عاش العالم لحظة تاريخية، مع وصول باراك أوباما إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة عام 2008، حيث قضى 8 سنوات داخل جدران البيت الأبيض عايش خلالها فترات عصيبة أحاطت بها الأزمات والصراعات.
فقد كانت الإدارة الأميركية الجديدة في مواجهة الكثير من الملفات الساخنة التي خلفتها إدارة جورج بوش الابن، ولا سيما في ملفي العراق وأفغانستان، وسرعان ما زادت الأمور تعقيدًا بعد اندلاع الثورات في منطقة الشرق الأوسط، وتأزم المفاوضات آنذاك في الملف النووي الإيراني.
"كل يوم هو إضافة"
كانت وزارة الخارجية الأميركية منذ عام 2009 وحتى 2017، تدير مجموعة من القضايا الشائكة والمتناقضة التي ربما لم يسبق لأي إدارة أميركية أن تعاملت معها، لتأتي شهادات وزراء الخارجية الأميركية لتحكي الكثير مما كان يدور في هذه الفترة.
واحدة من هذه الشهادات، هي شهادة جون كيري وزير الخارجية الأميركي في الفترة الثانية لحكم أوباما، حيث حملت مذكراته عنوان "كل يوم هو إضافة".
وقدمت مذكّرات كيري، الكثير من تفاصيل إدارة الخارجية الأميركية للعديد من القضايا الدولية في فلسطين، وإيران، وسوريا، وكيف لعبت الدبلوماسية دورًا في عالم محفوف بالمخاطر والحروب.
فوفق ديفيد ميدنيكوف أستاذ العلوم السياسية بجامعة "ماساتشوستس"، تمكنت هذه الدبلوماسية من إيقاف إيران عن تطوير أسلحتها النووية بسرعة، والتي امتدت لفترة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
من هو جون كيري؟
جون فوربس كيري، هو أحد الضباط السابقين في سلاح البحرية الأميركي التي انضم لها عام 1966، وهو خريج كلية الحقوق الذي كان يرغب في مزاولة مهنة الصحافة، قبل أن ينتهي به الحال متطوعًا في الجيش الأميركي، ومشاركًا في حرب فيتنام عام 1967، التي أصبح واحدًا من أشدّ معارضيها.
فتحت هذه المعارضة لحرب فيتنام أمام كيري باب السياسة على مصراعيه، ليصبح عضوًا في مجلس الشيوخ الأميركي عام 1984، ومرشحًا لرئاسة الولايات الأميركية عام 2004، ثم وزيرًا للخارجية منذ عام 2013 وحتى 2017.
ولعب كيري دورًا رئيسيًا في العديد من ملفات الشرق الأوسط، ولذلك أفرد في مذكراته مساحة واسعة للحديث عن فترة ما قبل توليه منصب وزارة الخارجية، مفسرًا ومبررًا بعض قراراته.
دعم الحرب على أفغانستان والعراق
على إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عام 2001، اتخذ جون كيري موقفًا داعمًا لقرار الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الابن بشن الحرب على أفغانستان والعراق.
ويعتبر كيري قرار الحرب على أفغانستان "ضرورة فرضها الواقع". أمّا دعمه للحرب على العراق، فقد اعتبره كيري من أسوأ مواقفه السياسية، بل واعترف بأنّ ذلك كان أكبر خطأ ارتكبه في الـ28 عامًا التي قضاها في مجلس الشيوخ الأميركي.
وعن مواقف كيري في مذكّراته، يشير السفير الأميركي السابق في تونس غوردون غراي أن الوزير السابق "كان يعتقد أن الرئيس جورج بوش الابن سيعود إلى مجلس الشيوخ للحصول على إذن باستخدام القوة، لكنه لم يدرك أن الرئيس السابق كان عازمًا على متابعة الحرب في العراق بغضّ النظر عما إذا سيأخذ الإذن أو لا".
ويلفت غراي إلى أن الأمر الآخر الذي أشار إليه كيري في مذكّراته هو "أنه لم يدرك مدى ضعف المعلومات الاستخبارية حول سعي صدام حسين لامتلاك أسلحة دمار شامل".
ويوضح أن تلك المعلومات التي استندت إليها الإدارة الأميركية في حربها على العراق "قدمها أحمد الجلبي الذي لا يعتبر مصدرًا محايدًا لمثل هذه المعلومات".
"طريق الشيطان"
في مذكّراته، يفرد جون كيري مساحة من الحديث عن ملف السلام في الشرق الأوسط. وتحت عنوان "شرف المحاولة"، يتحدث عن واقع السياسة الخارجية الأميركية في هذا الملف، واصفًا إياها بـ"التحدي الدائم النابع من قلقه على أمن إسرائيل".
وكان جون كيري من الرافضين لسياسة الخطوة خطوة، ووصفها بأنها "طريق الشيطان"، ولذلك فكان الحل من وجهة نظره هو حل الدولتين الذي سيكون مقبولًا بعدما تراجعت القضية الفلسطينية في الشرق الأوسط بعد عام 2011، وحلّ مكانها انشغال الدول المعنية بالقضية الفلسطينية، بإيران بدلًا من إسرائيل.
ويدلل كيري على ذلك بالاجتماع الذي حضره قبل أن يصبح وزيرًا للخارجية بدعوة من العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في مدينة العقبة على الحدود الأردنية الإسرائيلية. ويقول: "اجتمع وزراء خارجية من معظم دول الخليج، ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، وكبار ممثلي روسيا والولايات المتحدة في مدينة العقبة، لمناقشة الفرص الجديدة أمام السلام والأمن في المنطقة".
يضيف كيري: "لقد قلبت ثورات الربيع العربي الوضع رأسًا على عقب، لكن ما كان يشغل القادة الإقليميين هو التهديدات الداخلية وكذلك مخاوفهم تجاه إيران، أكثر من انشغالهم بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. كانت القضية الفلسطينية مهمّة لشعوبهم، لكنّها لم تكن محورية بالنسبة لهم".
إلى ذلك، كانت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما في سبتمبر/ أيلول عام 2010، تحاول أن تكون طرفًا فاعلًا في حلّ الصراع الدائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لكنّ محاولاتها كانت تجابَه بمعارضة قوية من إسرائيل.
فعندما طلب أوباما في ولايته الأولى من رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها بنيامين نتنياهو وقف بناء المستوطنات، لم تتوقف هواتف البيت الأبيض سواء من الصحافيين أو قادة المنظمات اليهودية والأميركية أو أعضاء الكونغرس والذين اتهموه جميعًا باستهداف إسرائيل.
لذلك، عندما عرض عليه كيري عام 2013 إعادة تنشيط عملية السلام، قال له أوباما: "أنظر يا جون، هذه مسألة صعبة وأنا متشكك من نجاحها، لكنّي سأدعمك".
ضحية الكذب الإسرائيلي
في مارس/ آذار عام 2013، ألقى الرئيس أوباما خطابًا هامًا تحدث فيه عن إطلاق عملية تفاوض جديدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية أميركية.
ويروي جون كيري في مذكّراته ما حدث في تلك الفترة بينه وبين الإسرائيليين، فيقول إنه التقى نتنياهو بعد هذا الخطاب، فنظر نتنياهو إلى عينه مباشرة، وبحدة شديدة قال له: "يجب عليك أن تعرف أن كل الناس في هذه المنطقة يكذبون كما يتنفسون، وعليك أن تفهم أن أقصى ما يمكنني فعله قد يكون أقل مما قد يقبله عباس".
لكنّ كيري لم يخطر بباله أن يكون هو ضحية الكذب، ليس من الفلسطينيين، ولكن من نتنياهو نفسه.
استمرت المفاوضات 9 أشهر حيث كان الملف الأمني هو الملف الذي يشغل الإسرائيليين، ولذلك اقترحت الولايات المتحدة أن تتواجد قوات مصرية وأردنية، بالإضافة إلى قوات أميركية على الحدود الأردنية للتدخل إذا احتاجت إسرائيل ذلك.
في مذكّراته، يقول كيري: "كانت تلك الخطوات مجتمعة جديرة بإيجاد أكثر الحدود أمانًا في العالم. خلال تلك الفترة كانت محادثاتنا مع الفلسطينيين حول التعاون الأمني محادثات بناءة، فقد وافق الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن يلتزم إلى الأبد مشاركة إسرائيل في تنسيق أمني مشترك. لكن لم يكن أحد يريد لهذا الصراع أنّ ينتهي، ولا سيما إسرائيل التي رفضت الخروج من الضفة الغربية".
"مبادئ كيري"
يتحدث جون كيري في مذكراته أيضًا عن الصعوبات الكثيرة التي واجهته في إقناع الإسرائيليين للوصول إلى اتفاق، حيث يكشف أن الطرق التي سلكها في ذلك قد أغلقت واحدًا بعد الآخر، ولم يتبق أمامه إلا الجبهة الإقليمية، وكانت هذه هي بطاقته الأخيرة التي ألقى بها على طاولة المفاوضات.
فقد أطلقت الولايات المتحدة في نهايات عام 2016، مجموعة من المبادئ لاستئناف المفاوضات بين الطرفين أطلق عليها "مبادئ كيري".
وعن ذلك، يقول كيري في مذكراته: "عقدت اجتماعًا سريًا في العقبة في يناير/ كانون الثاني 2017 مع نتنياهو والملك عبد الله والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. كانت لحظة مهمة، حيث كانت الدول المهمة في العالم العربي مستعدة لقبول مطالب إسرائيل الأساسية بما فيها الاعتراف بالدولة اليهودية".
يضيف: "كان المصريون والأردنيون تحديدًا مستعدّين للعمل مباشرة مع إسرائيل والفلسطينيين على إستراتيجية أمنية نحو حلّ الدولتين، وأبدت السعودية والآخرون استعدادًا لاتخاذ إجراءات للوفاء بوعد مبادرة السلام لتطبيع العلاقات مع إسرائيل".
لكن، بالرغم من كل ذلك، يقول جون كيري إنّ نتنياهو لم يكن سعيدًا بما وصل إليه، حيث يقول إنّ هدف نتنياهو كان إعطاء الفلسطينيين "بعض الفتات في مقابل أن يدخل في مفاوضات مباشرة مع السعوديين ودول الخليج الأخرى من أجل التوصل إلى السلام".
وهنا تأكد جون كيري أنّ المهمّة التي كان يحلم بالنجاح فيها قد تحوّلت إلى واحد من الكوابيس التي لازمت طوال فترة توليه حقيبة وزارة الخارجية.
الاتفاق النووي.. "تفادي الحرب"
في مذكّراته، أفرد جون كيري فصلًا كاملًا للحديث عن ملف إيران النووي، وهو الملف الذي كان يتابعه كيري منذ أن كان عضوًا بمجلس الشيوخ.
وتحت عنوان "تفادي الحرب"، تحدّث جون كيري عن مفاوضاته مع الإيرانيين ولقاءاته مع جواد ظريف التي كانت تستمر لساعات طويلة. لكنه يبرز دور سلطنة عمان والسلطان قابوس في تسهيل عمل الولايات المتحدة في هذا الملف.
يقول كيري في هذا السياق، إنّ السلطان قابوس أثبت لهم قدرته على التعامل مع الإيرانيين، حينما استطاع الإفراج عن ثلاثة أميركيين كانت طهران تشتبه في كونهم جواسيس.
يتحدّث كيري عن الاتصالات التي بدأت عبر القناة الخلفية في مسقط للتواصل بين الولايات المتحدة وإيران من أجل الوصول إلى اتفاق مؤقت مع طهران، للتفاوض على صفقة شاملة وطويلة الأجل في ملف إيران النووي.
وبعد مفاوضات طويلة، نجح جون كيري مع مجموعة الخمسة زائد واحد في الوصول إلى اتفاق مؤقت مع إيران يوم 24 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2013، يقضي بوقف إيران تخصيب اليورانيوم ودخولها في مفاوضات مباشرة وشاملة مع الولايات المتحدة. إلا أنّ هذا الاتفاق اصطدم بمعارضة إسرائيلية، وصلت لحد توتر في العلاقات، وهو ما ظهر بشكل علني عندما قبل نتنياهو دعوة من جمهوريين الكونغرس لإلقاء كلمة.
عن ذلك، يقول كيري في مذكراته: "طوال مسيرتي في مجلس الشيوخ كنت أدعم إسرائيل بإخلاص. وكوزير، واصلت بطرائق لا تُعَدّ ولا تُحصى مساعدتها على تجنّب الهجمات في المنظمات الدولية، وتدخلت ضد قرارات وأوصيت باستخدام حق النقض في الأمم المتحدة. اعتقدت أننا نستحق أفضل من هذا الخطاب غير الأخلاقي. لقد تعرّضنا للذم إلى جانب الإيرانيين وكانت هذه إحدى أكثر لحظات الرحلة التي لا يمكن تفسيرها".
"الكاذب المستبد"
في مذكراته، يستعرض جون كيري مجهوداته الدبلوماسية في الملف السوري منتقدًا سياسة جورج بوش الابن، ومعتبرًا إياه أحد أسباب ما وصلت إليه سوريا اليوم، وذلك بسبب تبنيه "مسارات خشنة" في التعامل مع دمشق، وهو ما دفع بسوريا إلى أحضان إيران، وتحولها تدريجيًا إلى ما يشبه "برميل بارود ديمغرافي يصعب جدًا إعادة تجميع أجزائه إذا انفجر".
وفيما يؤكد كيري أنه رفض هذه السياسة منذ توليه رئاسة لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، يروى كواليس زيارته الأولى إلى دمشق عام 2009، والتي كان هدفها الأول معرفة نوايا النظام السوري فيما يخص السلام مع إسرائيل، حيث قدم خلال المذكّرات تحليلًا عن شخصية بشار الأسد، الذي وصفه بـ"الكاذب المستبد".
ويدلل كيري على ذلك بالمناقشات التي تمت بينه وبين رئيس النظام السوري بشار الأسد، حول مسألة محطة الطاقة النووية السورية وتهريب السلاح إلى حزب الله اللبناني. وبالرغم من امتلاك الولايات المتحدة الأدلة على ذلك، إلا أن الأسد كان مصرًا على الإنكار، وفق ما يقول كيري في مذكراته.
السماح للقاتل بالإفلات من العقاب
صباح 21 أغسطس/ آب 2013، استيقظ العالم على حادث أليم حيث شنت قوات النظام على منطقة الغوطة شرقي دمشق هجومًا صاروخيًا بأسلحة كيميائية، تسبب في وفاة المئات بعد استنشاقهم الغازات السامة.
حينها، كان موقف الإدارة الأميركية من هذه الأزمة "مرتبكًا"، فقد انتظر العالم الرد الأميركي على ممارسات يضعها الأميركيون في خانة المحظورات، إلا أن الرد الأميركي لم يأت.
في هذا الإطار، يرى السفير الأميركي السابق في تونس أن أحد الأخطاء التي ارتكبها أوباما هو عدم القيام بالإجراءات اللازمة ضد نظام الأسد، الذي أدين بهجماته الكيميائية ضد المدنيين، حيث سبق وحذر من أن استخدام هذا النوع من الأسلحة هو "خط أحمر" بالنسبة له، لكنه لم يتصرف وفقًا لذلك.
ويتحدث جون كيري عن كواليس ما دار داخل الإدارة الأميركية في التعامل مع هذه الأزمة، فيقول إن المناقشات داخل الإدارة الأميركية منذ اللحظة الأولى للهجوم، كانت تتجه إلى ضرورة توجيه ضربة عسكرية ضد نظام الأسد.
لكن مع مرور الوقت تحول الأمر للعبة سياسية، فمن ناحية ربط أوباما قراره بموافقة الكونغرس وهو ما لن يحدث بسبب الخلاف بين الجمهوريين وأوباما من جهة، بينما كان الديمقراطيون يريدون الابتعاد عن سيناريو العراق، خوفًا على شعبيتهم لدى الناخبين.
وعلى جانب آخر، كانت روسيا تدافع عن النظام السوري، متهمة المعارضة بأنهم هم من خططوا لهذه المجزرة
لكن، وبعد ثلاثة، أسابيع بدأ التفاوض بين كيري وسيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي حول تسليم النظام السوري أسلحته الكيميائية.
وفي هذا السياق، يقول جون كيري إنه كان مجبرًا على التفاوض مع لافروف لساعات طويلة "ليس من أجل توجيه ضربة عسكرية، ولكن حول كيفية نقل الأسلحة الكيميائية والتخلص منها". وهكذا استطاعت روسيا أن تمنع الولايات المتحدة من توجيه ضربة عسكرية لنظام بشار الأسد.
وحول هذا الأمر يقول كيري في مذكّراته: "لقد رأى العالم بأسره فداحة القتل الذي ارتكبه الأسد. لكنّ القاتل يجب معاقبته، وليس فقط تجريده من ترسانة أسلحته. لقد رأت المعارضة السورية والبلدان التي تدعمها أن الأسد يفلت بجريمته، وأظهرت روسيا والأسد للعالم أنّ أميركا لم يعد لديها ما تفعله، والواقع أنّ المعارضة والدول الداعمة لها لم تكن مخطئة، فقد أدّى إفلات الأسد من العقاب إلى تدمير آمال الناس".
نهاية رحلة التناقضات
وفي يناير/ كانون الثاني عام 2017، انتهت رحلة جون كيري في وزارة الخارجية الأميركية دون بصمة واضحة في السياسة العالمية، إذ لم تستطع الولايات المتحدة في عهده فرض سياسة خارجية قوية كعادة وزراء خارجيتها.
باختصار، كانت سياسية التناقضات، هي العنوان الأبرز الذي خطّه جون كيري على حائط جدران وزارة الخارجية الأميركية.
المزيد عن هذه المرحلة، وكيف وثّقها جون كيري بنفسه، في الحلقة المرفقة من برنامج "مذكرات".