للمرة الأولى منذ قرون، جفّت بحيرة ساوة في محافظة المثنى العراقية؛ وباتت واحدة من أحدث ضحايا شحّ المياه في عموم العراق، نتيجة تغير المناخ وفشل إدارتها من قبل رجال الأعمال والمزارعين والرعاة، ناهيك عن الفشل الحكومي في إدارة الموارد المائية في البلاد.
وروى حسام العاقولي لوكالة "أسوشييتد برس" كيف تحوّلت شواطئ البحيرة الزرقاء التي كانت تغمرها المياه الصافية، إلى قطع من الملح وسط تشقّق أرضها.
وتقع بحيرة ساوة المغلقة والمالحة في محافظة المثنى العراقية قرب نهر الفرات، بين العاصمة بغداد ومحافظة البصرة الغنية بالنفط. يبلغ ارتفاعها 5 أمتار فوق مستوى سطح البحر، وطولها حوالي 4.5 كيلومتر وعرضها 1.8 كيلومتر.
تشكّلت البحيرة فوق صخور من الحجر الجيري، وهي محاطة بجرف مكون من ترسبات كلسية. وبما أنه لا يوجد مدخل أو مخرج لها، حيّر مصدر مياهها الخبراء لعدة قرون، ما سمح بإطلاق الروايات الشعبية والدينية التي يرويها السكان المحليون باعتبارها حقائق تاريخية.
وكان الآلاف من السائحين المتدينين يزورونها سنويًا ليغمروا أنفسهم في مياهها "المقدسة" التي يعتقدون أن الله باركها. كما تُعتبر الرواسب المعدنية الغنية بالبحيرة علاجًا لبعض الأمراض الجلدية السائدة في محافظة المثنى المُهملة تاريخيًا.
لكن الآن، يطلق السكان المحليون على المنطقة المحيطة ببحيرة ساوة اسم "عطشان".
وقال العاقولي، وهو ينظر إلى هذا الجفاف: "كانت هذه البحيرة تُعرف باسم لؤلؤة الجنوب. لكنها أصبحت مأساتنا الآن".
في مرحلة الطفولة، تردّد العاقولي على البحيرة مع أسرته، ويأمل أن يفعل ذلك مجددًا عندما يشكل عائلة جديدة. لكنّه الآن يقضي أيامه على وسائل التواصل الاجتماعي لكتابة منشورات طويلة، تحثّ العراقيين على التحرّك لإنقاذ البحيرة، لكنه أحيانًا يشعر باليأس.
"نهاية العالم"
ويعتقد السكان المحليون أن جفاف مياه بحيرة ساوة يُنذر بـ "نهاية العالم". وبالنسبة إلى دعاة حماية البيئة، قد تكون توقعات يوم القيامة مبررة.
لكن الدراسات العلمية تشير إلى أن البحيرة تتغذّى من مصادر المياه الجوفية من خلال الشقوق والتصدعات، كما تتلقّى مياه الأمطار من الوديان المحيطة. وتسبب هطول الأمطار الغزيرة في السنوات الماضية في حدوث فيضانات مفاجئة.
وأوضح ليث علي العبيدي، الناشط البيئي في جنوب العراق: "بدأ تدهور المياه منذ أكثر من 10 سنوات، لكن خلال هذا الصيف كانت المرة الأولى التي نفقد فيها الأرض الرطبة بأكملها".
ورأى خبراء أن البحيرة لم تجف نهائيًا، لكن اختفاءها هذا العام حدث بسبب آلاف الآبار غير القانونية التي حفرها رجال الأعمال في مصانع الإسمنت المجاورة ومناطق التصنيع، نتيجة الجفاف وتناقص المياه على طول نهر الفرات القريب.
وبحلول أوائل يونيو/ حزيران، بدأت المياه تظهر بكميات قليلة بعد أن انتهى موسم الحصاد، وتوقّف المزارعون عن تحويل المياه الجوفية.
ويستخدم الملح باعتباره مادة خامًا في صناعات مختلفة في المنطقة. وتتراكم أكوام الملح على الطريق المؤدي إلى النهر في المثنى.
وألقى مرتضى علي، الذي يعمل في تجارة الملح في المثنى، اللوم على الإهمال الحكومي في اختفاء بحيرة ساوة. وقال للوكالة: "يجب أن يوفروا للناس وظائف، حتى لا يضطروا لحفر الآبار لكسب لقمة العيش".
من جهته، قال عون دياب، مستشار وزارة الموارد المائية: إن إغلاق الآبار غير القانونية واتخاذ إجراءات وقائية إضافية يمكن أن يصلح ما فسد، لكن هذه الأمور ستؤثر بشكل مباشر على المصالح الاقتصادية للمسؤولين.
مستقبل يُنذر بالأسوأ
وأثر جفاف البحيرة أيضًا على النظام البيئي. وتحوّلت أنواع الأسماك غير الصالحة للاستهلاك البشري غذاء لمختلف الطيور المهاجرة التي أقامت على ضفافها.
وقال العبيدي إنه مع اختفاء الأسماك، ستضطر الطيور أيضًا إلى تغيير مسارها وإلا ستنفق.
ويُنذر المستقبل بمزيد من المصاعب، ومزيد من الإجهاد المائي. وقالت وزارة الموارد المائية: إن مستويات المياه انخفضت عام 2022 بنسبة 60% مقارنة بالعام الماضي.
ويُعاني العراق من أزمة جفاف غير مسبوقة بدأت تؤثر حتى على مناطق الأهوار والبصرة التي من المفترض أن تكون من الأغنى بالمياه في العالم.
وقال العبيدي: إن بحيرة ساوة "حالة جديرة بالدراسة حول تغيّر المناخ في العراق... هذا هو المستقبل الذي ينتظرنا".
وبعد أن كانت البحيرة تتمتّع بماضٍ مذهل باعتبارها مصدر المياه الوحيد بالقرب من بلدة السماوة، ويزورها آلاف السياح سنويًا، الآن بقيت نفاياتهم من زجاجات المياه وعلب الصودا والنعال على طول الشواطئ الجافة، بمثابة تذكير لما فقدته المنطقة الفقيرة.
ولم يتمّ الانتهاء من المنشآت الخاصة بالعطلات بالكامل، ونُهب معظمها بعد حرب الخليج في التسعينيات، والغزو الأميركي للعراق عام 2003.
ومنذ عام 2014، تخضع المنطقة لاتفاقية "رامسار" الدولية الخاصة بحماية الأراضي الرطبة، أي أنها اكتسبت الاعتراف باعتبارها منطقة نادرة تحتاج إلى الحماية.
وأملت السلطات المحلية أن يعزّز هذا التوجّه السياحة والموارد الحكومية لاستئناف تنمية المنطقة، وووضعت المخططات لشقّ الطرق والممرات حول البحيرة، وإنشاء خطوط للكهرباء والمياه، لكن لم يتم تنفيذ أي من هذه المشاريع.