تبخرت 3.7 تريليون دينار عراقي ما يعادل 2.5 مليار دولار من خزينة وزارة المالية العراقية، في أكبر عملية اختلاس مالي شهدها العراق، فيما طغت أخبارها على مشاورات تشكيل الحكومة.
وفتحت هيئة النزاهة العراقية، تحقيقًا بسرقة المبلغ الضخم من أمانة الضرائب داخل مصرف الرافدين التابع للدولة، الذي هو عبارة عن عائدات ضريبية وجمركية سحبت من 5 شركات ما بين سبتمبر/ أيلول العام الفائت حتى أغسطس/ آب من العام الجاري.
فخلال 11 شهرًا من النهب وفق وكيل وزارة المالية، حولت الأموال المنهوبة إلى خارج العراق من باب الاستيراد التجاري، فيما غسل المصرف يده من أي تلاعب أو سرقة، مشددًا على أن دوره انحصر بصرف صكوك الهيئة العامة للضرائب من فروعه بعد التأكد من صحة صدورها، بحسب كتب رسمية.
وتحدثت هيئة النزاهة بلسان العالم في القضية، معلنة أن القضاء سبق واستدعى مسؤولين في وزارة المالية لاستجوابهم بخصوص الخرق الكبير، لتضيف أن التحقيق جارٍ في أزمة الأموال المسروقة، علمًا أن المتورطين يتوزعون بين العراق ودول أخرى، ومن هم في الداخل صدر في حقهم قرار منع السفر.
كما أصدر مجلس القضاء الأعلى مذكرات قبض بحق المشتبه بتورطهم، بينما تشير أصابع الاتهام إلى مسؤولية وزير المالية في حكومة مصطفى الكاظمي إحسان عبد الجبار الذي أعفي من منصبه وكلفت هيام نعمة بمهامه بالوكالة.
محسن المندلاوي النائب الأول لرئيس مجلس النواب، قال إن السرقة "لن تمر بسهولة ومن دون حساب"، فيما وصفت كتلة دولة القانون الحادثة بـ"الخيانة الوطنية والاستهتار بمافيا الفساد".
فساد حتى النخاع
وتستشري "مافيا الفساد" حتى النخاع في العمل السياسي والحكومي العراقي، إذ قالت مبعوثة الأمم المتحدة في العراق جنين بلاسخارت في إحاطتها أمام مجلس الأمن: "إن الفساد سمة أساسية في الاقتصاد السياسي في العراق وجزء من المعاملات اليومية".
فنادرًا ما خلت حكومة عراقية من قضية فساد أو فضيحة تهريب أموال، حتى أن هيئة النزاهة نفسها كانت قد أعلنت في تقريرها السنوي للعام الماضي تورط أكثر من 11 ألف مسؤول في قضايا فساد.
والحال تتكرر ومعها التعهدات الحكومية بمحاربة الفساد وتنظيف الدوائر الرسمية من الفاسدين، إلا أن الشيء الوحيد الذي يجري تنظيفه هو خزينة الدولة.
من المسؤول عن الفساد بالعراق؟
ومن بغداد، يرى خالد عبد الإله عميد كلية العلوم السياسية في جامعة المستنصرية، أن المنظومة السياسية في العراق بعد عام 2003 تتحمل المسؤولية الكبيرة في عملية الاتجاه نحو المحاصصة وتقاسم السلطة، والحديث عن ملفات الفساد في الإعلام دون أن يكون هناك إجراءات تحقيقية واضحة.
ويردف في حديث مع "العربي": "لدينا الكثير من الهيئات المستقلة المعنية في إطار التدقيق والرقابة مثل ديوان الرقابة وهيئة النزاهة ولجنة النزاهة البرلمانية، إلا أن معظم الإجراءات التي تتخذها لحد هذه اللحظة لم ترتق إلى مستوى عرضها بشفافية واضحة أمام الرأي العام العراقي. وهذه أيضًا مشكلة سياسية بمعنى أن بعض الأحزاب يدخل على خط هذه الحسابات".
كما يلفت عبد الإله إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي تسرق فيها المليارات من الشعب العراقي وفق معادلات سياسية واتفاقات حزبية، فمنذ عام 2003 وصلت قيمة الموازنات الاتحادية إلى أكثر من تريليون دولار في ظل هدر وسرقة من خلال الصرف غير المسؤول وغير المحسوب، على حد تعبيره.
ويلحظ عميد كلية العلوم السياسية أيضًا، أن مليارات الدولارات صرفت على سبيل المثال بقطاع الكهرباء، في حين لا يملك المواطن العراقي تغطية كهربائية كافية.
كيف سرقت أموال العراقيين؟
بدوره، يقول الكاتب الصحافي العبيدي هلال إن السرقة من القطاعات العامة أصبحت بمثابة "ثقافة وأسلوب حياة" للطبقة السياسية في العراق، وإن العملية الأخيرة تمت من خلال تحويل المبالغ من طريق تواطؤ عدة جهات في وزارة المالية والهيئة العامة للضرائب ومصرف الرافدين.
فيشرح من باريس، أن صرف الصكوك (الشيكات) لا يتم إلا بعد تمحيص وتدقيق مكثف حتى للمبالغ البسيطة، مستذكرًا في هذا الإطار سرقة مماثلة حصلت من عام 2012 حتى 2015 حيث تم تهريب 6.5 مليارات عن طريق الشركات والحسابات الوهمية.
وكل ذلك يؤكد على وجود تواطؤ في جميع الحكومات المتعاقبة، التي أثبت يومًا بعد يوم أنها كانت جزء من الفساد حيث صدرت التسهيلات من أعلى السلطات في الدولة العراقية، وفق العبيدي.
ملامح منظومة الفساد العراقية
أما معاذ أبو دلو من منظمة الشفافية الدولية، فيتطرق من برلين إلى ملامح منظومة الفساد المالي في العراق التي تتمثل بالمحاصصة والانقسام السياسي، وانتشار الفساد في جميع القطاعات، الأمر الذي أثر على النمو الاقتصادي ودمره.
ويلفت لـ"العربي" إلى أن المبالغ التي تهرب من العراق هي أكثر بكثير من المعلن عنها، مستشهدًا في هذا الإطار بحديث الرئيس العراقي الأسبق برهم صالح الذي كشف عام 2021 أن 150 مليار دولار إجمالي قيمة الأموال التي هُرّبت للخارج منذ عام 2003 لغاية 2020.
وعليه، يقول أبو دلو إنه على الشعب العراقي محاربة الفساد المستشري بنفسه من خلال إنشاء تحالفات ما بين المجتمع المدني والحكومة، لاقتلاع الفساد من جذوره.
كذلك، يذكر عضو منظمة الشفافية الدولية وجود مئات آلاف ما يسمى بـ"الموظفين الفضائيين"، إذ توجد هناك أعداد هائلة من الموظفين المدرجين في قطاعات مختلفة لا يمتلكون وظائف فعلية لكنهم يحصلون على راتب، أي أن هناك ملايين الدولارات التي تهدر.
فضلًا عن سوء الإدارة، والوساطة والمحسوبية، وتوظيف الأشخاص وفق انتماءاتهم السياسية وليس الكفاءة المهنية، وهذه كلها عوامل تغذي الفساد، بحسب أبو دلو.