شكّل وضع حقوق الإنسان في جنوب إفريقيا والعنصرية التي عانى منها المواطنون السود تحت نظام الأبرتهايد، محور حديث المقرر الأممي الخاص السابق لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة جون دوغارد لبرنامج "وفي رواية أخرى".
وُلد جون دوغارد وعاش في جنوب إفريقيا في ظل نظامها العنصري، وشهد على مدى سنوات طويلة تجاوزات قانونية وجرائم إنسانية قرر على إثرها محاربة "الأبرتهايد" بالوسائل القانونية.
وقد ساهم نشاطه برفقة عدد كبير من المناضلين بطي صفحة الفصل العنصري التي خيّمت على مواطني البلاد الأصليين لعقود مظلمة عديدة.
ولم يكتف دوغارد بذلك، بل استخدم تجربته الغنية والناجحة تلك في مواجهة نظام عنصري آخر ونصرة شعب مظلوم آخر.
فمن خلال مهامه المختلفة في الأمم المتحدة وزياراته المتعددة للأراضي الفلسطينية المحتلة، كشف بالبرهان والدليل تطبيق سلطات الاحتلال الإسرائيلي نظام فصل عنصري مكتمل الأركان على الفلسطينيين؛ لا يقلّ وحشية وشراسة عن الذي طبق ضد السكان الأصليين في جنوب إفريقيا.
وقد فضحت تقاريره الميدانية ومؤلفاته الأكاديمية مزاعم إسرائيل باحترام حقوق الإنسان، كما كشفت تجاهل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لتجاوزات دولة الاحتلال.
"قطبا الفصل العنصري التمييز والقمع"
في الجزء الأول من سلسلة حلقات تستضيفه ضمن برنامج "وفي رواية أخرى" الذي يقدمه الزميل بدر الدين الصائغ، يتحدث دوغارد عن مسيرة نيلسون مانديلا النضالية والثمن الذي دفعه مقابل ذلك.
ويشرح المقرر الأممي الخاص سابقًا أن الفصل العنصري مورس في جنوب إفريقيا لقرون حتى قبل إدخال هذا النظام عام 1948، لكنه كان قائمًا على أسلوب الرعاية أكثر من نظام الفصل العنصري.
ويلفت إلى أن العديد من المجموعات في جنوب إفريقيا صنفت على أنها غير بيضاء كمجتمع السود الذي كان مهيمنًا والمجتمع الهندي ومجتمع من أعراق مختلطة. إلا أن دوغارد يوضح أن مجتمع البيض الذي كان أفراده يتألفون من 3 إلى 4 ملايين شخص تقريبًا من أصل نحو 40 مليون نسمة، كان يعتبر نفسه متميزًا ومتفوقًا ويدعمه القانون الذي تم سنه في برلمان من البيض بالكامل.
ويؤكد دوغارد أن هذا القانون كان ينص على التمييز ضد كل الأشخاص من غير البيض وهم الأفارقة والملونون والهنود. ويقول: "في البداية نصّ قانون الفصل العنصري على فصل المرافق العامة؛ لذلك برز تمييز في ما يتعلق بالمدارس والمستشفيات والحدائق العامة والشواطئ ودور السينما والمسارح".
لكن مع اشتداد معارضة سياسة الفصل العنصري خصوصًا من قبل مجتمع السود أصبحت السياسة تقوم على القمع أيضًا، ولذلك كان قطبا الفصل العنصري هما التمييز والقمع، بحسب دوغارد.
ويضيف دوغارد: "مع استمرار جنوب إفريقيا على هذا النحو باتباع سياسة الفصل العنصري من عام 1948 إلى 1990، ازدادت حدة القمع أكثر فأكثر".
وردًا على سؤال حول ما إذا كان نظام الفصل العنصري مدعومًا بدستور يرسّخ ممارساته، يقول دوغارد: "لم تكن جنوب إفريقيا تمتلك دستورًا حقيقيًا، بل تم تصميمه على غرار النظام البرلماني البريطاني، حيث يكون البرلمان ذات سيادة أو أعلى منزلة، لذا يمكنه سنّ أي قوانين، ولا يمكن الطعن بها".
إلا أن المسؤول الأممي الأسبق يشدد على أن ذلك لا يعني أنه لم يكن بمقدور المحامين استخدام القانون للنهوض بقضية العدالة، معتبرًا أنه كان من الممكن دائمًا إقناع المحكمة بتفسير قانون تمييزي بطريقة أكثر منطقية، كما كان واردًا وجود إجراءات إدارية والتي كانت تشريعات على الفئات الدنيا وتتم مراجعتها بواسطة محكمة قانونية، لذا كان بإمكان المحاكم النهوض بقضية العدالة.
ويشير إلى أن سياسة الفصل العنصري خضعت لتغيير كبير في ستينيات القرن الماضي عندما قررت حكومة جنوب إفريقيا تحت ضغط دولي منح ما أسمته "تقرير المصير للسود" في مناطق منفصلة، لذا كانت جنوب إفريقيا مقسمة إلى مناطق مختلفة وبات بعضها مستقلًا ظاهريًا، والبعض الآخر ذات حكم ذاتي.
ويشرح أنه كانت هناك 4 مناطق مستقلة للسود وهي ترانسكي وسيسكي وبوتسوانا وفندا وكانت حكوماتها من السود، لافتًا إلى أن هذا هو التمثيل الذي منحته الحكومة البيضاء للسود في أراضيهم المنفصلة.
وحول الركائز الأساسية التي كان يعتمد عليها نظام الأبرتهايد في جنوب إفريقيا، يوضح دوغارد أنها تتمثل بالتمييز في شكل أساسي، وبقمع المعارضة السياسية حيث كانت الشرطة قاسية جدًا وصارمة، إلا أنه يلفت إلى أنه كان للرأي العام الدولي تأثير في ذلك الوقت على سياسة جنوب إفريقيا.
وخلال السنوات العشر الأولى لم يضغط المجتمع الدولي كثيرًا على نظام جنوب إفريقيا، بحسب دوغارد، إلا أن هذا الضغط تصاعد في السبعينيات والثمانينيات ما دفع جنوب إفريقيا لتعديل سياساتها لتهدئة أو استرضاء المجتمع الدولي.
وبحسب المقرر الأممي الأسبق، فقد بدأت المعارضة بالنمو في الثمانينيات أكثر فأكثر، حيث يتحدث عن وجود معارضة خارجية من قبل المؤتمر الوطني الإفريقي ومؤتمر عموم إفريقيا، الذي تم نفي العديد من أعضائه، فضلًا عن المعارضة الداخلية القوية، ولا سيما من قبل النقابات العمالية.
ويؤكد دوغارد وجود أيديولوجية عنصرية في جنوب إفريقيا في ذلك الوقت، حيث كانت سياسة الفصل العنصري تستند إلى مفهوم تفوق البيض.
ويشرح أن القوانين الأمنية كانت تنطبق على السود والبيض، إلا أنها كانت أكثر صرامة ضد السود، لأنهم كانوا يشكلون تهديدًا أكبر لنظام الفصل العنصري آنذاك.
كما يتحدث عن وجود سجناء سياسيين بيض في تلك الفترة، إلا أنه يؤكد أن السجناء السود المعارضين عوملوا بقسوة أكبر.
ويلفت إلى أن نيلسون مانديلا (المعارض المناهض لنظام الفصل الذي سُجن لنحو 30 سنة) اضطر إلى القيام بالكثير من العمل البدني الشاق أثناء وجوده في السجن، مشيرًا إلى وجود سجون منفصلة للبيض والسود في تلك الحقبة.
تجربة دوغارد في معارضة الفصل العنصري
عن تجربته في معارضة الفصل العنصري، يقول دوغارد إنه نشأ في عالم كان فيه قدر معين من الاختلاط العرقي، وفي منزل كان فيه والداه يعارضان "الأبرتهايد".
ويستطرد بالإشارة إلى أن والديه كانا بريطانيين وجاءا إلى جنوب إفريقيا بصفتهما مدرسين في مدرسة تبشيرية كان مانديلا يرتادها.
وقد اتضح لدوغارد بشكل متزايد، وفق ما يقول، مع تطور الفصل العنصري أن ذلك كان خاطئًا أخلاقيًا وذلك على غرار الكثيرين من الجنوب إفريقيين البيض.
وعندما أصبح محاميًا أصبح مهتمًا بتأثير الفصل العنصري على النظام القانوني في جنوب إفريقيا، والذي كان على غرار النظام القانوني في إنكلترا وهولندا. برأيه، بينما كان من الممكن العثور على القيم القانونية لأوروبا في نظام البلاد القانوني، إلا سياسة الفصل العنصري قوّضتها.
وعن علاقته بمانديلا، يقول إنه لم يقابله قط قبل أن يذهب إلى السجن، وأنه كان يعرف زوجته جيدًا لأنه كان طرفًا في قضية اتُهمت فيها.
وبينما يشير إلى أن العلاقة تلك كانت شخصية وأنه التقاه بعد خروجه من السجن بناء على طلبه شخصيًا لشكره على مساعدته عائلته، يردف بأن العلاقة تحوّلت بعد ذلك إلى سياسية بحتة.
أما عن ديزموند توتو، الذي يقول إنه كان يعرفه بصفته أسقف جوهانسبورغ، فيلفت إلى أن الرجل عيّنه مستشارًا قانونيًا في أبرشيته وأصبح مستشارًا شخصيًا له.
وتوتو، بحسب المقرر الأممي الخاص سابقًا، لم يكن عضوًا في المؤتمر الوطني الإفريقي. وبعد سقوط نظام الفصل العنصري راح ينتقده لعدم الإيفاء بما وعدوا به.
لكنه يوجز الأمر بالإشارة إلى أن ثلاثة رجال ساهموا في إنقاذ جنوب إفريقيا: هم نيلسون مانديلا وديزموند توتو ودي كليرك، زعيم نظام الفصل العنصري الذي كانت لديه الشجاعة للاعتراف بأن هذا النظام قد فشل.
ويلفت إلى أن مانديلا كان طرفًا في قرار المؤتمر الإفريقي في أوائل الستينيات التخلّي عن سياسته للاحتجاج السلمي ودعم الكفاح المسلح.
وبينما يذكر بأن الرجل اعتُقل بتهمة التخريب التي تحمل عقوبة الإعدام، يعرب عن اعتقاده بأن الحكومة كانت تود أن ينال تلك العقوبة، إلا أنه يفيد بأن القاضي قرّر الحكم على مانديلا بالسجن مدى الحياة بدلًا من ذلك.
وينفي علمه بأن يكون مانديلا قد شارك مباشرة في أي أعمال عنف ضد نظام جنوب إفريقيا، مؤكدًا أنه كان زعيمًا سياسيًا، ولكن أيضًا جزءًا من القرار الداعم للكفاح المسلّح.
وبالتوقف عند العقوبات التي بدأ المجتمع الدولي في أوائل الستينيات بفرضها على جنوب إفريقيا، يلفت دوغارد إلى أن هذا الضغط تصاعد تدريجيًا حتى أصبحت البلاد معزولة بالكامل. ويقول إن الأمم المتحدة عارضت بشكل عام سياسة الفصل العنصري.
أما بشأن إسرائيل التي أعلنت - من الناحية النظرية - أنها ضد سياسة الفصل العنصري، فيقول ضيف "وفي رواية أخرى" أن علاقتها بجنوب إفريقيا كانت في الممارسة العملية وثيقة جدًا. ويعزو ذلك إلى وجود مجتمع يهودي كبير في جنوب إفريقيا.
ويكشف أنها عملت وراء الكواليس على العديد من المشاريع العسكرية على غرار تطوير أسلحة نووية.