يشكّل اللاجئون السوريون أكبر تعداد للاجئين في العالم مع نسبة 25% من مجموع اللاجئين، يتوزعون على دول عدّة أهمّها تركيا، فيما يمثّلون في لبنان والأردن أكبر نسبة لاجئين مقارنة بعدد السكان.
ومع خفوت أصوات الحرب جزئيًا في سوريا، تصاعد الحديث عن عودة اللاجئين السوريين من الدول المضيفة. وبينما تزداد الدعوات لحماية اللاجئين من الإعادة القسرية، شرعت دول عديدة في تطبيق إجراءات الترحيل بحق الفئات الأضعف.
لكن، في مواجهة أحد أهم الملفات المستعصية في القضية السورية، يبقى السؤال المركزي الأكبر، الذي لا بدّ لدول كثيرة أن تأخذه في اعتبارها عند صياغة سياساتها: "هل سوريا آمنة حقًا لعودة اللاجئين إليها؟".
واقع "سيئ" ومواقف "صعبة"
لنقترب من عمق القضية، قمنا بزيارة المخيمات الحدودية اللبنانية السورية للاطّلاع على واقع حياة اللاجئين هناك، والذي يُعتبَر الأسوأ مقارنة بغيره، خصوصًا في الآونة الأخيرة مع تصاعد الهاجس الأمني.
يقول أحدهم (محمد المحمد) إنّه لجأ من سوريا في سنة 2014، ويشير إلى أنّ الوضع كان جيّدًا في السنوات الثلاث الأولى، لكنّه ساء كثيرًا بعد ذلك، ومع انتهاء إقامته، حيث بدأ يتعرّض لمواقف "بشعة" من قبل مختلف الأجهزة، على حدّ وصفه. ويلفت إلى أنّه وصل إلى مرحلة لم يعد يستطيع معها تحمّل الوضع، من دون كفيل يرعاه، ولا أموال يستطيع دفعها للكفيل.
ويتحدث لاجئ سوري آخر (أدهم العبدو) لـ"العربي" عن معاناته، بعدما لجأ إلى لبنان منذ عام 2011، حيث يشير إلى أنّ الأوضاع الأمنية هي سيئة بشكل عام لكل اللاجئين السوريين، ويلفت إلى أنّ الأمر مضاعَف بالنسبة إليه، كونه تعرّض للاعتقال، ومهدَّد دائم بالتوقيف والإعادة إلى سوريا، وهو ما يجعله عاجزًا عن التحرك بحرية، ما يسبّب له نقصًا في الموارد الاقتصادية.
الحكومة اللبنانية مع "العودة الآمنة والكريمة"
في المقابل، توضح المشرفة العامة لخطة لبنان للاستجابة للأزمة السورية علا بطرس، في حديث إلى "العربي"، أنّ لبنان لم يوقّع على اتفاقية اللجوء، لأنه بلد هجرة وبلد صغير، ولأنّ الموارد المالية ضعيفة جدًا.
وتشير إلى أنّ اللاجئين السوريين المسجّلين رسميًا في المفوضية في عام 2015 كانوا مليونًا و200 ألف، في حين أنّ عدد المسجّلين حاليًا هو 851 ألفًا. ولكنّها تلفت إلى أنّ العدد الإجمالي للسوريين بين نازحين وعمّال هي 1.5 مليون تقريبًا، ما يضع أعباء على البنى التحتية والاقتصاد والخدمات وفرص العمل.
وتتحدّث بطرس عن إمكانية عودة اللاجئين إلى ما تصفها بـ"مناطق آمنة نسبيًا"، وتعطي مثالًا على ذلك حمص التي تقول إنّها "آمنة وهي أكثر من مساحة لبنان أربعة أضعاف". وتؤكد أنّ الحكومة اللبنانية مع العودة الآمنة والكريمة والطوعية والمتدرجة.
اللاجئون السوريون يوثّقون "العودة المميتة"
ليست الحكومة اللبنانية وحدها من تتحدث عن "عودة آمنة"، فمستندة على حجم وانعكاسات أزمة اللجوء، اعتمدت دول مضيفة سياسات تعسفية وعملت على إعادة اللاجئين بحجّة أنّ سوريا بلد آمن، لكن ما حقيقة هذا الادّعاء على أرض الواقع؟
يقول اللاجئ (محمد المحمد) إنّه عندما قرّر العودة إلى سوريا، سئل من أحد العناصر الأمنية في منطقة المصنع عن سبب عودته، فقال إنّه يريد أن "يخدم الوطن"، فردّ عليه: "سنرى"، ليتوجّه بعدها إلى العناصر بالقول: "خذوه". ويروي أنّه بعدها وجه نفسه في "صندوق" السيارة، وبقي في الفرع لمدة شهرين وخمسة أيام، ويكشف أنّه بعد ذلك، تمّ "فرزه" إلى نقطة في درعا، حيث كان يكلَّف بمهام متعددة.
من جهته، يستذكر أدهم العبدو حادثة اعتقاله عام 2013، حيث يقول إنّه تعرّض للتعذيب، حيث تمّ الضغط عليه ليعترف بأنّه "مسلّح" علمًا أنّه كان آتيًا من لبنان. ويشير إلى أنّ التعذيب استمرّ 33 يومًا، ووصل إلى مرحلة استعملوا معه أسلوب تعذيب عبارة عن "ربط العضو الحسّاس وإجباره على شرب الماء"، ما يضطر الإنسان بعد ذلك لدخول الحمّام، وهو ما لم يسمحوا له به.
مازن الحمادة الذي دقّ ناقوس الخطر
وفي وقت باشرت عدّة دول خططها لإعادة اللاجئين، شكّلت عودة أحد أشهر المعتقلين السابقين (مازن الحمادة) بطريقة شُبّهت بالاختطاف، صدمة في أوساط السوريين ودقّت ناقوس الخطر من المصير المجهول للعائدين مع استمرار عقلية النظام الأمنية.
وفي هذا السياق، يقول عبد الجابر الهاريس الحمادة، شقيق المعتقل مازن الحمادة، لـ"العربي": "إثر خروجه من المعتقل وكان إلى حد ما غير متوازن لا نفسيًا ولا جسديًا، لم يكن يوفر أيّ فرصة لكي يفضح هذا النظام، لكن لم يستوعب النظام أنه يوجد صوت يستطيع أن يوضح الصورة بشكل جلي للمجتمع الدولي فاستهدفه".
ويضيف: "استدرجوه عن طريق بعض التطمينات من قبل بعض الشبيحة من هولندا إلى ألمانيا، فأخرجوا له جواز سفر لا يوجد فيه معلومات صحيحة سوى اسم أمه وأبيه"، لافتًا إلى أنّه "خرج من مطار برلين وعاد مع امرأة يُعتقَد أنّها من جهاز المخابرات، حيث وصل إلى بيروت ثم بعد ذلك نقلوه إلى دمشق وانقطع الاتصال معه".
اختفاء قسري وتعذيب واعتقال عشوائي
وتحوّلت المخاوف من عمليات الترحيل والإعادة القسرية إلى قضية ساخنة مع إصدار منظمتي العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش تقريرين بحق عائدين وثّقتا فيهما عمليات ترحيل وانتهاكات بلغت التعذيب حتى الموت والاغتصاب الجنسي.
خلف كواليس تقرير "حياة أشبه بالموت"، ذهبنا لنتقصّى عبر كاتبة التقرير تفاصيل الشهادات المروّعة ونفهم حقيقة ما يحصل مع العائدين.
تقول الباحثة في قسم حقوق اللاجئين والمهاجرين في هيومن رايتس ووتش نادية هاردمان: "الحالات التي قمنا بتوثيقها مروّعة فقد تعرّض الناس في سوريا للاختفاء القسري والتعذيب والاعتقال العشوائي والسجن وقتل المطلوبين والخطف. هذه هي الأمور التي لا بدّ وأن تتوقف".
وتضيف في حديثها إلى "العربي": "في الحقيقة نحن لم نشهد أحدًا يخضع للمساءلة على الجرائم المرتكَبة ضدّ الإنسانية داخل سوريا، كما أنّه لدينا مجموعة كاملة من التوصيات الأخرى نقدّمها في التقارير مثل استرداد الممتلكات والتعويض عن تدمير ممتلكات العائدين".
وتخلص إلى أنّه "ليس بإمكاننا حقًا أن ننظر إلى فكرة العودة الكريمة والطوعية والآمنة حتى نرى أنّ وضع حقوق الإنسان هناك قد تغيّر بالكامل".
"لسعات كهربائية على الجسد"
لم يمرّ هذا التقرير من دون ضجّة، ففي معرض ردّ مديرية الأمن العام اللبناني على تقرير "حياة أشبه بالموت"، قالت إنّها أعادت 6345 سوريًا بين أبريل/ نيسان 2019 وسبتمبر/ أيلول 2021 بحجّة دخولهم غير الشرعي، وأنّ ما يحصل هو عملية رد وليس ترحيلًا باعتبار أنّها تعيدهم مباشرة إلى الحدود قبل دخولهم الأراضي اللبنانية.
وتردّ نادية هاردمان على هذا بالقول: "تفسيري لذلك هو أنّهم لا يعتبرون إرجاع الناس من الحدود اللبنانية السورية على أنّه ترحيل قسري، ولكننا نعلم تمامًا أنه اعتراف بإعادة الناس في ظلّ القرار الصادر عن المجلس الأعلى للدفاع عام 2019 حيث أنّه تمّ ومن الداخل اللبناني القادم على أولئك القادمين بشكل غير رسمي من سوريا إلى لبنان منذ أبريل 2019 والذين تمّ إرجاعهم إلى سوريا".
وتضيف: "ما نأمله هو أن يحرّك هذا التقرير وجدان الحكومة عبر توضيح الحقيقة. تحدثت مع رجل عمره 32 عامًا كان قد عاد إلى بيته في حمص من سهل البقاع بعد أن حصل على تصريح أمني من جهاز الأمن العام الخاص بالعودة وفي اليوم التالي تمّ القبض عليه من قبل جهاز الأمن السياسي وتعرّض للتعذيب لمدة أربعة شهور. لقد أراني آثار اللسعات الكهربائية على جسده. آمل أنّ حالات كهذه وغيرها من شأنها أن تحرّك وجدان السلطات اللبنانية لتفهم أن التصريحات الأمنية التي يحصل عليها الناس لا تؤمّن لهم الحماية عند العودة".
الموت "أرحم" من العودة
وبين نفي السلطات وتأكيد المنظمات الحقوقية، يطالب اللاجئون السوريون بضمان حق "اللا عودة" واحترام مبدأ عدم الإعادة القسرية في مشهد بالغ الرمزية لحال الاستعصاء السوري المرير.
يقول (محمد المحمد): "مستحيل أن أعود إلى سوريا لأنّ مصيري الموت. البعض يعود إلى سوريا ولديه الأمل بالدخول إلى السجن مثلًا والخروج منه بعد ذلك. هذا مستحيل بالنسبة إليّ. مصيري هو الموت. أنا ذاهب إلى الموت. أمي كذلك من المستحيل أن تعود إلى سوريا، وهي التي فقدت أخي. أمي باتت تكره سوريا. هنا في لبنان، رغم أنّ الوضع سيئ، أرحم من سوريا".
ولا يختلف رأي (أدهم العبدو) الذي يؤكد أن عودته إلى سوريا أمر مستحيل، ويضيف: "أفضّل أن أموت هنا على أن أعود إلى سوريا. الموت هنا احتمالي في حين أن الموت في حال العودة إلى سوريا محقق بنسبة 100%". ويردف: "العودة إلى سوريا ممكنة في حالة واحدة وهي إسقاط النظام، ومحاسبة أركانه ودكّهم في السجون، وقبل ذلك، من المستحيل أن تكون هناك عودة آمنة للسوريين".