تعد الطائفية عبارة عن تحديد الأعمال والسلوكيات والممارسات بواسطة الإيمان بالفوارق الدينية الناجمة عن جعلها حدودًا تمثل التراتبية الاجتماعية والصراعات.
وفي كتابه "الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة" يقول الدكتور عزمي بشارة: لم تكن الطائفية، ولا حتى المظلومية الطائفية تحتل الصدارة في المشرق العربي في الماضي القريب، فقد حيدتها تفسيرات أخرى لطبيعة الدولة وسياساتها مسنودة بإيديولوجيات غير طائفية غالبًا، وانتماءات أخرى همشت الطوائف بين الانتماء المحلي والانتماء الوطني والقومي وتغّلب عليها أحيانًا حتى الانتماء الحزبي السياسي القومي أو اليساري.
ويضيف: بدا وكأن الطوائف الدينية بوصفها كائنات اجتماعية سياسية متجهة إلى زوال، ولكن الطائفية ظلت قائمة في الخفاء أو العلن، وعندما سمحت لها الفرصة التاريخية للتحول إلى خطاب سياسي ووعي يحكم القيم السلوكية في الحياة اليومية أعادت إنتاج الطوائف على نحو مختلف كليًا عما كانت عليه، لقد أعادت إنتاجها طوائف متخيلة.
ويرى بشارة أنّ الطائفية السياسية في الوطن العربي ظاهرة حديثة تاريخيًا ساهم اللقاء مع الاستعمار في تأجيجها بتداخله مع عمليات التحديث التي شهدتها المنطقة في القرن التاسع عشر، وذلك باستثمار طوائف الأقليات سياسيًا. كما أنّ السياسة وصراعات المصالح في العراق وسوريا وغيرهما من البلدان أعادت إنتاج الطائفية بوصفها كيانات سياسية بعد عقود من صعود الشعوب والكيانات العربية على سكة التخلص من الطائفية في عقود الاستقلال، وأنها استثيرت سياسيًا من جانب أنظمة حاكمة أو معارضات ضد خصومها في الحكم.
ويوضح أنّ الدكتاتورية العربية لجأت إلى الولاءات الطائفية في مرحلة فشلها في عملية اندماج الأمة المواطنية، أو لجأت إليها القوى السياسية بعد أن أصبحت لغة المجتمع المحروم من الدولة، وفي صياغة معارضته خارج السياسة.
ويحدد بشارة مؤشرات رئيسة لفهم الطائفية عربيًا، وهي:
*الظروف التاريخية لنشوء الدولة، التنظيم الاجتماعي والسياسي الموروث والمستحدث للجماعات نفسها.
*تفاعل نشوء الدولة في هذه الظروف التاريخية مع البنية التقليدية للمجتمع وانقساماته العمودية.
*عملية بناء الأمة ونجاح الاندماج أو فشله ومدى تقاطع الفروق الاجتماعية المختلفة في مرحلة ما بعد الاستعمار مع الفروق الطائفية.
*الصراعات السياسية ودور النخب في استثمار الطائفة وإعادة إنتاج الطوائف من حيث أنها جماعات متخيلة.
طبيعة نظام صدام حسين
في عام 1979 جاء صدام حسين إلى حكم العراق عبر ما يبدو أنه انقلاب على سلفه أحمد حسن البكر، وأسس شبكة الولاء الشخصي له من الأقارب والعشيرة، وذلك بعد إعدام أعضاء بارزين من القيادة القطرية للحزب ومن قياداته التاريخية حتى يضمن أن لا ينافسه أحد.
ويرى عزمي بشارة في كتابه "الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة"، أنّ نظام صدام حسين لم يتسامح مع معارضيه سواء كانوا شيعة أم سنّة، كما أنه لم يثق في سني ولا في شيعي إذا كانت لديه أي طموحات سياسية.
ومن المظاهر اللافتة في التعبير عن هذا السلوك أنّ كثيرًا من العاملين في القصور الرئاسية في المرحلة الحرجة في التسعينيات كانوا من المسيحيين ولا يدل ذلك على طائفية أو عدم طائفية أو تسامح، إنما يدل، وفق بشارة، على عدم الثقة ببقية أبناء الشعب، فأبناء الطوائف الصغيرة ليس لديهم طموحات سياسية وغالبًا ما يمكن ضمان ولائهم للنظام. فالموثوق هو الذي يثبت نفسه في العمل لمصلحة النظام والدفاع عنه بغض النظر عن طائفته وأصله وفصله. أما الشك فيشمل الباقين جميعًا مع فوارق درجات ناجمة عن تصنيفات وتعميمات على مستوى فئات بأكملها، وهذه الفئات لا تتطابق مع الطوائف بالضرورة.
الصدام مع علماء الشيعة
اصطدم نظام صدام ومن قبله نظام البكر مع علماء الشيعة بسبب هواجس من الصلات التي يمكن أن ينسجوها مع قوى خارجية أو من تطلعاتهم السياسية التي قد تفضي بهم إلى معارضة النظام والدعوة لإسقاطه واستغلال المسيرات والاحتفالات الدينية للدعاية السياسية، كما صرح محمد باقر الصدر دون مواربة.
يضاف إلى ذلك، استقلال علماء الشيعة الاقتصادي عن الدولة فهم ليسوا موظفين في المؤسسات الدينية مثل علماء السنة، إنما يعتمد علماء الشيعة في أمور معاشهم على الخمس الذي يأتيهم من أموال المؤمنين المقلدين في العراق وخارجه.
وتفاوت نشاط علماء الشيعة المعارضين بين الإصلاحيين والراديكاليين، حيث طالب محمد باقر الصدر بالديمقراطية وإطلاق حرية الشعائر وإلغاء العضوية الإجبارية في حزب البعث، ودعا إلى حكم إسلامي للسنة والشيعة معًا ضد حكم الطاغوت، وأصدر فتاوى ترى بأنّ النضال ضد حزب البعث فريضة على المسلمين، فيما رفض آخرون خط الصدر مثل آية الله محمد شيرازي وحسن شيرازي ومحمد المدرسي وهادي المدرسي وأسسوا لمدرسة شيعية أصولية راديكالية في كربلاء ودعوا إلى استخدام القوة مع الدولة وتحالفوا مع مجموعات راديكالية شيعية في لبنان والبحرين ودعوا إلى حكم إسلامي على النمط الإيراني ورفضوا الديمقراطية، وأنشأ مؤيدوهم بعد الثورة الإيرانية منظمة العمل الإسلامي.
في عام 1980 اشتعلت الحرب العراقية الإيرانية، وكان الجيش العراقي مؤلفًا من سنّة وشيعة، وكان الشيعة أقلية بين الجنود ولم تتجاوز نسبتهم بين الضباط الـ20%.
يشار إلى أن تمييزًا ضد الشيعة في القبول في الكلية العسكرية مارسه نظام حكم عبد السلام عارف والناصريين، إلا أن الأمر اختلف في زمن صدام حسين حيث تخرّج آلاف الشيعة في الجيش وأصبحوا ضباطًا.
في كتابه "بعث صدام رؤية من داخل نظام استبدادي" يورد يوسف ساسون اقتباسًا صوتيًا لصدام حسين في عام 1980 مفاده "أنّ الله ليس سنيًا ولا شيعيًا وليس كاثوليكيًا ولا بروتستانتينًا، وأن أغلب الناس ابتعدوا عن الدين الحقيقي واتبعوا فلسفات أخرى لا صلة لها بالدين".
هل كان نظام البعث في العراق طائفيًا؟
وفي هذا الإطار، يرى د.حيدر سعيد رئيس قسم الأبحاث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أنّ حقبة البعث من أكثر حقبات الدولة العراقية التي شهدت توترات طائفية، لكنه يعتبر أن هذا الأمر يحتاج إلى المزيد من التحليل لفهم طبيعة النظام ومدى استعماله للهويات الطائفية.
ويلفت في حديث إلى "العربي إلى أنه "لا يمكن التعامل مع حقبة البعث على مدار 35 عامًا من عمر العراق وتاريخه على أنها حقبة واحدة".
ويبين أن هناك تصورًا واسعًا بدأ يتبلور في أواخر الثمانينات مع بروز الدعوة الشيعية والحديث بأن الدولة العراقية تأسست على أساس طائفي وأن الأقلية السنية تتحكم بالأغلبية الشيعية، إلا أنه يشير إلى أنّ هذه السرديات لم تكن مبنية على أسس حقيقية.
ويؤكد أن الحديث عن أنّ الأحزاب القومية والفكر القومي في العراق كان ذات نزعة سنية لم يكن يستند إلى أسس علمية، خاصة أن حزب البعث والأحزاب الأخرى نشأت من خليط من مكونات مذهبية مختلفة.
ويوضح أن حزب البعث تكوّن من أغلبية شيعية وليس سنية، وأن المؤسس الحقيقي للحزب هو فؤاد الركابي كان شيعيًا، لذلك كان أكبر تنظيم للحزب منذ نشأته بين أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات كان في مدينة الناصرية جنوبي العراق.
موضوع "معقد ومعبأ عاطفيًا"
من جهته، يرى الباحث والأكاديمي العراقي د. عقيل عباس أن موضوع الطائفية "معقد ومعبأ عاطفيًا" في العراق، مؤكدًا أنه من دون تعريف واضح للطائفية لا يمكن الحديث عن 35 عامًا من حكم حزب البعث للعراق.
ويوضح في حديث إلى "العربي"، من واشنطن، أن الطائفية، منهجيًا وأكاديميًا، تعرف على أنها سلوك تمييزي منهجي تقوم به الدولة أو المؤسسات الأعلى من الفرد، وعلى أساس التمييز المنهجي سواء سياسات مكتوبة أو غير مكتوبة، لكنها تطبق منهجيًا على الأرض حيث يتم إقصاء مجموعة بسبب إيمانها الديني وإقصاءها من حزمة حقوق وامتيازات متوفرة للآخرين من خارج هذه المجموعة في إطار الدولة.
ويشير إلى أنّ الأحزاب السياسية الإسلامية التي تولت الحكم في العراق ما بعد عام 2003 تحدثت عن ممارسة نظام البعث الطائفية، لكنه يبين أنه بالنظر إلى وثائق الدولة العراقية والاستماع إلى شهادات الناس عن تلك الحقبة تظهر أنّ "النظام لم يكن طائفيًا بالمعنى المنهجي، حيث لا يوجد تمييز منهجي ضد الشيعة من 1979 إلى 2003".
ويلفت إلى أنّ "هناك لحظات أو أفعال طابعها طائفي في أوقات أزمات سياسية وأمنية للنظام وهذه يختلط فيها الغضب والبنية الشمولية للنظام القمعي وسوء الفهم للتشيع".