أكّد المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الدكتور عزمي بشارة أنّ تضحيات الشعب الفلسطيني أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة من جديد، مشيرًا إلى أنّ هذه القضية هي قضية تحرر وطني، ولا يجوز تصويرها على أنّها صراع بين طرفين.
ورأى بشارة في حديث إلى "العربي"، ضمن التغطية المفتوحة للعدوان الإسرائيلي المستمرّ على قطاع غزة، أنّ الحديث الأميركي عن دولة فلسطينية لا يشير إلى إنهاء الاحتلال، مشدّدًا على أنّ "لا مفاوضات بين محتل ورازح تحت الاحتلال إلا بشرط مسبق هو إنهاء الاحتلال".
واعتبر أنّ إسرائيل تريد مواصلة عدوانها مهما كانت الضغوط الممارسة عليها، متحدّثًا عن أجواء من "الهستيريا الحربية" التي لا تزال تسيطر على إسرائيل، بعيدًا عن أيّ تفكير في الاحتلال وتبعاته، وهو ما رجّح أن يبدأ بالظهور في مرحلة لاحقة.
وفي حين جزم أنّ السلوك الإسرائيلي تجاه القدس والمسجد الأقصى لن يمرّ، وسيكون له تبعات، نبّه إلى أنّ المنطقة برمّتها لن تعرف استقرارًا من دون حل عادل للقضية الفلسطينية. ورفض التعامل مع قضية فلسطين كعبء يرمى على كاهل الفلسطينيين، وهو ما ثبت أنه لا يصلح.
ونوّه بشارة بالتضامن العالمي الآخذ في التوسّع مع فلسطين، معتبرًا أنه يتميز بالمثابرة والتنظيم. كما أكد أنّ الإجماع الفلسطيني لا يمكن أن يتحقق من دون حركة حماس، مشيرًا في الوقت نفسه إلى أن وجود شبكة مصالح واسعة يدفع كثيرين للتمسك بالسلطة ومسار أوسلو.
وإذ جدّد بشارة الدعوة إلى إعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية، التي قال إنّها أفرِغت تمامًا من مضمونها، انتقد ضمنًا قوى فلسطينية قال إنّها "ضالعة في عملية انتظار القضاء على حركة حماس"، بمجرد تصديقها على مفهوم "اليوم التالي" للحرب على غزة.
الأجندة الأميركية والخطط الإقليمية
من الأجندة الأميركية والخطط الإقليمية، انطلق الدكتور عزمي بشارة في حديثه إلى "العربي"، حيث استبعد وجود خطة مكتوبة، متحدّثًا عن مجموعة أفكار مطروحة، الهمّ الرئيسيّ فيها هو عودة مسار التطبيع مع إسرائيل، بمعزل عن نتائج الحرب الإسرائيلية على غزة.
وأوضح أنّ الأفكار التي تُطرَح لا تهتمّ عمليًا بوضع سكان قطاع غزة، ولا بمصير الشعب الفلسطيني في القطاع، وإنما تركّز على الاستراتيجيات الأميركية وعودة الترتيبات التي كانت جارية قبل الحرب.
لكنّه رأى أنّ مثل هذا الأمر لم يعد ممكنًا بتجاهل قضية فلسطين، مشدّدًا على أنّ تضحيات الشعب الفلسطيني أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة من جديد. واعتبر أنّ كل الحديث الجاري عن الدولة الفلسطينية لا يغيّر في الواقع كثيرًا، ولا سيما أنّه يفتقد لأيّ جوهر في الحقيقة.
وبالحديث عن الأفكار الأميركية المطروحة، لاحظ بشارة أنّ "لا حديث على وقف إطلاق النار ووقف الكارثة وعملية الإبادة الجارية في قطاع غزة"، كاشفًا أنّ بعض أوساط الإدارة الأميركية مهتمّة بهذه الطروحات، وتحديدًا مجموعة مجلس الأمن القومي بقيادة جيك سوليفان.
لكنّ ما لاحظه بشارة في هذا الإطار، هو "أننا لا نسمع ردود فعل عربية جازمة وحاسمة"، وكأنّ "مفهوم الاعتراف بدولة فلسطينية جاء بدلاً عن إنشاء أو إقامة دولة"، أو كأنّ المطروح هو "الاعتراف بدولة من دون أن تقوم هذه الدولة، وربما بدل أن تنشأ".
وقال بشارة: "هذا أمر يجب أن يُفضح ويجب أن يكون هناك ردود عربية واضحة، فالحديث يجب أن يكون عن إقامة دولة فلسطينية"، متسائلاً: "أين يُصرَف مثل هذا الاعتراف أساسًا؟".
الاعتراف بالدولة الفلسطينية
وذكّر بشارة بأنه كانت هناك مبادرات وخرائط طريق عدّة في موضوع الدولة الفلسطينية، لكنها لم تصل إلى نتيجة، بل إنّ الإسرائيليين يعارضون أن تُمنَح السلطة الفلسطينية منزلة دولة في الأمم المتحدة، ويعتبرونه تخريبًا للعملية السياسية الجارية.
أكثر من ذلك، أشار بشارة إلى أنّ المنطق الإسرائيلي يقوم على أنّ مثل هذا الأمر يفترض أن يكون تنازلاً إسرائيليًا كبيرًا تقابله تنازلات فلسطينية، بل يعتبر أنّ هذا الملف "تملكه إسرائيل"، ولا يجب أن يتدخل فيه أحد من المجتمع الدولي، بمعنى استفراد إسرائيل بالفلسطينيين.
وذكّر بشارة بأنّ الحديث عن الدولة الفلسطينية ليس جديدًا حتى على مستوى السياسة الأميركية، فقد ورد ذكر الدولة الفلسطينية في خارطة الطريق التي وضعها الرئيس السابق جورج بوش الابن، كما أنّ الرئيس السابق بيل كلينتون سار أيضًا في هذا الاتجاه، وكذلك فعل الرئيس السابق باراك أوباما الذي أدلى بعدّة تصريحات في هذا السياق.
لكنّ الجديد، وفق الدكتور بشارة، يكمن في "الاعتراف بهذه السلطة الفلسطينية كدولة"، فهذا يُعَدّ "إنجازًا" في منطق السلطة، لأنها تأخذ مكان الدولة في الأمم المتحدة ومن ثم يصبح بسط سلطتها لاحقًا على قطاع غزة مفروغًا منه لأنها الطرف الشرعي دوليًا.
وقال إنّ هذا الأمر قد يعطيها أدوات لتمثيل أفضل وللادعاء أنّ فلسطين منطقة محتلة، لكن بشرط أن يأتي الاعتراف بها في حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، مضيفًا: "هذا ليس إنجازًا عظيمًا، ولكن على الأقلّ يعطيك أدوات، إلا أنّ ما يُطرَح الآن ليس هذا، ولذلك أعتقد أن ما يُطرَح لا معنى له".
أين أصبحت مفاوضات تبادل الأسرى؟
وتوقف المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عند التطورات المتعلقة بالمفاوضات حول تبادل الأسرى، فلفت إلى أنّها لا تتقدم لأن دولة الاحتلال ترفض فكرة وقف إطلاق النار وترفض فكرة الانسحاب من قطاع غزة بعد وقف إطلاق النار.
وأوضح بشارة أنّ إسرائيل مصرّة على أن تواصل إطلاق النار إلى أن تحقّق أهدافها، كما أنها تنوي أن يكون لها تواجد في القطاع بعد هذه الحرب بمعنى تطبيق نموذج الضفة الغربية بعد أوسلو، وهي ترفض كلّ الكلام عن المسجد الأقصى أو عن وضع السجناء.
وفي حين تحدّث عن خلافات حول طول مدة الهدنة وعلى الأسرى الذين سيتمّ الإفراج عنهم، لفت إلى أنّ الجديد في اقتراحات إسرائيل أنهم أصبحوا أكثر تساهلاً في قضايا المساعدات، كاشفًا في هذا السياق أنّهم كانوا مستعدين أن يصلوا لحد 500 شاحنة في اليوم وأن تصل حتى إلى الشمال في المرحلة الأولى.
وأشار إلى أنّ الجديد أيضًا أنّ الإسرائيليين طرحوا فجأة احتمال عودة الناس إلى بيوتهم في وسط وجنوب قطاع غزة، معتبرًا أنّ هذا الأمر له علاقة بغزو رفح، ولو ظهر وكأنه تنازل، مشدّدًا على أنّ الهدف منه تفريغ رفح.
وفي المجمل، تحدّث بشارة عن تعنّت إسرائيلي تام بموضوع عدم الموافقة على وقف إطلاق النار، لكنه لفت إلى أنّ ذلك لا يعني أنّ الأمور غير خاضعة للتفاوض، قائلاً: "ستجري مفاوضات لكن حتى الآن الأمر متعثر".
نتنياهو يبحث عن "إنجاز عيني"
ولفت بشارة إلى أنّ الصفقة التي تجري المفاوضات بشأنها تتألف من 3 مراحل، يفترض أن يحصل الانسحاب من قطاع غزة بموجبها في المرحلة الثانية. ومع أنّه لا يوجد ضمان لوقف إطلاق النار في الصفقة، فإنّ بشارة لفت إلى أنّه إذا لم يطبَّق يبقى هناك أسرى بيد حماس فهي لن تطلق سراح الجميع قبل المرحلة الثالثة.
ولفت إلى أنّ ما يسعى إليه الإسرائيلي هو تحقيق "إنجاز عيني"، لا تكون حركة حماس بموجبه قادرة على إدارة قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، ويتيح له القول إنّ كتائب القسام تضرّرت، مشدّدًا على أنّ الإسرائيليين "يكذبون كثيرًا" في الحديث عن المعطيات الميدانية.
وفي حين أكد بشارة أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يزال خاسرًا على المستوى السياسي، لفت إلى أنّ وضعه السياسي الانتخابي يتحسّن كلما طال الوقت، بسبب أوضاع الحرب، "لأنه هو الذي يقود الحرب وهو الذي ينصب الفخاخ لمعارضيه، كما يبدو أكثر تشدّدًا ويحاول أن يعزل أهالي الأسرى، وقد أحدث بالفعل الشقاق بينهم".
وقال بشارة إنّ نتنياهو يحاول أن يصوّر نفسه على أنه من يستطيع أن يقول لا للولايات المتحدة في موضوع الدولة من دون أن يخسر دعمها، لكنّه شدّد على أنّ كلّ الأطراف في إسرائيل لا يزالون متفقين بشكل أو بآخر على مواصلة الحرب وعدم إيقافها.
وبالحديث عن التهديدات الإسرائيلية حول رفح، أعرب بشارة عن اعتقاده بأنّها جدية، وبأنهم سوف يدخلون رفح، لكنه وضعها في الآن نفسه في إطار الضغوط لتقدم حركة حماس تنازلات، مضيفًا: "يعملون على كل المستويات للضغط على الشعب الفلسطيني ليضغط على حماس".
وشدّد على أنّ إسرائيل تتنصّل حتى من الاقتراحات التي تمّت بلورتها في باريس وكانت موافقة عليها، وأنّها مصرّة على مواصلة الحرب مهما كانت الضغوط الممارَسة عليها، مضيفًا: "لن يتوقفوا إلى أن يقولوا إنّهم وضعوا أقدامهم في كل بقعة من غزة على الأقل مرة أو مرتين".
واستهجن بشارة في سياق متصل، مواقف بعض القادة الدوليين المؤيدين لإسرائيل وبينهم المستشار الألماني، الذي يقول إنه يدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، أي أنه يدعم الحرب، ولكن مع السماح بالإغاثة الإنسانية ومع احترام القوانين الدولية، وهو يدرك أنّ إسرائيل لا تسمح بذلك، وبالتالي فإنّ "مثل هذه التحذيرات هي عملية خداع وغش للرأي العام وللشعوب".
هل أحدثت 7 أكتوبر تغيّرًا في الوعي الجمعي الإسرائيلي؟
وفي سياق الحديث عمّا تغيّر داخل إسرائيل على وقع الحرب، لفت بشارة إلى أنّ الضغوطات على نتنياهو ثبت أنّها ليست كافية، طالما أنه قادر على الحفاظ على وحدة كابينت الحرب.
وأشار إلى أنّ استطلاعات الرأي، على تفاوتها وفق الجهة التي تجريها، تتقاطع على وجود أغلبية ساحقة تؤيد استمرار الحرب، وترفض السماح بعودة حماس لإدارة قطاع غزة، بل أغلبية ساحقة تريد منع دخول المساعدات إلى القطاع المُحاصَر.
وفيما اعتبر بشارة أنّه لا يوجد تأثير حقيقي في هذا الشأن حتى الآن، أشار إلى أنّ الجديد هو أن المطالبة بتحرير المحتجزين والرهائن اختلطت مع مطلب الانتخابات، علمًا أنّ بعض الشخصيات كانت عمليًا تطرح ذلك في بداية الحرب،
وتحدّث عن تراكم نقمة على نتنياهو بسبب محاولات الإصلاح القضائي الذي يقلل من صلاحيات المحكمة العليا، إلا أنّه اعتبر أنّ أجواء الحرب تتغلب عليها.
وردًا على سؤال حول ما إذا كانت أحداث 7 أكتوبر أحدثت تغيّرًا في الوعي الجمعي الإسرائيلي، قال بشارة إنّ هذا الأمر لا يزال مبكرًا، فالإسرائيليون لا يزالون تحت وقع الصدمة والانتقام، وهم لم يشبعوا بعد من الدم الفلسطيني لاستعادة التوازن وما يسمونه هيبة الردع.
وأعرب عن اعتقاده بأنّ الشعب الإسرائيلي لا يزال يتصرف كقبيلة، وهو مندفع تمامًا ومضلَّل إلى حدّ بعيد، حيث استُخدِمت كل الذاكرة التاريخية والأساطير والأضاليل التي تمّ استحضارها مجدّدًا بشكل بشع للغاية، على حدّ وصفه.
وانطلاقًا من ذلك، رأى أنّ الأجواء العامة في إسرائيل ما زالت أجواء هستيريا حربية، وفي مثل هذه الأجواء لا يحصل نقد حقيقي، مرجّحًا أن يبدأ الحساب الجماعي للذات في وقت لاحق، خصوصًا حول كل ما جرى في المرحلة السابقة من حصار غزة إلى تجاهل التحذيرات حول توسيع الاستيطان وتدنيس الأقصى.
وقال: "هذا كله الآن لا يجري الحديث عنه، إذ يعتبرونه تبريرًا لـ7 أكتوبر، لكنّ هذا سيأتي لاحقًا". وشدّد على أنّ السلوك الإسرائيلي تجاه القدس والمسجد الأقصى لن يمرّ، وسيكون له تبعات، موضحا أنّ إسرائيل تعيد احتلال الضفة عمليًا، ومتحدّثًا عن "قصر نظر" في هذا السلوك.
الموقف الرسمي العربي من قضية فلسطين تاريخيًا
إلى ذلك، قدّم المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في حديثه لـ"العربي" عرضًا مفصّلاً للموقف الرسمي العربي من قضية فلسطين، اختصره بالقول إنّ العرب ضيّعوا فرصًا لمحاربة إسرائيل عام 1967 وليس للسلام مع إسرائيل.
وأكد أنّ العرب لم يضيّعوا أيّ فرصة للسلام، بل إنّ الطرف الآخر هو الذي رفض كل المبادرات والأفكار منذ البداية، مشيرًا في هذا السياق، إلى أنّ تشريد اللاجئين الفلسطينيين حصل قبل دخول الجيوش العربية إلى فلسطين، وبالتالي فإنّ الإسرائيليين هم الذين بدأوا الحرب.
ولفت إلى أنّ كل المبادرات الأميركية للسلام وافق عليها العرب، لكنّ إسرائيل هي التي رفضتها في المقابل، وآخرها خارطة الطريق التي طرحها جورج بوش الابن، فوضع عليها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون 14 تحفظًا وأفرغها من مضمونها، فيما وافق عليها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بلا تحفّظ، فكانت النتيجة أنّ عرفات هو الذي قُتِل، في حين أعلِن شارون "بطل السلام" في شرم الشيخ.
وإذ لاحظ بشارة أنّ إسرائيل لم تطرح أي مبادرة سلام تاريخيًا، ذكّر بمبادرة السلام العربية التي طرحتها كل الدول العربية، وحتى عندما رفضتها إسرائيل، بدأ العرب يجرون بعض التعديلات عليها، لتحوز على إعجاب إسرائيل وقبولها.
وخلص إلى أنّ العرب ذهبوا أبعد من اللزوم ليرضوا الطرف الآخر وهم مستمرّون بتقديم التنازلات، موضحًا أنّ بعض الدول العربية تنازلت حتى عن مبادرة السلام العربية، وطبّعت علاقاتها مع إسرائيل من دون حلّ قضية فلسطين.
الإجماع الفلسطيني لا يتحقق من دون حركة حماس
ولفت بشارة إلى أنّ النظام الرسمي العربي وليس الشعوب ابتعد عن خيار الحرب منذ اتفاق السلام الإسرائيلي المصري الذي أبرم بشكل فردي، موضحًا أنّه "منذ كامب ديفيد خيارات الحرب أصبحت محصورة بالمقاومة أي الحرب غير المتكافئة".
وقال: "الدول العربية تنتظر لأن خيارها سلام مع إسرائيل من دون حل القضية الفلسطينية، لكن يجب أن تتوقف هذه اللعبة، لأنّ قضية فلسطين ليست فقط قضية عادلة وإنما قضية العرب أجمعين وهذا رأي الشعوب العربية"، مشدّدًا على أنّ أي استقرار في المنطقة لا يمكن أن يحصل من دون حل عادل للقضية الفلسطينية.
واستغرب بشارة "التعامي" عن هذا الموضوع بهذا الشكل، مشدّدًا على أنه "ليس معروفًا يصنعونه للفلسطينيين"، فهذه "قضية استراتيجية ووجودية تهمّ كل الشعوب العربية".
وانتقد ضمنًا تصريح وزير الخارجية المصري سامح شكري في منتدى ميونخ للأمن حين قال إن حركة حماس خارج الإجماع الفلسطيني وإن من ساعد على تقويتها ودعمها في غزة يجب أن يُحاسَب، معتبرًا أنّه خاطئ ومسيء وليس له مكان إطلاقًا.
وشدّد بشارة على أنّ الإجماع الفلسطيني هو إجماع القوى الوطنية الفلسطينية وهو غير ممكن من دون حركة حماس، ولا سيما أن الأخيرة هي من القوى الوازنة شعبيًا. وإذ لفت إلى أنّ بعض الأنظمة الحاكمة في الدول العربية تختصر الإجماع بالأنظمة، لفت إلى أن ذلك لا يمكن أن يسري على فلسطين، "فمن يعتبرونه إجماعًا هو ليس نظامًا حاكمًا حتى، وإنما سلطة لا تمون على الأرض".
وقال: "الإجماع الوحيد الممكن هو الإجماع الشعبي الوطني الذي تكون حماس جزءًا منه، وهو لا يمكن أن يكون في إطار السلطة القائمة حاليًا"، معتبرًا أنّه "من الأفضل أن تكون هذه الوحدة في إطار منظمة التحرير".
القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي
إلى ذلك، توقف الدكتور عزمي بشارة عند استبدال مصطلح "الصراع العربي الإسرائيلي" بـ"الصراع الفلسطيني الإسرائيلي" في العديد من الأوساط، معربًا عن أسفه لكون بعض العناصر في السلطة الفلسطينية نفسها بدأوا باستخدام هذا التعبير.
ورأى بشارة أنّ الصراع العربي الإسرائيلي تآكل بالتدريج نتيجة لاتفاقيات السلام المنفردة مع إسرائيل سواء في الحالة المصرية أو غيرها، حتى أصبح بالإمكان ألا يُستخدم التعبير ولو كان لا يزال قائمًا على مستوى الشعوب.
لكنه رفض بالمطلق أن يقال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وكأنّه صراع بين طرفين يملكان نفس الحق على نفس الأرض، قائلاً: "هكذا يحب اليسار الصهيوني أن يعرّفه أن هناك صراعًا بين طرفين يتنازعان على الأرض ولهما نفس الحق عليها وهذا مرفوض".
وشدّد على أنّ هناك قضية تحرر وطني اسمها القضية الفلسطينية، وهذا ما يجب أن يتكرّس، معتبرًا أنّ الهدف من الحديث عن صراع فلسطيني إسرائيلي واضح، وهو التعامل مع قضية فلسطين كعبء يرمى على كاهل الفلسطينيين وهذا ما أثبتت غزة أنه لا يصلح.
وفيما تساءل "كيف يمكن أن يبقى العرب متفرّجين فيما العالم كله اليوم منشغل بفلسطين"، نوّه بما وصفه بـ"توسّع كبير في التضامن العالمي" مع فلسطين، معتبرًا أنّ هذه الحالة تتميز بالمثابرة والتنظيم، وقد بدأت تتمأسس لناحية الأجيال التي تخرج.
ولفت بشارة إلى أنّ هذا الحراك يذكّر بعض الشيء بالحركة العالمية ضد الفصل العنصري، ولو أنّه لم ينظّم تمامًا على هذا المستوى، قائلاً: "يجب أن تصل إلى هذا المستوى من ناحية رقيّ الخطاب ومن ناحية المؤسسات والتنظيم وشمولها فئات واسعة من المجتمع".
وفي السياق، أشاد بشارة برفع العلم الفلسطيني ضمن المظاهرات التي تجري في العواصم والمدن الغربية، لكنه اعتبر أنّ ما ينقص المشهد هو أن تُرفَع أعلام الدول التي ينتمي إليها المتظاهرون للدلالة على أنهم يتظاهرون كمواطنين وليس فقط كفلسطينيين.
السياسة الفلسطينية في المرحلة الحالية
وفي المحور الأخير من الحلقة، ناقش المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، السياسة الفلسطينية في المرحلة الحالية، انطلاقًا ممّا هو إيجابيّ، في إشارة إلى أداء الشعب الفلسطيني، الذي وصفه بالأداء العظيم، اذي أظهر قدرة هائلة على تحمل الشدائد والصبر.
وأوضح أن أداء الشعب الفلسطيني الذي تحمل ما لم تحمله الجبال ترفع له القبعة، لكنّه رأى أنّ أداء القوى السياسية الفلسطينية في المقابل لا يزال محدودًا، مستثنيًا من هذا النقاش أداء قوى المقاومة، "التي لا نستطيع الحديث عنها، فهي منخرطة في القتال وتحت القصف من كل اتجاه". وجدّد القول إنّ أداء المقاومة أثار دهشة العالم كله، إن لم يكن إعجابه، وإنّ إسرائيل نفسها متفاجئة من قدرة هذه المقاومة على الصمود.
أما على مستوى السياسة الداخلية، فرأى بشارة أنّ المشكلة تكمن في ضرورة إقامة مرجعية موحدة للشعب الفلسطيني، قائلاً: "بيع الوهم لجزء من القيادات الفلسطينية أنهم سلطة وتصرفوا كسلطة ونسوا فكرة التحرر الوطني وهمشوا منظمة التحرير وحوّلوها إلى دائرة تفاوضية في إطار السلطة الفلسطينية وعمليًا أفرغوها من قواعدها الشعبية وعزلوها عن قواعدها الشعبية".
وفيما لفت إلى أنّه لا يوجد إطار فعليّ يجمع الشعب الرازح تحت الاحتلال، قال: "هذا قد يبدو للبعض ترفًا، لكن في مرحلة مثل الحرب الوجودية التي تشن على الشعب الفلسطيني أصبح موضوعًا مصيريًا لأنه إذا كان هناك طرف يُضرَب ويُقتَل ويُسجَن وطرف آخر ينتظر القضاء على الطرف الأول، لا يعود هذا شعبًا واحدًا ويصبح هناك شرخ حقيقي يصعب جمعه في إطار وطني وبالتالي يصعب الحديث عن كيانية فلسطينية".
وحذر من أنّ مثل هذه الوضعية من شأنها أن تسهّل على إسرائيل تمرير فكرة السلطة المدنية التابعة لها في الضفة وغزة، لتتلاشى معها فكرة الاستقلال والدولة لأن قوى المقاومة هي التي تعتبر خصمًا عند هذا الطرف الذي يرشح لنفسه ليدير القيادة المدنية، مضيفًا: "عندها، يصبح من الصعب أن تواجه العالم بفكرة العدالة والاستقلال طالما أن هناك طرفًا يتعاون، وهذا خطير".
"تمايز" بين السلطة الفلسطينية وحركة فتح
وشدّد بشارة على أنّ الحلّ الوحيد هو إيجاد قيادة موحدة بين جميع القوى الفلسطينية وعزل هذه النزعة الموجودة لدى البعض، ملمّحًا في الوقت نفسه إلى "نوع من التمايز بين السلطة وبين حركة فتح" بدأ بالظهور في المفاوضات التي جرت في الجزائر.
وذكّر بأنّ اتفاقًا حصل يومها بين وفدي فتح وحماس على فكرة القيادة الموحدة في إطار منظمة التحرير، ولم يبقَ سوى التوقيع، ثم جاء وفد السلطة ونسف كل شيء. واعتبر أن هذا التمايز بين السلطة وحركة فتح ضروري أن يتعمق لنحصل على وحدة وطنية بين حركة فتح وحماس وبين جميع قوى الشعب الفلسطيني في إطار واحد يحبط المحاولات الجارية حاليًا لإقامة سلطة مدنية في قطاع غزة هي في الواقع سلطة أمنية مرتبطة بإسرائيل وبالتالي إعادة تكرار أوسلو جديد لـ30 عامًا آخر.
وجدّد بشارة القول إنّ منظمة التحرير أفرِغت من مضمونها تمامًا، فمنذ أن اجتمعت في غزة لتغيير الميثاق الوطني لم يجتمع المجلس الوطني، كما تمّت تصفية كل مؤسسات الخارج الفلسطيني، لتتحوّل المنظمة إلى دائرة مفاوضات في السلطة الفلسطينية.
وإذ رأى أنّ إعادة إحياء منظمة التحرير أمر ممكن، تساءل إن كانت حركة فتح ستضع يدها في يد قوى المقاومة لإعادة بناء مرجعية سياسية في إطار منظمة التحرير وتمييزها عن السلطة الفلسطينية.
لكنّ بشارة شدّد على وجوب ألا يكون لدينا أوهام في هذا السياق، ملمّحًا إلى وجود "أطراف فلسطينية ضالعة في عملية انتظار القضاء على حركة حماس". وانتقد ضمنًا كل السلوك منذ بداية الحرب، الذي لا يوجد فيه تضامن حقيقي، حتى إنه لم يحصل تواصل حقيقي ولو لمرة واحدة على المستوى الرسمي.
وفي الختام، أشاد بشارة كذلك بالدور الذي يلعبه المجتمع المدني الفلسطيني الذي وصفه بـ"الفاعل جدًا" حتى في قطاع غزة، ملاحظًا أنّ جزءًا كبيرًا من قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي بشأن الإبادة الجماعية يستند إلى تقارير مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية.
وقال: "أكثر من 50 مؤسسة أهلية فاعلة الآن في قطاع غزة في هذه الظروف، وهناك محاولات هائلة في الشتات أيضًا، كما أنّ جزءًا أساسيًا من الاحتجاجات في الولايات المتحدة وأوروبا يقف خلفها فلسطينيون منتشرون في الخارج".
تجدون في الفيديو المرفق المقابلة الكاملة مع الدكتور عزمي بشارة، التي حاوره فيها الزميل وائل التميمي، وناقشت مجموعة من المحاور بينها الأجندة الأميركية والخطط الإقليمية، وماذا تغيّر داخل إسرائيل على وقع الحرب، والموقف العربي الرسمي من قضية فلسطين تاريخيًا، إضافة إلى السياسة الفلسطينية في المرحلة الحاليّة.