توازيًا مع الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا، برزت ساحة حرب جديدة في الفضاء الافتراضي، حيث تتنامى مقاومة دولية افتراضية مكوّنة من مبرمجي الكمبيوتر و"محاربي المعلومات المضلّلة" في محاولة لاختراق الدعاية في الكرملين، وإيصال المعلومات الحقيقية للمواطنين الروس، الذين حجبت السلطات عنهم وسائل التواصل الاجتماعي.
وكشفت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية أن هؤلاء صمّموا أدوات تسمح لأي شخص بمفاجأة المواطنين الروس برسائل نصية توضح بالتفصيل عدد القتلى المدنيين في الحرب، بينما تحاول قنوات إخبارية الالتفاف حول القيود الروسية للوصول إلى المواطنين.
وأضافت أنهم قاموا أيضًا بتجميع قواعد البيانات مع التفاصيل الشخصية للعسكريين الروس، "على أمل إثارة تمرد" لصالح السلم والأمن.
كما نشر مبرمجون متطوّعون عبر العالم، مقاطع فيديو بثتها مواقع إخبارية مناهضة للحرب، تم إنشاؤها للتهرب من الحظر الذي تفرضه الحكومة الروسية.
سلاح الانترنت
منذ الحرب الباردة، عندما كانت المحطات التي تموّلها الحكومة الأميركية مثل "راديو أوروبا الحرة" تبث رسائل مناهضة للشيوعية عبر موجات الأثير في الدول السوفيتية، حاول الغرب في كثير من الأحيان اختراق الفقاعة الدعائية التي كانت تعزل الجماهير الروسية. لكن من دون جدوى.
لكن الآن، ساعدت الإنترنت حرب المعلومات هذه إلى أقصى الحدود، مما سمح للأشخاص العاديين بالمشاركة في الجهود من أجل الوصول إلى المواطنين الروس على بعد آلاف الأميال.
ويأمل المتطوّعون الذين يقفون وراء هذه الجهود في المساعدة في التغلب على قمع الحكومة الروسية للمعارضين، الذين اعتقلت السلطات الروسية الآلاف منهم خلال احتجاجات مناهضة للحرب.
لكن الصحيفة أشارت إلى أن بعض المبادرات قد تأتي بنتائج عكسية أيضًا، بسبب اعتمادها على البيانات الشخصية للروس الذين لا علاقة لهم بالحرب، كما يمكن أن تثبت عدم فعاليتها بسبب القوة والسرعة التي عمل بها الكرملين لفصل ملايين الروس عن الإنترنت المفتوح.
ورغم القيود التي فرضتها السلطات الروسية على مواقع التواصل الاجتماعي، ومواقع بعض القنوات الغربية التي لا تروق للكرملين، وقانون "الأخبار الكاذبة" الجديد، إلا أن الإنترنت ساعد في الكشف عن مدى سهولة اختراق هذه الحواجز التقليدية، مستفيدًا من السرعة التي يمكن أن تنتشر بها الرسائل السياسية.
فبعد أن اقتحمت المحررة في التلفزيون الحكومي الروسي مارينا أوفسيانيكوفا نشرة إخبارية على قناة روسية رسمية حاملة لافتة "لا للحرب"، انتشر الفيديو على الفور تقريبًا على الإنترنت الروسي، وضجّت صفحتها الشخصية على "فيسبوك" بآلاف التعليقات المرحّبة، وبعضها كان باللغة بالروسية.
وفي رسالة فيديو نُشرت على تطبيق "تليغرام" قبل اعتقالها، قالت أوفسيانيكوفا: "أشعر بالخجل لأنني سمحت بقول الأكاذيب على شاشات التلفزيون.. أنا فخورة لأنني تركت الشعب الروسي يتحرر".
"أوقفوا الحرب، إنهم يكذبون عليكم".. اعتقال موظفة في القناة الروسية الرسمية الأولى بعد أن اقتحمت نشرة للأخبار احتجاجاً على الحرب @AnaAlarabytv #روسيا #الحرب_الروسية_الأوكرانية pic.twitter.com/qIYGF7NIlv
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) March 15, 2022
بدوره، أفاد موقع "ميدوزا"، وهو موقع إخباري مستقل باللغة الروسية حظرته روسيا مؤخرًا، بأن الموظفين في الشبكة حيث تعمل أوفسيانيكوفا يشاهدون الأخبار الغربية بشكل روتيني لفهم الحرب.
وسجّل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مقاطع فيديو تناشد مباشرة مواطني البلد الذي يغزو بلده، قائلًا باللغة الروسية: "طالما أن بلدك لم يغلق نفسه تمامًا عن العالم بأسره، ويتحوّل إلى ما يشبه كوريا الشمالية، يجب أن تقاتل".
ويروّج المسؤولون الأوكرانيون مقاطع فيديو تحاول إعطاء الصورة الحقيقية للحرب. ويدير بعضهم قناة على "تليغرام" تعرض مقاطع فيديو لجنود روس قتلى، أو أسرى باعتبارها وسيلة لتنبيه أفراد عائلاتهم وإذكاء الغضب المناهض للجيش في الوطن.
برنامج "Tor" للالتفاف على الحظر الروسي
من جهتها، بدأت المنصات الاجتماعية ووسائل الإعلام الغربية في مساعدة الروس على التحايل على تلك الرقابة باستخدام البرنامج الخاص "Tor"، الذي يوجه حركة مرور الإنترنت عبر شبكة متفرقة من الخوادم، مما يؤدي بشكل فعال إلى تحييد حجب المواقع الإلكترونية.
ونشرت هذه المنصات ووسائل الإعلام روابط "تور" الخاصة بهم، والتي يمكن الوصول إليها من خلال متصفّح مجاني، بالإضافة إلى "دليل" باللغة الروسية حول كيفية استغلالها.
إلى ذلك، تمّ تنزيل التطبيقات التي تسمح للروس بالوصول إلى المواقع المحظورة بطرق أخرى، وأظهرت بيانات أبحاث السوق أنه تم لملايين المرات في الأسابيع الأخيرة النقر على تطبيقات "غوغل" و"آبل" الخاصة بالأخبار.
وتظهر البيانات الداخلية من "Tor" أن استخدام النظام داخل روسيا قد ارتفع، مع اتصال آلاف أجهزة الكمبيوتر الأخرى بشبكتها منذ بدء الهجوم.
قنوات على "تليغرام"
كما سعت الإدارة الأميركية إلى حماية الوجود المستمر لشركات مثل "Cloudflare"، وهي شركة للأمن السيبراني تستخدمها الكثير من الشركات وقنوات الأخبار لإبقاء مواقعها على الإنترنت. وواجهت الشركة دعوات لحظر المواقع التي تردد صدى دعاية الكرملين، لكنها قاومت بسبب مخاوف قد تؤدي إلى حظر عملائها الآخرين بما في ذلك وسائل الإعلام الروسية المستقلة أيضًا.
ودعمت وزارة الخارجية الأميركية قرار الشركة الذي يهدف لإحداث التوازن، حيث قال متحدث رسمي لصحيفة "واشنطن بوست": "من المهم الحفاظ على تدفق المعلومات إلى الشعب الروسي إلى أقصى حد ممكن".
وأطلقت صحيفتا "نيويورك تايمز"، و"واشنطن بوست"، قنوات على تطبيق "تليغرام"، وهي خدمة دردشة جماعية غير الخاضعة للرقابة وتحظى بشعبية في روسيا، وجعلت خدمة تغطية الحرب مجانية في روسيا وأوكرانيا.
بدورها، ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، التي تستخدم أيضًا "تليغرام"، إن حركة المرور إلى منصاتها الرقمية باللغة الروسية قد حطّمت رقمًا قياسيًا بلغ 17 مليون شخص في الأسبوع الأول من الحرب.
الموجات "قصيرة المدى"
كما تحوّلت الهيئة، وهي واحدة من أقدم وسائل الإعلام وإذاعات الموجات القصيرة، للوصول إلى المستمعين الروس، مشيرة إلى بدء البث هذا الشهر على ترددات جديدة "يمكن استقبالها بوضوح في كييف وأجزاء من روسيا". وكان آخر بث للقناة الإذاعية البريطانية على الموجة القصيرة قبل حرب أوكرانيا عام 2008.
وقالت "بي بي سي" إن أربع ساعات من التقارير الإخبارية اليومية تُذاع الآن في وقت مبكر من المساء وقبل منتصف الليل بقليل بتوقيت أوكرانيا على الترددات 15735 كيلوهرتزًا و 5875 كيلوهرتزًا.
وفي الولايات المتحدة، قال مالكو محطة الموجات القصيرة في أوكيشوبي بولاية فلوريدا إنهم بدأوا في بث إذاعات "صوت أميركا" عبر موجات الأثير إلى روسيا.
وجمعت إحدى جهات جمع التبرّعات عبر الإنترنت لصالح هذه العملية أكثر من 12000 دولار.
وقال توماس كينت، الرئيس السابق لإذاعة "راديو أوروبا الحرة"، إن الاستراتيجيين الغربيين يجب أن يفكروا في خيارات أكثر إبداعًا لإثارة المعارضة الداخلية في روسيا، بما في ذلك تنظيم حملات لإرسال الملفات الصوتية عبر البريد الإلكتروني، وإجراء مناقشات مغلقة على الشبكات الاجتماعية الصغيرة، أو حتى تهريب ذاكرة الفلاش.
متطوّعون من مبرمجي الكمبيوتر
وبالإضافة إلى الجهود الرسمية، بدأت فرق من مبرمجي الكمبيوتر أيضًا في شنّ حملات لـ"إثارة غضب الشعب الروسي" تجاه ما يجري خلال الحرب.
وقامت مجموعة باسم "Squad303"، التي سُميّت على اسم سرب جوي دمّر الطائرات الحربية النازية خلال الحرب العالمية الثانية، بإنشاء موقع ويب يعرض عنوان البريد الإلكتروني أو الهاتف أو رقم واتساب الخاص بالمواطن الروسي المختار عشوائيًا بالإضافة إلى رسالة مكتوبة مسبقًا.
وتقول إحدى الرسائل باللغة الروسية: "مرحبًا يا صديقي الروسي، نحن لا نعرف بعضنا البعض. أعيش في الخارج، أعلم أن روسيا غزت أوكرانيا، ومات الكثير من الجنود والمدنيين هناك، كيف تعيش في روسيا؟ كيف الحال أو كيف تسير الأمور؟".
وأوضح أحد مبرمجي المجموعة في بولندا، يستخدم اسم جان زومباخ، أحد الطيارين المقاتلين الأسطوريين، أنه يعمل الآن إلى جانب أكثر من 100 متطوع من إستونيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة ودول أخرى، مقسّمين إلى مجموعات كرّست نفسها لتطوير البرمجيات والدفاع الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي وفريق لمساعدة المتلقّين الجدد.
وقال زومباخ: "جرى إرسال ملايين الرسائل، التي أظهر بعضها صورًا للحرب أو عدد القتلى المدنيين، في أقلّ من أسبوعين إلى الأرقام الروسية"، مضيفًا أن "قاعدة بياناتهم تتضمّن عشرات الملايين من أرقام الهواتف والبريد الإلكتروني، وعناوين مأخوذة من قواعد البيانات الروسية المخترقة".
ويتسابق الفريق لتوسيع بنيته التحتية، حيث نمت من خادم واحد في وقت سابق من هذا الشهر إلى 16 خادمًا اليوم. وقال إن عمليات التوزيع الجماعي الأخرى جارية حاليًا.
كما أنشأت مجموعة أخرى محرك بحث يسمى "Rusleaks.info"، يجمع أكثر من عشر قواعد بيانات يُزعم أنها تعرض المعلومات الشخصية للأفراد العسكريين الروس، بما في ذلك عشرات الآلاف من أسماء الأشخاص والعناوين وأرقام الهواتف وتفاصيل جوازات السفر.
وقال أحد أعضاء المجموعة، وهو مطوّر برمجيات سابق في كييف، إن البيانات يمكن استخدامها لتنبيه الجمهور الروسي إلى ما تفعله حكومتهم أو المساعدة في التحقيق في جرائم الحرب.
وأضاف: "لا أعرف متى سيحدث ذلك، أو إذا كان سيحدث فعلًا. نحن نقاتل الآن على كافة الصعد".