف جندي بين نظامي واحتياطي، وطائرات ومدفعية ودبابات، لكن تحويل هذه الإمكانيات إلى قدرات عسكرية ميدانية أمر من الصعب على نتنياهو تقديره.
ويذكر عريقات بأن الحرب البرية يجب أن تتم الموافقة عليها على ثلاثة مستويات: الأول أميركي إسرائيلي، أي نتنياهو - بايدن، إلا أن الرئيس الأميركي أبدى تحفظات وكشف أن محادثاته مع رئيس الحكومة الإسرائيلية تناولت إيجاد بدائل عن الحرب البرية.
ويردف الخبير العسكري بالإشارة إلى أن بايدن يعرف أن الحرب البرية مكلفة وستكون خسارة لإسرائيل.
ويتابع بأن المستوى الثاني الذي يجب أن تتم فيه الموافقة على الحرب البرية هو نتنياهو وحكومته، مذكرًا بوجود تناقضات وخلافات بين الطرفين.
أما المستوى الثالث، والأهم بحسب عريقات، فهو العسكري. ويوضح الخبير العسكري والإستراتيجي أن لدى العسكريين الإسرائيليين 20 سؤالًا يجب أن يقدموا إجابات عليها لرفع تقدير موقف تعبوي للقيادة السياسية.
ويوضح أن من تلك الأسئلة: هل يستطيع الجيش الإسرائيلي الذي هُزم 10 آلاف من جنوده أمام 1200 مقاتل الذهاب نحو حرب برية؟ وهل تعافى الإخفاق الأمني والاستخباري مع بداية العملية في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وهل بات لديه الآن معلومات عن المقاومة الفلسطينية وقيادتها ومفاجآتها وقدراتها القتالية؟ وهل يعرف عن الأنفاق وكيف سيقاتل الجندي الإسرائيلي في الشوارع والمناطق المبنية في قطاع غزة؟