منذ نشأتها عام 1948 قدّمت إسرائيل نفسها، ولا تزال، باعتبارها دولة ديمقراطية، وبوصفها الديمقراطية الوحيدة في شرق أوسط تحكمه نُظم عسكرية وأخرى استبدادية.
وفي حين قبلها البعض، ولا سيما في الغرب، على هذا النحو، شكّك البعض الآخر في حقيقة هذه الديمقراطية، لأنّ كيانًا قام على احتلال أراضي الغير ومصادرة حقوقهم لا يُمكن أن يكون ديمقراطيًا، ولأن مبدأ الدولة اليهودية لا يتّفق أساسًا مع الديمقراطية.
فهل إسرائيل "دولة ديمقراطية"، أم أن خلف هذه الصورة، الكثير من المتناقضات؟
عن هذا السؤال، يجيب المفكّر العربي الدكتور عزمي بشارة في حلقة من برنامج "قراءة ثانية"، عبر شاشة "العربي أخبار"، حيث يؤكد أن إسرائيل "لا يُمكن أن تكون دولة ديمقراطية حقيقية طالما أنها دولة يهودية قومية، تتطابق فيها الهوية الدينية والقومية".
ويوضح بشارة أن الكثير من التناقضات تمنع إسرائيل من اكتساب هذه الصفة، مشدّدًا على ضرورة "الجمع بين النضال الوطني والنضال المدني الفلسطيني، بما يمنع التشوّه والاندماج في المؤسسة الصهيونية الحاكمة، ويحافظ على الهوية الوطنية في الوقت ذاته".
دولة استيطانية استعمارية
في كتابه "من يهودية الدولة حتى شارون: دراسة في تناقض الديمقراطية الإسرائيلية"، يقول الدكتور بشارة: إنّ إسرائيل رغم أنّها ليست ديكتاتورية، ولا تُحكَم من خلال العسكر، ولا من حزب واحد، إلا أنّ فيها الكثير من المتناقضات.
وفي إطلالته ضمن "قراءة ثانية"، يفنّد بشارة بعض هذه المتناقضات، وأولها أنّها دولة استيطانية استعمارية قامت على أراضي السكان الأصليين لفلسطين والدول المحيطة، ناهيك عن سياسة التوسّع المستمر، ومصادرة أراضي السكان الأصليين وتشريدهم، وكل ذلك بهدف تحقيق أغلبية في بلد كان اليهود يشكّلون فيه أقلية، وإن احتسبنا كل هجرات اليهود إلى فلسطين حتى عام 1948.
ويشير إلى أنّه "حتى تصبح إسرائيل دولة ديمقراطية، كان يجب أن يتحول اليهود إلى أغلبية، وهذا كان يعني طرد السكان"، لافتًا إلى أنّ "هذه ليست مسألة هامشية بل قضية جوهرية بالنسبة للقادة الإسرائيليين". ويؤكد أنّ الوثائق تثبت اليوم أنّ كلّ ذلك جرى بتخطيط وعن قصد، حتى قبل إعلان الدول العربية الحرب على "الكيان الجديد".
ويشرح أنه في إطار هذه الخطة، بدأ طرد السكان الأصليين وتشريدهم في الفترة بين قرار التقسيم (نوفمبر/ تشرين الثاني 1947) وما يُسمّى "إعلان الاستقلال" (15 مايو/ أيار 1948) من دون حُجّة، مشدّدًا على أنّ القضية كانت مخططة لتشكيل أغلبية.
وإذ يشير د. بشارة إلى أن مبدأ "الدولة اليهودية" قد تحقّق، يشدّد على أنه حتى لو تجاوزنا التاريخ الذي قامت عليه الدولة اليهودية، رغم عدم جواز ذلك باعتبار أنّ التناقض كامل في بنية الدولة، لا يُمكن اعتبار إسرائيل "دولة ديمقراطية" للعديد من الأسباب.
ويشرح أن إسرائيل، حتى في الفترة التي سبقت عام 1967 أي قبل احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، كانت دولة مستوطنين تعددّية بهوية قومية ودينية في آن واحد، منغلقة ومتماسكة في محيط تعتبره معاديًا لها.
التطابق بين الهوية الدينية والقومية
ويشير د. بشارة إلى أن التناقض الثاني يكمن في عدم إمكانية تأسيس الدولة على فكرة المواطنة، كونها قامت على التطابق بين الهوية الدينية والقومية، وبالتالي كانت المواطنة مشتقّة من الانتماء للجماعة الدينية، وليست هي أساس الدولة، أي من حيث الوجود بمعزل عن الدين والقومية.
ويؤكد أن إسرائيل لم تنجح يومًا بفصل القومية عن الدين، حتى لدى العلمانيين، بداية من "آباء الصهيونية الأوائل"، وهو ما منعها من التحوّل إلى دولة مواطنة.
ويوضح أن إسرائيل حدّدت قانون المواطنة منذ اليوم الأول بنوعين، أولهما هو النوع الجوهري، والذي يقوم على مبدأ "مواطنة اليهود" الذي يشمل يهود الداخل والخارج، بحيث يكون لهم حقّ جوهري منذ ولادتهم بأن يصبحوا مواطنين بمجرد السفر إلى إسرائيل، وذلك بسبب دينهم.
في المقابل، يكمن النوع الثاني في مواطنة الهوية، حيث عومل السكان الأصليون للأرض والمواطنون المولودون في البلد أساسًا وكأنّهم ضيوف عليه ويجب إصدار بطاقات هوية لهم، أي بما يتناقض مع الواقع تمامًا، بحسب ما يؤكد بشارة، متحدّثًا عن أمر شبيه يحصل حاليًا مع أهل القدس، وهو ما عانى منه أيضًا عرب الداخل عبر السنين.
ويشير إلى أن الفلسطينيين الذين لم يستطيعوا أن يُثبتوا وجودهم في فلسطين في فترة الإحصاء لم يحصلوا على بطاقة الهوية، وبالتالي فان هوية الأرض عُرّفت على أنها هوية للقومية، كما لو أننا في عهد ما قبل الحداثة.
العقلية الأمنية في المؤسسة السياسية
أما التناقض الثالث بين إسرائيل والديمقراطية، فيشير د. بشارة إلى أنه يكمن في العقلية الأمنية السائدة في المؤسسة السياسية، حيث إن دور الأمن والجيش كان أساسيًا ومحددًا للحياة الأخلاقية، وللتعريف الإسرائيلي، ولبناء الثقافة الإسرائيلية، وأخلاقيات القوة في مجتمع يعتبر أن التجنيد الإلزامي هو أداة الصهر الأساسية للناس من جميع أنحاء العالم.
ويوضح أن العقلية السائدة في المؤسسة السياسية في إسرائيل هي عقلية أمنية، كما أنّ قسمًا كبيرًا من السياسيين هم ضباط سابقون، وبالتالي فإن الجيش لا يحتاج للقيام بانقلاب، أو أن يحكم مباشرة، لأنّ الدولة كلّها عقليتها أمنيّة.
ويلفت إلى أن الجيش الإسرائيلي يُعتبر منظمة معقّدة ومركّبة تنمّي عقلية إدارية تصلح لإشراكها في أي مجال.
الغرب يساوي حسابه مع التاريخ
وعن دعم الغرب لتصنيف إسرائيل على أنها "ديمقراطية"، رغم كلّ هذه المتناقضات، ينبّه المفكر العربي د. عزمي بشارة إلى أن تصنيف الدولة الديمقراطية تدخل فيه عناصر ثقافية وتاريخية، إضافة إلى المصالح.
ويلفت في هذا السياق إلى أنّ الغرب يدعم الكثير من الدول من دون أن تكون ديمقراطية، في حين أنّ هناك ديمقراطية تعاني مؤخرًا من أزمات ومشقات كثيرة، كان يمكن للغرب أن ينتشلها بمليارين أو ثلاثة مليارات دولار، في إشارة إلى تونس.
وإذ يصف تونس بأنّها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، يقول إنّه كان يمكن للغرب أن يحييها وأن يمنع عنها "الشعبوية" والأزمات التي تواجهها، لكنّه لم يفعل، في وقت يدعم في المقابل دولًا كثيرة غير ديمقراطية.
وفيما يشير إلى أن الغرب يدعم بالفعل في كثير من الحالات دولًا ديمقراطية وتحولًا ديمقراطيًا، يشدّد على أنّ "هذه ليست القاعدة أو القانون، فالمصالح هي الأساس".
بالنسبة إلى إسرائيل، يوضح د. بشارة أن الموقف الغربي كان منذ البداية هو تصدير المسألة اليهودية إلى منطقة الشرق الأوسط، والتخلّص من تبعاتها، ولإراحة ضميرهم من تصفية حساب مع التاريخ، وتحويل التناقض إلى المنطقة العربية.
كما يشير إلى أن إسرائيل راهنت على كونها محسوبة على المعسكر الغربي، باعتبارها ضامنًا للمصالح، وحليفًا يُمكن الاعتماد عليه.
إسرائيل لم تقم على المواطنة الحقيقية
ويشدد د. بشارة على أن إسرائيل في إدارتها لذاتها، أي كدولة لليهود، هي دولة مؤسسات لإدارة التنوّع بين مواطنيها الذين جاؤوا من حوالي 70 بلدًا حول العالم، ولكنّها في الوقت ذاته، أبقت على المؤسسة الاستعمارية البريطانية التي ورثتها كما هي، وفعّلتها لاحقًا مع بعض التعديلات على غرار نظام برلماني، وحكومة تعدّدية حزبية، ومحاكم وقوانين خاصّة، بعد أن كان قسم من قوانينها مأخوذًا من العهد العثماني.
ويشير إلى أن السلطات الإسرائيلية كانت براغماتية في تطوير قوانينها وتعديلها لتواكب حاجات البلاد، وأنهم بدؤوا بقوانين إدارة الدولة المسماة بـ"الدستور"، والذي يتمحور حول إدارة السلطات والعلاقات بينها، قبل أن يباشروا فقط في بداية التسعينيات خلال عهد حكومة إسحاق رابين، بوضع قوانين حقوق المواطن والإنسان والليبرالية.
لكنّه، في الوقت نفسه، يلفت إلى أن كل قانون لـ"لبرلة" الدولة يبدأ بتعريف إسرائيل على أنها "دولة يهودية وديمقراطية".
وبينما تُعتبر المواطنة هي الحجر الأساس للديمقراطية الحديثة، بوصفها مركّب الحقوق والواجبات، يؤكد بشارة أن إسرائيل لم تقم على المواطنة الحقيقية، بدليل أنها كانت تُعنى بالحقوق المدنية لليهود، لكنّها لم تقدّم إلا بعض هذه الحقوق للمواطنين العرب، لأنّ ذلك كان شرطًا لعضوية إسرائيل في الأمم المتحدة.
ويضيف أنه قبل عام 1977، كانت إسرائيل تُحكم من قبل حزب واحد بعقلية استيطانية، يسيطر على الجيش، والبرلمان، والقضاء، والشركات، وبالتالي لم تكن دولة ديمقراطية بما تعنيه الكلمة من تداول للسلطات.
ويوضح أنه بعد عام 1977، عندما بدأت رؤوس الأموال الأجنبية تتدفّق على إسرائيل، وبدأ الانفتاح الاقتصادي، وصل حزب "الليكود" إلى الحكم، وأصبحت إسرائيل، بمعنى ما، "ثنائية الأحزاب".
القضية الصهيونية والدولة اليهودية
وفي سياق إطلالته عبر "العربي"، يعتبر د. بشارة أن إسرائيل كانت حتى عام 1966 "ديمقراطية لليهود" إن جاز التعبير، وإن كان هناك أيضًا تناقض في هذا التوصيف داخل المجتمع الإسرائيلي، حيث يعتبر بعض اليهود العلمانيين أن السلطات الإسرائيلية تمنعهم من ممارسة أمور يعتبرون أنها من حقّهم، ناهيك عن أنها دولة لملايين من البشر ليسوا مواطنين فيها.
ويسأل بشارة في هذا السياق: "كيف يُمكن أن تكون إسرائيل ديمقراطية، وهي غير محددة الحدود الديموغرافية؟". ويضيف أن إسرائيل الآن بوصفها كيانًا "تسيطر اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا، على ملايين السكان الذين يبلغ عددهم عدد اليهود فيها، ويعانون من نظام تمييز عنصري، وأبرتهايد صريح".
ويعتبر أنّ تصنيف إسرائيل "ديمقراطية" يشبه القول: إنّ دولة جنوب إفريقيا كانت "ديمقراطية للبيض"، خصوصًا أنّه كان هناك تعددية حزبية وتداول سلمي للسلطة في جنوب إفريقيا، وكذلك قضاء وكشف للفساد، لكن بين البيض.
ويشدّد على أنّ العالم كلّه لا يقبل فكرة وجود أقلية تدير شؤونها بشكل تعددي وتتعامل مع السكان الأصليين، ليس فقط كطبقة ثانية أو ثالثة، بل تحاول قدر الإمكان أن تقلّص عددهم إذا استطاعت ذلك.
من هنا، يشير د. بشارة إلى وجود عملية "تضليل وخداع من خلال التعامل مع إسرائيل فقط داخل الخط الأخضر ذات الأغلبية اليهودية"، في سياق الحديث عن وجود "ديمقراطية إسرائيلية".
الديمقراطية "شكل حكم لليهود"
في كتابه "من يهودية الدولة حتى شارون: دراسة في تناقض الديمقراطية الإسرائيلية"، يعتبر الدكتور بشارة أنّ الصهيونية ليست المواطنة، بل هي "وعاء الديمقراطية اليهودية"، وفي الوقت نفسه، "المعيق لتطور هذه الديمقراطية اليهودية".
ويشرح د. بشارة ذلك في إطلالته ضمن برنامج "قراءة ثانية"، حيث يجزم أن "الديمقراطية في إسرائيل لن تتطوّر طالما بقيت دولة يهودية"، في إشارة إلى تطابق الدين والقومية، واعتبار أنّ الدولة هي حصرًا "دولة اليهود" في العالم، وليست دولة كثير من الناس الموجودين في البلد.
ويلفت إلى أن قضية الصهيونية الجوهرية هي "إقامة دولة يهودية في فلسطين، وليست إقامة دولة ديمقراطية"، موضحًا أنّ الديمقراطية بهذا المعنى هي "شكل الحكم لليهود"، مستشهدًا بقول أحد الحكّام في إحدى المحاكم المهمّة إنّ "إسرائيل هي في جوهرها يهودية وفي شكلها ديمقراطية".
ويؤكد بشارة أنّ إسرائيل لم تأتِ بفكرة القوميات العربية إلى فلسطين، فالعرب كانوا هم السكان الأصليين قبل "قيام إسرائيل"، وكان لديهم أهداف سياسية ويناضلون من أجل الاستقلال، ولم يكن لدى إسرائيل القدرة على إبادة الشعب الفلسطيني. ويوضح أنّها طردت قسمًا كبيرًا من الفلسطنيين، فيما بقي قسم آخر على أرضه، لكنّ الثابت أنّ "القضية الفلسطينية ظلّت ماثلة ولا يُمكن تجاهلها".
وفي هذا الإطار، يلفت إلى أن إسرائيل "لم تصبح دولة مهاجرين" كما هو حال أميركا أو أستراليا أو كندا مثلًا، وفي المقابل "لا يزال الشعب الفلسطيني يناضل، وله مطالبه الوطنية والقومية"، وبالتالي فإنّ فكرة الفصل العنصري بقيت قائمة، بين الطرد والتشريد في مرحلة أولى، والاحتلال في مرحلة ثانية.
إسرائيل تخشى الديمقراطيات العربية
ولا يستغرب د. بشارة أن يقارن بعض العرب بين الأوضاع في الدول العربية، وبين دولة رأسمالية متطورة بمستوى معيشي مرتفع، ويُحاسَب فيها الحكّام، في إشارة إلى إسرائيل، مع تأكيده في الوقت نفسه أنّ الشعب العربي في المضمون متضامن مع القضية الفلسطينية، حتى إن بعضهم يعتبرون هذه القضية قضيتهم الأساسية.
ويعزو الأمر إلى الحرمان الذي يعاني منه الشعب العربي، بغياب الأنظمة الديمقراطية. لكنه يشدّد على أنّها لا تعني أن إسرائيل ديمقراطية فعلًا، مشيرًا إلى أنّ إسرائيل هي المستفيدة من هذه المقارنة، لكنّها في الوقت نفسه تخشى من الديمقراطيات في العالم العربي ومن إرادة الشعوب العربية.
ويشدّد على أنه من الأسهل لإسرائيل التفاهم مع ديكتاتوريات وأنظمة عسكرية وضباط يُمكن أن يلتزموا بالاتفاقيات ويحكموا شعوبهم، "على أن ينتظر المجتمع الإسرائيلي نتائج الانتخابات في الدول العربية المحيطة".
ويعتبر، في هذا السياق، أن عام 2011، كان أسوأ الأعوام بالنسبة لإسرائيل، التي كانت تنتظر نتائج ما سيحصل في العالم العربي، في ظلّ حالة عدم اليقين التي كانت سائدة، في إشارة إلى ثورات "الربيع العربي".
ويؤكد أنه حتى لو فُصل الدين عن الدولة "لن تكون إسرائيل دولة ديمقراطية، طالما أن هناك احتلالاً وأبرتهايد"، موضحًا أنّ هذا الموضوع مهمّ بالنسبة إلى الكثير من العلمانيين اليهود، لكنّ الفلسطينيين مثلًا لا يهتمّون كثيرًا بنمط الحياة في إسرائيل، إن كان علمانيًا أو غير ذلك. لكنّه يشدّد على أنّ مثل هذا الأمر غير ممكن، "طالما لم يفصلوا بين تعريفهم للأمّة وتعريفهم للدين".
عرب الداخل والحركة الوطنية
وعن عرب الداخل، يؤكد د. بشارة أنهم "جزء من الشعب الفلسطيني الذي نُكِب وأخِذت أرضه، وهم أخذوا مواطنتهم من إسرائيل مُكرهين، وخضعوا للحكم العسكري وتعرّضوا لمذابح في بعض الأحيان مثل مذبحة كفر قاسم، وعوملوا مثل أعداء تحتملهم الديمقراطية الإسرائيلية، لكن يجب أن يعرفوا حدودهم".
ويشير إلى أنّ إسرائيل لا تزال تنظر إلى أرض عرب الداخل على أنها أهداف للسلب، وهي تسعى لتقليل مساحة الأرض التي يعيشون عليها قدر الإمكان، لافتًا إلى أنّ الزراعة العربية ضُرِبت، وتحوّل العرب إلى عمّال في السوق اليهودية، وإلى موظفين في الاقتصادات الإسرائيلية، وفي المقابل، لم تنشأ برجوازية عربية حقيقية، ودُمّرت المدينة العربية.
وفيما يكشف أنّ عرب الداخل يبنون الآن طبقة وسطى وموظفين وغير ذلك، يؤكد أنّهم في صراع دائم مع جهاز يتعامل مع عوامل التماسك الاجتماعي عندهم كخصم ومشكلة، ويعتبر أنه يجب تفريقهم إلى عشائر وقرى ومدن، وعدم التعامل معهم كشعب منظّم.
ويرى استنادًا إلى ذلك، أن هناك مصلحة لإسرائيل في انتشار الجريمة في صفوف عرب الداخل، "ليتحوّلوا إلى أقليات غير نافذة"، مشيرًا إلى أنه من هنا نشأت فكرة "إنشاء قيادة عربية وطنية موحّدة، منتخبة إذا أمكن، ليكونوا قادرين على السيطرة على شؤونهم ومحاربة الجريمة وجذب الاستثمارات".
وفي المقابل، يؤكد د. بشارة أنه "لا يُمكن لعرب الداخل أن يقاطعوا دفعة واحدة إسرائيل، أو أن يقوموا بعصيان مدني والصمود لفترة طويلة، في الوقت الذي باتت الديمقراطية الإسرائيلية موجودة ومستمرّة ويتعامل العالم معها".
ويعتبر أن "العمل الوطني السياسي غير المسلّح وحده من دون التطرّق لحياة السكان اليومية، يتحوّل إلى حركة معزولة. أما إذا اقتصر على التعامل مع الحياة اليومية وحدها، تتحوّل القضية إلى سياسة خدمات ووساطات مع المؤسسة الحاكمة".
ولذلك يشدّد المفكر العربي على ضرورة "الجمع بين النضال الوطني والنضال المدني، بما يمنع التشوّه والاندماج في المؤسسة الصهيونية الحاكمة، ويحافظ على الهوية الوطنية في الوقت ذاته".
انهيار الهوية الوطنية "ليس مزحة"
ويشير إلى أنه في ظلّ التطبيع العربي والصمت إزاءه، "يكمن الخطر فيما يتمّ الحديث عنه حول الاندماج في إسرائيل والحكم، وحتى الدخول في الحكومة الإسرائيلية، بما يعنيه من تحمّل مسؤولية سياسة إسرائيل في الاحتلال والقمع والحروب، أي الانتقال إلى الطرف الآخر، وعندها تبدأ الهوية الوطنية بالانهيار".
ويشدّد د. بشارة على أن انهيار الهوية الوطنية "ليس مزحة، فالهوية مسألة أخلاق وكرامة، وعندما تنهار، تنهار الحواجز أمام آفات اجتماعية كثيرة".
ويعرب عن اعتقاده أن القضية "ليست فقط قضية نضالية بل أخلاقية أيضًا، لأننا لا نعرف متى ستتحرّر فلسطين في ظل الوضع العربي القائم، لكن نعرف تمامًا أن الموقف الوطني المتماسك يحافظ علينا وعلى أبنائنا"، مشيرًا إلى أن قضية الأخلاق "لا تدخل في حسابات" الزعماء العرب الذين يدخلون في التطبيع.
الكفاح المسلح وإستراتيجية التحرير
ويوضح أن الحركة الوطنية الفلسطينية منذ نهاية السبعينيات، ركّزت على فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، وأنّ المناطق التي احتُلّت عام 1967 هي مناطق محتلة، وبموجب القانون الدولي، من حق أي شعب تحت الاحتلال أن يستخدم جميع الوسائل في النضال ضد المحتل.
لكنّه يشير إلى أنّ الحركة الوطنية الفلسطينية عمومًا انتقلت بعد هذه الفترة إلى ما يسمّى بالعملية السياسية، وأصبح الكفاح المسلّح "فرديًا"، ولو وُجِدت بعض التنظيمات التي تتبنّاه، لكن من دون وجود "إستراتيجية تحرير"، إذ يُقرَأ خلف هذا التبنّي "رفض لتطبيع الحالة وأن تبقى جذوة المقاومة مشتعلة".
ويلفت إلى أن حركة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة هي "حركة دفاعية" حيث تدافع عمليًا عن ذاتها، كما أنّ العمليات الفردية في الضفة الغربية تندرج في السياق نفسه، فهي "عمليات طبيعية لشعب تحت الاحتلال ترفض تطبيع حالة الاحتلال".
وإذ يستغرب أن يكون هناك من يدين مثل هذه العمليات، يعتبر أنّها بدأت تتحوّل إلى حالة حقيقية. ويعرب عن اعتقاده بأنّ ما يجري الآن في الضفة الغربية حاليًا هو "انتفاضة"، لكن بوجود سلطة تنسّق أمنيًا مع الاحتلال.