منحت مذكرات إحسان نراغي، عالم الاجتماع الإيراني البارز، ذي التوجهات الإصلاحية، إطلالة خاصة على تفاصيل الأيام الأخيرة للشاه محمد رضا بهلوي، عارضة الأحداث الملتهبة في شوارع طهران آنذاك.
ويحكي كتاب المذكرات قصة الثورة التي اندلعت في طهران مطلع عام 1978 بعد نشر جريدة "اطلاعات" الطهرانية مقالًا يتهم الخميني بالعمالة، ويروي أحداث وتفاصيل تلك الثورة ويحلل أسبابها العميقة، ويطلعنا على كواليس الأشهر الأخيرة من حكم الشاه.
وبقيت تلك الشهادة حبيسة الأدراج لسنوات، حتى قرر كاتبها أن يفرج عنها عام 1991 أي بعد سنوات من تلك الأحداث، ليحكي لنا رحلته من بلاط الشاه إلى سجون الثورة.
ويقول نراغي: "بدا واجبًا عليّ تجاه بلدي أن أكشف الخصوصيات النفسية لرجل ظل يُعتبر لعقود عدة أحد القادة الأكثر نفوذًا في العالم قبل أن يشهد انهيار حكمه بنفسه فباشرت على وجه السرعة بكتابة مذكراتي، لتكون شهادة صادقة قدر الإمكان".
دور سياسي
ويرى الأكاديمي مهران كامرافا، الأستاذ في جامعة جورج تاون في قطر، أن نراغي، مثل كثير من المثقفين الآخرين في عصره، درس المجتمع الإيراني، وكان منزعجًا مما اعتبره عددًا من الانحرافات الاجتماعية التي عصفت بالمجتمع الإيراني.
وأضاف كامرافا، أن الشاه لم يكن على دراية بالظروف الاجتماعية للمجتمع الإيراني، لذلك لجأ إلى المثقفين لفهم ما يجري، وكان نراغي أحدهم.
وتؤكد الأكاديمية فاطمة الصمادي، باحثة أولى في مركز الجزيرة للدراسات، أن نراغي كان شخصية متعددة الأوجه، إضافة لكونه عالم اجتماع بارز في إيران، حيث أسس للحقل الأكاديمي المتعلق بدراسة العلوم الاجتماعية، فضلًا عن كونه صاحب دور في السياسة الإيرانية خلال الفترة التي سبقت انتصار الثورة الإسلامية.
وبعد أشهر من تفاقم الأحداث في إيران، وسقوط آلاف الضحايا على أيدي الجيش والسافاك (منظمة المخابرات والأمن القومي)، وصل نراغي إلى مجمع قصور سعد آباد ليجري اللقاء الاستشاري الأول مع الشاه، وخضعت لقاءات الإيرانيين مع الشاه لبروتوكولات خاصة حيث حرص الملك من خلالها على ترسيخ الهيبة والجبروت أمام شعبه.
وبعد تأجيل الموعد مرات عدة، التقى نراغي بالشاه، وشعر على الفور بالتغيير الذي طرأ على الملك عندما أبدى المزيد من المشاعر والتقدير.
وقال نراغي عن تلك الجلسة: "رأيت أمامي رجلًا هزته الأحداث الأخيرة من أعماقه وأخذ بفقد الثقة التي كان يبديها من قبل في اجتماعات العمل التي تسنى لي حضورها أحيانًا، وقال لي بطريقة مهذبة وكأنه يعتذر: مشاغلي الكثيرة لم تسمح لي بمقابلتك قبل الآن".
ولفتت الصمادي، إلى أن نراغي، كان له موقف معارض للثورة، وكان يعتقد بإمكانية الإصلاح، لذا نجد أنه كان لديه موقف حاد من علي شريعتي بوصفه أحد الذين أرسوا دعائم الثورة وكان له تأثير في إطلاق شرارة الاحتجاج ضد الشاه، وهو يهاجم شريعتي فكريًا وسياسيًا ويراه بأنه ليس عالم اجتماع بل شخصًا شعبويًا.
مواجه الشاه بالحقائق
وخارج قصر الشاه كان الشارع الإيراني يموج باضطرابات ومواجهات لا تهدأ في ظل هزات بدأت بالانقلاب على حكومة مصدّق، إلا أن قانون الإصلاح الزراعي لتوزيع الأراضي، الذي أسماه الشاه بـ"الثورة البيضاء"، ضم إلى المعارضة فئات أخرى من الشعب وانزلقت البلاد، نحو مواجهات مسلحة بين السلطة، وتنظيمات يسارية بداية سبعينيات القرن العشرين، مما أسهم في تأجيج موجة من الاضطرابات عمت أرجاء البلاد.
بقي الشاه ينكر دوره في تصعيد الأزمة، وأمام عجزه عن فهم أسباب الاحتجاجات ضده والتهم الموجهة إليه، طلب من نراغي أن يفسر ذلك.
قال نراغي: "سألني الشاه من أين يأتي هذا العصيان؟ من يدير المعارضة؟ من أطلق هذه الحركة الدينية؟"، فأجابه نراغي بقوله: "أنت نفسك يا جلالة الملك، فمنذ 15 سنة، قمت بزيارة المقام الديني في قم، وهاجمت علانية الزعماء الدينيين، ورفضت انتقاداتهم بخصوص الإصلاح الزراعي، وحق المرأة في الانتخاب، ووصفت موقفهم بالرجعي، واستعملت ألفاظًا مُهينة.. منذ ذلك اليوم التاريخي أثرت جلالتك حركة إسلامية عارمة، لقد أخبرني آية الله ميلاني، أن النظام الحالي يظهرنا بمظهر الرجعيين المتخلفين، فيما نحن مستعدون لإيجاد مبررات دينية لكل الإصلاحات التي يقوم به جلالته، لكن شرط أن يعرف الملك حدود امتيازاته.
يقول كامرافا: "خلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، شهدنا ظهور عدد من الجماعات التي تحاول معارضة الحكومة، منظمة مجاهدي خلق، منظمة فدائي خلق، ومجموعة ثالثة تشكلت من المثقفين من أمثال علي شريعتي وهم إسلاميو التوجه، والمجموعة الرابعة من رجال الدين، وعلى رأسهم الخميني".
وتوضح الصمادي، أن المحتجون في إيران كانوا يعتقدون، أن الشاه خائن وأنه عميل لأميركا، وكانت الشعارات تتحدث عن الجرائم التي يمارسها جهاز المخابرات الإيراني "سافاك"، والذي كان يرتكب فظائع تجاه المتظاهرين.
ويقول نراغي إن الشاه سأله قائلًا: "والمحرضون الأجانب، ألا تعتقد أنهم لعبوا دورًا في ذلك؟ لقد وصلتنا تقارير تفيد بأن منتقدي النظام يتلقون مساعدات مالية من الخارج" في إشارة للقذافي، وأجاب نراغي: "لسوء الحظ فهذه الحجج يرددها المحيطون بك الذين يرفضون مواجهة الواقع، الإسلاميون لا يحتاجون إلى المال من الخارج، أنت تعلم أن كل شيعي متدين عليه أن يهب خُمس عائداته، وهذه تذهب تبعًا لتوصية المرجع الذي يقلّده، يجب أن أقول إن علاقة حكمك بإسرائيل التي تزداد أواصرها قوة، دفعت الحركات الدينية للاقتراب من المناضلين الفلسطينيين، والدعوة إلى أممية إسلامية".
بقي الشاه طيلة فترة حكمه، مسحورًا بحليفه الأميركي، ومولعًا بتقديم الامتيازات الاقتصادية لحلفائه الدوليين، واستفز وجدان الإيرانيين بإقامة علاقة مباشرة مع إسرائيل، وتقديم حصانة للخبراء الأمريكيين في إيران.
كما انشغل الشاه في صناعة الصورة العصرية لنفسه ودولته، كما قاد موجة تغريب داخل المجتمع الإيراني، لكن حفلة برسبولس 1971 في ذكرى مرور ألفين وخمسمئة سنة على الملكية في إيران أثارت المزيد من الضجة حولها.
كانت هذه الاحتفالات تبث على التلفاز الرسمي في كل إيران، وفي ذلك الوقت كان الجزء الأكبر من الشعب غارقًا في الفقر، وكان التمايز كبيرًا بين الأغنياء والفقراء، وفي وقت رأى فيه النظام أن هذا الاحتفال هو دليل على وصول إيران إلى المسرح العالمي فقد رأى الشعب أن هذه الاحتفالات هي عرض للإسراف ومظهر آخر للفساد.
الهتافات تصل قصر الشاه
واصل نراغي خلال الأشهر التالية، تعريف الشاه، بواقع المجريات وأسبابها، ودفعه لاتخاذ الإصلاحات المناسية لتهدئة الشارع، ومنع الانهيار، لكن الإضرابات شلت النشاط الاقتصادي، وعجزت خطابات الشاه عبر الإذاعات، وتعيينه حكومة عسكرية عن وقف التهدور.
يقول نراغي: "أخبرت الشاه أن سائقي موظف في وزارة التعليم العالي، وقد قال لي حين كنا في الطريق "أتعتقد أن جلالته يعلم أني أتقاضى بعد عشرين سنة في الخدمة ألفًا وخمسمئة تومان"، وتوسل إلي أن أريك بطاقة راتبه، لكن الشاه لم يبدُ عليه أنه راغب في إمساكها في يده، لكنه أخذها وتفحصها، ثم قلت له "بهذا المبلغ يعجز المرء على استئجار شقة من غرفتين في الحي الجنوبي الفقير من طهران".
يشير كامرافا، إلى أن الناس تظاهروا ضد البطالة والقمع السياسي، وفي بعض الأحيان كانت القوات الحكومية ترد، وسط سقوط قتلى، ثم في الاحتجاجات يموت مزيد من الناس، وسط اتساع الاحتجاجات من مدينة إلى أخرى، ولكن بعد ذلك اكتشفنا أن الشاه كان مصابًا بالسرطان، لذا الشخص الوحيد القادر على اتخاذ الإجراءات اللازمة لم يكن حازمًا.
من قصر على روابي طهران، بات الشاه قادرًا على السماع بالهتافات المطالبة برحيله، ووصلت إلى حد المطالبة بالموت له.
حاول نراغي، أن يدفع الملك نحو خطوات جديدة للإصلاح، عبر كف أقاربه عن الاقتصاد الإيراني.
يقول نراغي: "كنت أتناول الغداء ذات يوم مع رئيس الحكومة أمير عباس هويدا، ورن جرس الهاتف، ثم أقفل الهاتف غاضبًا، حيث اتضح أن السيدة تطلب منه مبلغًا ضخمًا وقبل حلول المساء".
ويبيّن كامرافا، أن الشاه كان محاطًا بعدد من الأشخاص، الذين اشتهروا بفسادهم، وحين نشرت الوثائق عن شخصية الشاه ندرك أنه كان أقل فسادًا من أخته ودبلوماسييه.
نجح نراغي، في كسب ثقة الشاه، الذي تفاعل مع نصائحه والإفراج عن معتقلين سياسيين، وقاد وساطة بين المعارضة الداخلية والسلطة أفضت إلى إقالة الحكومة العسكرية التي عينها الشاه، وتشكيل حكومة وحدة وطنية ترأسها المعارض والوزير السابق في حكومة مصدّق، شابور باختيار.
ويؤكد كامرافا، أن الثورة وصلت إلى نقطة لم يكن باستطاعة الشاه فعل شيء تجاهها سوى الاستقالة والتنازل عن الحكم.
وبينما كان الشاه يخسر معركته في الشارع الإيراني وتنامي حراكهم، خسر أيضًا الصورة التي حاول ترسيخها لدى حلفائه الدوليين كحاكم عصري في الشرق الأوسط، في وقت كان الخميني يتواصل مع الإعلام الغربي منذ وصوله إلى فرنسا مطرودًا من العراق.
وهنا يحكي نراغي، كيف رد الفيلسوف الفرنسي سارتر على انتقادات الشاه له بالتدخل في الشأن الإيراني في حفل عشاء في باريس حضره نراغي.
ونجح القائمون على الثورة وفق ما تقول الصمادي، في ترسيخ تلك الصورة في الإعلام العالمي، بأنهم يقودون ثورة ضد شخصية قمعية مستبدة.
كان الشاه مندهشًا من موقف حلفائه الغربيين، إذ عبر لنراغي عن استغرابه من موقف الفرنسيين، واعتبر أنهم متناقضون في قبولهم لقيام ثورة على أساس ديني، وهم يتبنون العلمانية في بلادهم.
لقد بدا لدى الشاه جفاء الغربيين نحوه، وهنا يقول نراغي: "قال لي الشاه: "منذ أكثر من شهرين وجهت الجنرال طوفانيان لجلب رصاص مطاطي، فقال لي إن الأميركيين لا يملكونه، وإن الإنكليز يتلكؤون في تزويدنا به وأنا أتساءل هل يفضلون أن يسقط القتلى كل يوم في إيران وأن تتمكن بي بي سي من إيجاد مواضيع خارقة".
دولة الخميني
في 14 يناير/ كانون الثاني عام 1979، التقى نراغي بالشاه للمرة الثامنة في مكتبه، وكانا يدركان معًا أنه اللقاء الأخير، وأن الثورة لن تمنح الشاه فرصة جديدة للنجاة بنفسه.
كان الشاه يائسًا وقرر الرحيل عن بلاده، والتوجه إلى مصر حتى تهدأ الأوضاع، واستطاع الخميني طمئنة الغرب حول شكل الدولة المقبلة، وضمن عبرهم حيادية الجيش ليعود في مطلع فبراير/ شباط 1979 إلى بلاده قائدًا لثورة هزمت أقوى دكتاتوريات العالم حينها.
وواصل أنصار الخميني ثورتهم، حتى أسقطوا أركان حكم الشاه منتصف فبراير/ شباط 1979، واجتاحت البلاد أحكام إعدام المئات، وشهدت المرحلة اقتتال شركاء الثورة، وأمضى الآلاف منهم سنوات التالية في سجون دولة الخميني، وبين أولئك الضحايا كان نراغي، الذي اعتقل 3 مرات، وأمضى في السجن بين عامي 1979 - 1983 قرابة ثلاث سنوات في السجون، وحوكم بتهمة مساعدة الشاه ضد الثورة، لكنه حصل على البراءة من القاضي.