تعمل أنقرة قدر المستطاع على الاستفادة من العلاقة الصدامية بين كييف وموسكو. فبعد اتفاق الحبوب، يقترح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنشاء مخازن للغاز الروسي في تركيا.
وكان اتفاق الحبوب قد عّد الاختراق الدبلوماسي الأبرز، الذي حققته إدارة أردوغان في ملف الحرب الروسية في أوكرانيا، وتحركت بموجبه سفن الغذاء إلى موانئ العالم.
وفي إثبات آخر على الدور التركي المحوري بين موسكو وكييف، أمر الرئيس التركي ببدء العمل على إقامة مركز لتصدير الغاز إلى أوروبا.
مديح روسي وأوكراني لأردوغان
ولا يتوقف الرئيس الروسي بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن كيل المديح لأردوغان في أكثر من مناسبة، ليقول بوتين أخيرًا في أعقاب اجتماعات آستانا إن الرئيس التركي لعب دورًا مهمًا في حل عدد من القضايا.
أما زيلينسكي فقد وصف تركيا وهو يشد بقبضته على قبضة أردوغان حين زار لفيف بـ"البلد المهم".
وربما لكل ذلك دوافعه لدى الأوكرانيين والروس ويمنعهم من تجاهل دور أردوغان، حيث تسيطر تركيا على مضيقَي البوسفور والدردنيل المشرفين على البحر الأسود، فضلًا عن كل تلك الروابط في مجالات الطاقة والتجارة، التي تجمعهما مع كييف وموسكو.
إلى ذلك، يتصاعد الدور التركي تحت أعين واشنطن وأوروبا، اللتين لم تخفيا أكثر من مرة قلقهما من انخراط أنقرة في أكثر من ملف.
ومع ذلك، لا يجد الغرب بدًا من التعامل مع ما بات أمرًا واقعًا، فأنقرة العضو المهم في الناتو تشكل وسيطًا يمكن القبول به مع موسكو، رغم وجود ضغوط عليها في ملفات حقوقية وعسكرية آخرها ما يتعلق بصفقة طائرات "أف 35" الأميركية.
من جانبها، ترى تركيا فرصة كبرى لتغيير ميزان القوى لصالحها، غير أن أردوغان نفسه يعلم تمامًا أن حوله العديد من المحاذير الإستراتيجية التي يجب عليه خشيتها، وتحديدًا شمالًا في السواحل المشتركة مع أوكرانيا وروسيا في البحر الأسود؛ فكلما هاجت أمواج هذا البحر كانت ضارة للمصالح القومية والتجارية التركية.
وعليه، يشعر أردوغان أن التوصل لاتفاق لإنهاء الحرب سيهدّئ من غليان المياه المحيطة به.
"إضافة نوعية للأدوار التي تلعبها تركيا"
ويعتبر الباحث المتخصّص بالعلاقات الدولية سعيد الحاج أن مشروع إنشاء مركز للغاز في تركيا هو "إضافة نوعية للأدوار التي تلعبها تركيا منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية، مستفيدة أولًا من الموقع الجيوسياسي المهم وموقعها الجغرافي، وأيضًا من حالة التوازن بالحياد الإيجابي -إن جاز التعبير- بين روسيا وأوكرانيا، وأيضًا من تمايز موقفها عن الناتو، وقد بات دورها بالتالي مقبولًا من مختلف الأطراف، فضلًا عن امتلاكها أدوات في هذا الإطار.
ويشير في حديثه إلى "العربي" من إسطنبول إلى أن المقترح الروسي له ميزة إستراتيجية، لا سيما في ظل أزمة الطاقة والأسعار المرتفعة على مستوى العالم، والحالة الاقتصادية التي تعاني منها الاقتصادات الناشئة، وفي مقدمتها تركيا.
ويلفت إلى أن الأمر هنا لا يتعلق فقط بثقة روسيا بتركيا، وهذا أمر مهم وحيوي بالنسبة لأنقرة المنخرطة مع موسكو في عدة ملفات ومتجاورة معها في البحر الأسود.. فهذه إضافة نوعية للاقتصاد التركي وتعطي تركيا أدوات وأوراق قوة.
"تركيا دولة صديقة بالنسبة لروسيا"
من جانبه، يؤكد الكاتب الصحافي أندري مورتازين أن تركيا تتحوّل إلى مركز القوة الكبير في آسيا، ولها دور هام جدًا، مشيرًا إلى أن نفوذها سيتزايد من سنة إلى أخرى، وكذلك تتعزز في الوقت نفسه العلاقات الروسية التركية من سنة إلى أخرى.
ويوضح في حديثه إلى "العربي" من موسكو أن التفاهم المشترك بين الرئيسين بوتين وأردوغان كامل، معتبرًا أن الاقتصاد يتغلب على السياسة.
ويعتبر أن رغبة روسيا تحويل تركيا إلى مركز تحويل الغاز إلى أوروبا سيؤدي إلى تقوية مواقف الرئيس التركي.
ويشير إلى أن روسيا من جانبها تحصل من خلال هذا الدور التركي "على طريق جديد لتزويد دول أوروبا الشرقية بالغاز الروسي".
وفيما لا يرى أي مشكلة لتزايد نفوذ تركيا في المنطقة، يصفها بدولة محبة للسلام وصديقة بالنسبة لروسيا.
ويؤكد أن موسكو ستتعاون مع أردوغان وسترحب بتطوير التعاون الاقتصادي والسياسي والإستراتيجي على جميع المستويات.
"الهدف الأوروبي تنويع مصادر الطاقة"
من ناحيته جيمس موران، زميل في مركز دراسات السياسة الأوروبية، يقول إنه "لا بد أن نكون حذرين جدًا في ما يتعلق بهذا الاتفاق".
ويلفت في حديثه إلى "العربي" من بروكسل إلى الهدف الأوروبي من حيث تنويع مصادر الغاز والطاقة، الأمر الذي حققوا فيه -برأيه- قدرًا كبيرًا من النجاح، مشيرًا إلى "العثور على مورّدين جدد في الولايات المتحدة وقطر وبعض الدول الخليجية الأخرى، وكذلك النرويج".
ويعتبر أن ما اكتشفته أوروبا خلال الأشهر الماضية هو أنه لا يمكن الاعتماد على روسيا كمصدر موثوق به للغاز والنفط.
وفيما يقول إن "خطًا جديدًا للأنابيب يضخ الغاز الروسي إلى أوروبا ينبغي أن يأخذ هذا الأمر في الاعتبار"، يشير إلى أن الأتراك حريصون على تطوير دورهم كمركز للطاقة، لكن الموردين الروس ليس لديهم هذا القدر من التفاؤل، والسبب هو أن الهدف هو الابتعاد عن التوريد الروسي للغاز.
ويذكر بأن "التجربة خلال الأشهر الماضية منذ بدء الحرب في أوكرانيا كانت سلبية جدًا، وقد رأينا كيف أن روسيا استخدمت الغاز كسلاح بطريقة مدمرة للغاية".